حين تتحمل السينما مسؤوليتها الأخلاقية
الفنكوش هو بطل قصة فيلم (واحدة بواحدة) للنجم عادل إمام والنجمة ميرفت أمين. يحكي الفيلم عن صراع بين شركتي دعاية وإعلان. يعمل بأحداهما صلاح فؤاد (عادل إمام) وتعمل مايسة (ميرفت أمين) بالأخرى. يتصارع الطرفان للحصول على تعاقد حملة إعلانية كبيرة لمنتج وهمي، ألا وهو الفنكوش.
الكوميدي في الفيلم هو أن الشركة التي يعمل بها صلاح فؤاد وهي التي حصلت على تعاقد الحملة، ظلت تصرف مبالغ طائلة على الدعاية لهذا المنتج من قبل حتى أن تعرف ما هو. فتم الإعلان عن الفنكوش باعتبار أنه المنتج الذي سيجلب السعادة للبشر ويقدم حلولا سحرية لكل أزمات ومشاكل الحياة.
انتظر الناس الفنكوش بلهف شديد، حتى اكتشفوا أنه حلوى صغيرة بها جرعات مركزة من الكحول بما يعادل زجاجة ويسكي كبيرة على حد قول مخترعه في الفيلم “الدكتور أيوب”.
وبعد أن تناوله بعض الأشخاص قاموا بأفعال غريبة، تحت تأثير الخمر، في إطار الفيلم الكوميدي بالطبع. ليكتشف الجميع أن الفنكوش ليس إلا وهم قدم حلولا سحرية لا وجود لها في الواقع.
تذكرت قصة هذا الفيلم اللطيف، وأنا أقرأ خبر فرض السويد للكمامة في المواصلات العامة أثناء ساعات الذروة، وسط حزمة من إجراءات التباعد الاجتماعي الأخرى. فسياسة السويد التي تسببت في جدل شديد خلال العام الماضي والمعروفة باسم “مناعة القطيع” أثبتت فشلها بشكل واضح. حيث إن نسب الوفيات في السويد بسبب فيروس كورونا أعلى من باقي الدول الاسكندنافية التي تحيط بها وتشابهها في الظروف ومعدلات السكان، بفارق ضخم.
تقوم الفكرة على أن يتم السماح للفيروس بالانتشار حتى يصاب حوالي 70 أو 80٪ من المجتمع، ومن ثم تتحقق مناعة القطيع أو المناعة الجماعية بعد أن يصاب الناس ويطوروا مناعة من الفيروس بعد الإصابة به، ومن ثم تنتهي الأزمة فيعود الناس لأعمالهم ويتحسن الاقتصاد الذي تأثر سلبا بشكل مرعب بسبب تداعيات الوباء.
حل سهل وبسيط، أليس كذلك؟ نعم ولكنه غير واقعي ووهمي بل ووحشي أيضا لأن تحقيق هذه المناعة يتطلب التضحية بأعداد كبيرة من البشر أغلبهم من كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة. وقد لخصت الفنانة ياسمين صبري فكرة “مناعة القطيع” عندما قالت في مؤتمر الجونة السينمائي في أكتوبر الماضي “اللي ياخده ياخده (كورونا) واللي يكمل يكمل والبقاء للأقوى”. وقتها انتشرت الميمز على مواقع التواصل الاجتماعي ساخرة من تعليقها.
كانت أول مرة يتم إطلاق هذا المصطلح وينتبه له الناس عندما تحدث عنه باتريك فالانس كبير مستشاري بريطانيا العلميين في بريطانيا في مارس الماضي، عندما كان يقدم استراتيجيته للتعامل مع أزمة فيروس كورونا. بعدها بأسابيع تراجعت بريطانيا عن هذه الفكرة، حين زادت نسب الوفيات والإصابات بشكل كبير. بل أن بريطانيا فرضت الإغلاق العام مرة أخرى مؤخرا بعد أن خرج الوضع عن السيطرة.
هذه الفكرة أو السياسة وصفتها منظمة الصحة العالمية بالوحشية، حيث قالت إن المفهوم مأخوذ من العلوم البيطرية، “حيث يهتم الناس بالصحة العامة للقطيع، ولا يهم الحيوانات الفردية بهذا المعنى.. البشر ليسوا قطعانًا”.
كما أن النظرية أثبتت فشلها بوضوح. والدليل بسيط جدا، فبعد أكثر من عام على ظهور الوباء لم تتحقق “مناعة القطيع” في أي بلد في العالم أجمع، بما فيها الدول التي تأخرت أو تراخت في اتخاذ التدابير اللازمة لمحاصرة الفيروس مما تسبب في انتشاره فيها بشكل كبير.
وسأذكر مثالين لأدلل على كلامي. مثال من دولة توفر الاختبارات بسهولة ومن دولة أخرى لا توفر الاختبارات وبالتالي لا يمكن الاعتماد على الأرقام الرسمية المعلنة فيها. ففي الولايات المتحدة وصل عدد الإصابات المؤكد إلى 23.5 مليون إصابة، هذا فضلا عن الإصابات التي لم تُسجل. ووصل عدد الوفيات بسبب هذا الوباء إلى ما يقرب من 400 ألف وفاة. ويوميا يموت ما لا يقل عن 2500 شخص بل وتخطى الرقم في بعض الأيام حاجز الأربعة آلاف وفاة في 24 ساعة.
فلو افترضنا أن نظرية مناعة القطيع سليمة، فلماذا تموت كل هذه الأعداد؟ فأين هي “مناعة القطيع” المزعومة؟ ولماذا لم تنقذنا؟ الإجابة ببساطة لأنها فنكوش!
ففي أفضل الأحوال وعلى أقصى تقدير طوّر حوالي 20٪ من المجتمع الأمريكي درجة من درجات المناعة ضد فيروس كورونا، بحسب تصريحات د.أنتوني فاوتشي الخبير الأمريكي الأهم في مجال مكافحة الأوبئة. وبالتالي حتى نصل للنسبة المطلوبة وهي 70 أو 80٪ لابد أن يموت 4 أضعاف العدد الحالي، أي حوالي 1.6 مليون شخص.
أما الخبر الأسوأ فهو أن هذه المناعة ليست دائمة. فبحسب عدد من الأبحاث، المناعة لا تستمر لأكثر من عدة أشهر. البعض يقول 5 شهور وأبحاث أخرى تقول 8 شهور. ما يعني أنه كل 8 شهور على أفضل الأحوال، لابد أن يموت هذا العدد الرهيب من البشر (1.6 مليون شخص في الولايات المتحدة وحدها) من أجل الوصول لهذا الحل الوحشي للمشكلة. وبمجرد أن تمر الثمانية أشهر تختفي المناعة الجماعية بعد أن تقل الأجسام المضادة في أجسام من تعرضوا للإصابة، مما يعني أنه علينا البدء من جديد، ما يعني المزيد والمزيد من الوفيات!
هذه هي حقيقة الوضع في بلد متاح فيه الاختبارات والإحصاءات والأرقام بسهولة. أما عن المثال الخاص بدولة لا تتوفر فيها الاختبارات ولا تعكس فيها الأرقام الرسمية حقيقة الوضع على الأرض فمصر هي خير مثال.
ففي حين تقول الأرقام الرسمية إنه بالأمس تم إصابة أقل من ألف شخص، يوجد في عائلتي وحدها 3 أفراد يصارعون الفيروس وأنا أكتب هذا المقال فضلا عن العديد من الزملاء والأصدقاء والذي أتمنى لهم جميعا التعافي في أسرع وقت.
وبعيدا عن الإحصاءات والأرقام التي تعلنها وزارة الصحة المصرية والتي لا تمت للواقع بصلة، فبالكاد يمر يوم دون أن أتقدم بالتعازي لأحد الأصدقاء في وفاة شخص من عائلته توفاه الله بسبب الفيروس، وهو مؤشر واقعي لمدى انتشار الفيروس في مصر.
ببساطة فكرة تحقيق “مناعة القطيع” عن طريق السماح للفيروس بالانتشار هي فكرة غير مبنية على أي أساس علمي، وليس عليها أية أدلة، ولا توجد دراسة واحدة تفيد أن أي بلد قد وصل لهذه المناعة الجماعية حتى الآن.
ولكن للأسف الشديد روج لها البعض باعتبارها الحل السحري لأزمة كورونا، في حين أن النتيجة الواقعية التي حدثت بسبب الترويج لهذه الفكرة هي زيادة الوفيات. حيث تعامل كثيرون باستهتار مع إجراءات الوقاية المطلوبة من تباعد اجتماعي وارتداء للكمامة وغسل لليدين، على اعتبار أن الإصابة هي الطريق للوصول لهذا لأمل الزائف.
فالحقيقة العلمية بعيد عن الأوهام هي أن الطريقة الوحيدة للوصول للمناعة الجماعية هي اللقاحات. وإلى حين يتم توزيع اللقاحات على مليارات البشر، علينا باتخاذ أقصى التدابير الوقائية الممكنة للحد من أعداد المصابين والوفيات.
ففي كل مرة استيقظ من النوم لأجد زميلا أو صديقا ينعى أحد أقربائه بسبب هذا الفيروس اللعين، أسأل نفسي سؤالا واحدا. ماذا لو لم يتحدث باتريك فالانس عن هذا المصطلح الذي ضلل وأربك الملايين حول العالم؟ وماذا لو يتم الترويج لهذا الوهم على شبكات التواصل الاجتماعي بهذه الكثافة؟ كم حياة كان من الممكن إنقاذها؟ وكم أب أو أم أو أخ أو صديق أو صديقة كان من الممكن أن يكونوا معنا اليوم لو لم يتم تضليلهم؟ ففي أزمنة الأوبئة، يمكن للمعلومات المزيفة وحدها أن تتسبب في إزهاق الأرواح!