حمام بورقيبة التونسية حين يمتزج سحر الطبيعة بمتعة الاستشفاء بالمياه العذبة
تونس ـ «القدس العربي»: حمام بورقيبة تلك القرية الجبلية الساحرة والآسرة للقلب والروح تقع في الشمال الغربي للبلاد التونسية وتحديدا في ولاية جندوبة التي تمتاز بطبيعتها الغناء التي تطغى عليها الجبال الغابية كثيفة الأشجار وينابيع المياه الصافية والأراضي الفلاحية الخصبة إضافة إلى البحر من جهة مدينة طبرقة فينيقية المنشأ. ولا تبعد الأخيرة عن حمام بورقيبة سوى 32 كيلومترا باتجاه الشمال فيما لا تبعد مدينة عين دراهم عن حمام بورقيبة سوى 17 كيلومترًا باتجاه الشرق لتشكل هذه القرى والمدن مع بعضها درر جبال خمير المنثورة عليه كاللؤلؤ المكنون.
وللوصول من العاصمة التونسية إلى حمام بورقيبة البعيد يعبر المرء طريقا طويلا يشق من خلاله المروج الخضراء والأراضي الزراعية السقوية وبيادر القمح التابعة لولاية باجة المعروفة بخيراتها الغذائية. وبمجرد تجاوز مدينة جندوبة يقتحم المرء جبال خمير فيتغير المشهد من سهلي فلاحي إلى جبلي غابي لكن اللون الأخضر الذي عرفت به تونس الخضراء يبقى هو الطاغي في الحالتين والغالب على المشاهد الجميلة التي يستمتع بها المسافر على طول الطريق المؤدي إلى حمام بورقيبة عبر باجة وجندوبة وعين دراهم وببوش.
وتتميز حمام بورقيبة بطقس استثنائي منعش في فصل الصيف التونسي الحار، حيث تقل درجات الحرارة في تلك الربوع الجبلية الغابية المرتفعة، عن مثيلاتها في الأراضي السهلية، فيقصدها التونسيون والأجانب هربا من لهيب الشمس الحارقة وكذلك الأندية الرياضية المحترفة، المحلية والأجنبية، للإعداد للموسم الرياضي. وتعرف حمام بورقيبة ومحيطها في فصل الشتاء انخفاضا كبيرا في درجات الحرارة، يقل عن المعدل العام المسجل في باقي مناطق البلاد، فتسقط الثلوج، ويكسو الغابات الجميلة غطاء أبيض من هذا الضيف الشتوي يزيد المنظر جمالا وبهاء فتتحول المنطقة برمتها إلى لوحة فنية فريدة من تشكيل أنامل مبدعة.
سحر الطبيعة
وتتميز منطقة حمام بورقيبة بغاباتها الجبلية الجميلة والساحرة التي تتضمن أنواعا عديدة من الأشجار منها الصنوبر والفلين والفرنان والزان وأنواعا عديدة أخرى تضفي على الغابة رائحة عذبة قيل أن استنشاقها مفيد للصحة. كما توجد بالمنطقة شجرة الزان المقلوب، وهي شجرة جاءت حصيلة تفاعل بين شجرتي الفرنان والزان وهو ما أنتج شجرة ثالثة فريدة جمعت بين النوعين في آن واحد ما جعل البعض يعتبرون ذلك إعجازا طبيعيا أنعم الله به على هذه الجنة الأرضية التونسية.
كما تتوفر المنطقة على شجيرات ونباتات كثيفة باعتبار وفرة التساقطات من ثلوج وبرد وأمطار غزيرة تساعد على وفرة الغطاء النباتي الذي اتخذته المقاومة التونسية خلال الفترة الاستعمارية ملاذا للاختباء وللكر والفر في عملياتها ضد المستعمر. ومن أشهر شجيرات غابة حمام بورقيبة الريحان والياسمين البري والأرنج وغيرها. وتوجد أسفل هذه الشجيرات نباتات غابية جبلية مثل الإكليل والزعتر والعود الأحمر وغيرها مما تنبت الأرض في تلك الربوع الخلابة.
وتعج غابات حمام بورقيبة بأنواع كثيرة من الحيوانات، وذلك رغم انقراض الأسد البربري والنمر والقرد وحيوانات أخرى منذ عقود بعيدة، وهي حيوانات كانت تتخذ من تلك الربوع موطنا لها ملائما للعيش والتكاثر. ومن هذه الحيوانات التي لم تنقرض، الخنازير البرية التي يأتي السياح الأجانب لاصطيادها في موسم خاص والذئاب والثعالب والسلاحف البرية وحتى الزواحف من الثعابين والأفاعي وغيرها.
كما تعتبر الغابات المحيطة بحمام بورقيبة بيئة مناسبة لتكاثر النسور والصقور في أعالي الجبال وغيرها من الطيور الجارحة وغير الجارحة القارة التي تتخذ من جبال خمير موطنا لها على مدار السنة. كما تزور سنويا طيور مهاجرة تلك الغابات الباسقة وارفة الظلال وهي عديدة ومتنوعة وتجد في منطقة حمام بورقيبة ومحيطها الملاذ الآمن موسميا والملائم لعيشها مرحليا.
مياه عذبة
وتشهد هذه الجنة الأرضية تساقطات هامة من الأمطار خلال فصلي الخريف والربيع وهو ما يدعم المائدة المائية مع الثلوج التي تذوب وتنساب مياها عذبة مع المنحدرات الجبلية فتزيد المشهد روعة. وتؤدي كثر التساقطات إلى تغذية العيون المائية التي تشتهر بها منطقة حمام بورقيبة والمناطق المجاورة على غرار عين دراهم وبني مطير وعين سلطان وغيرها.
وتشتهر حمام بورقيبة أيضا بمياهها المعدنية الكبريتية الحارة والتي تستخدم للعلاج وهو ما جعل الدولة التونسية تؤسس فيها خلال فترة حكم الرئيس بورقيبة محطة استشفائية كانت تتبع ديوان المياه المعدنية التابع لوزارة السياحة. لكن المحطة تحولت اليوم إلى فندق سياحي يتبع سلسلة فنادق تونسية شهيرة بعد أن تمت خصخصة المحطة خلال فترة حكم الرئيس بن علي. وتتوفر المحطة أيضا على ملاعب رياضية تستغلها الأندية والمنتخبات لإجراء معسكراتها التدريبية في أعالي الجبال وقد كانت بطلة التنس العالمية التونسية أنس جابر من بين الرياضيين الذين أجروا تحضيراتهم بمحطة حمام بورقيبة.
وانتشرت السدود في محيط حمام بورقيبة خصوصا في بني مطير مستغلة منابع المياه الصافية لتتشكل بحيرات جميلة وسط الجبال الشاهقة تطوقها الغابة الخضراء في مشهد رائع يزيده بهاء الكساء الأبيض الثلجي في فصل الشتاء. كما انتشرت بيوت القرية بقرميدها الأحمر وسقفها المثلث الذي تنساب منه الثلوج ومياه الأمطار ولا تعلق به لتؤكد على أن التنوع المعماري هو السمة البارزة في تونس حيث تختلف العمارة من منطقة إلى أخرى حسب الظروف الطبيعية والطقس الغالب على المنطقة.
لقد كان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة يذهب للتداوي في محطة استشفائية في سويسرا حين اشتد به المرض وهو ما كلف الدولة مصاريف إضافية، لذلك قرر الزعيم الراحل إنشاء محطة استشفائية في تونس شبيهة بالمحطة التي كان يقصدها للعلاج في سويسرا وفي مكان تشبه تظاريسه ومناخه الريف السويسري. فكانت حمام بورقيبة هي المنطقة التي تتوفر على المياه المعدنية المطلوبة وعلى تضاريس وطبيعة شبيهة بالتضاريس والطبيعة السويسرية فتم إنشاء المحطة التي سميت حمام بورقيبة وحملت القرية بدورها التسمية ذاتها.
تاريخ حافل
ينتمي سكان حمام بورقيبة في أغلبهم إلى قبائل خمير التي استوطنت تلك الربوع منذ القديم من أرض تونس ورسخت فيها رسوخ الأشجار الباسقة في تلك الغابات الجميلة وارفة الظلال. ويكفي القول بأن قبائل خمير هي أول من تصدى للاستعمار الفرنسي عند دخوله من الجزائر إلى الأراضي التونسية سنة 1881 بغاية احتلال المملكة التونسية أسوة بالجزائر التي مضى على استعمارها في ذلك الوقت أكثر من خمسين عاما.
كما عرفت منطقة جبال خمير التي تقع فيها قرية حمام بورقيبة ازدهارا لافتا خلال الفترة القرطاجية حيث كانت أخشاب أشجارها تستغل في صناعة السفن محليا ويتم أيضا تصديرها إلى الخارج. وقد لعب ميناء مدينة طبرقة القريبة من المنطقة التي تقع فيها اليوم قرية حمام بورقيبة دورا بارزا في شحن الخشب ونقله سواء للتصدير أو لمدينة قرطاج عاصمة الحكم لاستغلاله في أغراض عديدة ومنها صناعة السفينة القرطاجية الشهيرة التي استطاعت الإبحار في المحيط الأطلسي خلافا لسفن الإغريق والرومان.
ويؤكد البعض على أن الرومان الذين ورثوا حضارة قرطاج وسطوا على إرثها في كل المجالات ونسبوه إلى أنفسهم، استغلوا المياه المعدنية التي تتميز بها المنطقة في التداوي والاستشفاء. وكانت مدينة بلاريجيا غير البعيدة عن المنطقة التي تقع بها قرية حمام بورقيبة اليوم، هي قاعدتهم لاستنزاف ثروات جبال خمير ونقلها إلى روما ولاستغلال المياه المعدنية المشار إليها في التداوي والاستحمام.
ولم تحظ المنطقة بالاهتمام اللازم خلال الفترة الإسلامية وهو ما يؤكده غياب آثار إسلامية تعود إلى الفترة التي كانت فيها ولاية أفريقية (تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا) تحت الحكم الأموي والعباسي، أو حينما أصبحت أفريقية وعاصمتها القيروان التونسية دولة مستقلة وحكمها الأغالبة ثم الفاطميون فالصنهاجيون. كما لم يتحدث التاريخ عن استقرار غزاة قبائل بني هلال وبني سليم في منطقة جبال خمير ولا عن اندماجهم مع قبائلها مثلما حصل في مناطق تونسية أخرى بعضها قريب من تلك الربوع التي يقع فيها حمام بورقيبة.
كما لم يأت المؤرخون على ذكر منطقة جبال خمير خلال فترة حكم الموحدين والحفصيين والعثمانيين والمراديين، إلى أن حكم الحسينيون بداية من سنة 1701 ودخلوا في صراعات مع دايات الإنكشارية العثمانيين في الجزائر الذين مثلوا أداة الباب العالي لتأديب تونس «المارقة» التي استقلت باكرا عن الأستانة وأسست مملكتها واتخذت رايتها الخاصة المعتمدة إلى اليوم. ومع هذه الصراعات برزت أهمية الشمال الغربي وخصوصا مدينة الكاف وربوع جبال خمير باعتبارها متاخمة للأراضي الجزائرية فباتت حصونا دفاعية بوجه انكشارية بني عثمان في الجزائر كما كانت تلك المناطق أيضا خط الدفاع الأول عن تونس سنة 1881 بوجه الاستعمار الفرنسي الذي جاء من الجزائر التي كان متواجدا بها منذ سنة 1830 وزحف على الأراضي التونسية وحصلت معارك قاسية وضارية وسقط فيها شهداء من أبناء تلك المناطق.
أنشطة متعددة
يتعاطى المواطنون في حمام بورقيبة النشاط الفلاحي وتحديدا الفلاحة السقوية باعتبار وجود مياه سطحية هامة تشجع على الزراعة والإنتاج رغم ندرة الأراضي الصالحة للزراعة باعتبار غلبة المشهد الغابي والتضاريس الجبلية الوعرة. وتعتبر المنطقة السقوية بحمام بورقيبة من أهم المناطق السقوية بولاية جندوبة باعتبار امكانية تطوير إنتاجها ليغطي حاجيات الولاية من الخضر المتميزة في جودتها باعتبارها تنبت في أراض غابية خصبة وتسقى بماء زلال شديد الصفاء وشديد الغنى بالأملاح المعدنية.
كما يعمل سكان حمام بورقيبة في الأنشطة الحرفية التي يقبل عليها زوار القرية وأيضا زوار المحطة الاستشفائية الباحثون عن العلاج والذين يقبلون على الفندق الذي يستغل هذه المحطة من شتى أنحاء البلاد ومن خارجها. فقد اشتهرت المحطة خارج الديار وباتت قبلة الزوار الباحثين إلى جانب العلاج والاستعداد للمواسم الرياضية، عن الراحة والهدوء والسكينة بعيدا عن صخب الحياة وضجيج المدن الكبرى.
ومن بين الأمراض التي يمكن معالجتها بمياه حمام بورقيبة أمراض الأنف والحنجرة والأذنين على غرار حساسية الجيوب الأنفية والتهابها والتهاب الحلق وطبلة الأذن وربو الأطفال والالتهاب المزمن للقصبات الهوائية وتمططها. وكذلك أمراض العظام والمفاصل، التي يعاني منها كبار السن على وجه الخصوص، وآلام الظهر، بالإضافة إلى الأمراض الجلدية التي تعالج بالمياه وأيضا بالأوحال المعدنية التي تستخرج من منابع المياه.
كما أن هناك علاجات تتعلق باستعادة اللياقة البدنية وتنشيط الجسم، وعلاجات أخرى خاصة بمقاومة التوتر ويشرف عليها أخصائيون في المجال الصحي يعملون وفق برنامج علمي ودقيق. وتوفر المحطة أيضا علاجات تجميلية متطورة قادرة على منافسة كبرى المراكز الصحية الاستشفائية في أوروبا والعالم من حيث جودة الخدمات وكذلك من حيث الأسعار.
#حمام #بورقيبة #التونسية #حين #يمتزج #سحر #الطبيعة #بمتعة #الاستشفاء #بالمياه #العذبة
تابعوا Tunisactus على Google News