حُلم الزعامة في قرطاج.. لماذا يريد قيس سعيد دستورا جديدا؟
يقول الرئيس التونسي قيس سعيد إنها انطلاقة حوار حقيقية من أجل صياغة دستور جديد لجمهورية جديدة، ويرى خصومه أنها مجرد جلسات صورية لإضفاء شرعية على دستور جاهز تمت صياغته في “غُرَف مُظلِمة” من أجل تكريس حُكم الفرد المتصاعد في تونس منذ حركة 25 يوليو/تموز التي قام بها الرئيس التونسي العام الماضي، ويسعى من ورائها إلى شطب مكتسبات الثورة التونسية التي اندلعت في ديسمبر/كانون الأول 2010، وجلبت معها فيما بعد دستور 2014 وتقسيماته المؤسسية الصلبة لتجنُّب استئثار ساكني قرطاج بالسلطة، بيد أن سعيد له قول آخر في تلك الديمقراطية المؤسسية.
في دار الضيافة المجاوِرة لقصر قرطاج، ورغم مقاطعة الاتحاد العام التونسي للشغل وعدد من الأحزاب والشخصيات الوطنية المَدعُوَّة، انطلقت السبت 4 يونيو/حزيران الحالي أولى جلسات اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية المُنبثقة عن الهيئة الوطنية الاستشارية لتأسيس الجمهورية الجديدة، التي أعلن عنها الرئيس التونسي “قيس سعيد” في إطار سعيه نحو صياغة دستور جديد للبلاد. وكان قيس قد أعلن في 25 يوليو/تموز 2021 عن إجراءات وصفتها المعارضة بالانقلاب على الدستور، وتقضي بتجميد أعمال البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة “هشام المشيشي” وعدد من الوزراء من مهامهم.
وقد عزَّز سعيد إجراءاته بتدابير استثنائية جديدة في سبتمبر/أيلول الماضي، أبرزها تعليق العمل بمعظم أبواب الدستور، عدا التوطئة والبابين الأول والثاني منه. وبعد ذلك بثلاثة أشهر، حدَّد الرئيس مسارا زمنيا للخروج من حالة الاستثناء التي تعيشها البلاد، بحيث تصل إلى محطتها الأخيرة بإجراء انتخابات تشريعية في 17 ديسمبر/كانون الأول 2022، بعد المصادقة على دستور جديد عن طريق استفتاء شعبي يخُطَّط له أن يجري في 25 يوليو/تموز 2022، بالتزامن مع حلول الذكرى السنوية الأولى لما يعتبره أنصار الرئيس “حركة تصحيح” لمسار الدولة التونسية.
قيس سعيد يرفض دستور 2014
رغم المعارضة الواسعة داخليا وخارجيا لمسار تونس الحالي نتيجة استنادِه إلى حُكم رجل واحد دون التزام دستوري حقيقي أو رقابة تشريعية من البرلمان، يُصِرُّ الرئيس التونسي على مواصلة خطَطِه حتى صياغة دستور جديد يُنهي به دستور 2014، الذي انتُخِب على أساسه. وفي هذا الصدد، قال “الصادق بلعيد”، رئيس الهيئة الوطنية الاستشارية لتأسيس الجمهورية الجديدة، ردا على اعتذار عُمداء كليات الحقوق ورفض الاتحاد العام التونسي للشغل المشاركة في اجتماعات الهيئة، إنه سيمضي قُدُما في صياغة الدستور “مع مَن حَضَر”.
بالعودة إلى مرحلة صياغة الدستور التونسي الحالي وما سبقها بين عامَيْ 2011 -قبل انتخابات المجلس الوطني التأسيسي- و2014 حين انتهت صياغة الدستور، نجد أن قيس سعيد كان قد دعا في البداية إلى مقاطعة الانتخابات، معتبرا إياها خطوة للالتفاف على الثورة والسطو على الإرادة الشعبية، ثم شارك بعد ذلك بوصفه خبيرا بالقانون الدستوري في إبداء الرأي حول مشاريع البنود المُقتَرَحة أثناء جميع مراحل صياغة الدستور. ولكن في الوقت الذي احتفلت فيه شتى الأطراف السياسية التونسية بالانتهاء من مشروع الدستور، ورغم أن المجتمع الدولي أشاد به واعتبره دستورا حداثيا، قال سعيد آنذاك إنه غير راضٍ عن نقاط عديدة وردت في الدستور، وسجَّل جملة من الثغرات والتناقضات التي رآها فيه، مؤكِّدا أنها ستؤدي إلى صعوبات في تطبيق مواد الدستور على أرض الواقع بما يُمثِّل خطرا على تماسك الدولة ووحدتها.
منذ حركته الانقلابية على النظام الدستوري العام الماضي، ما انفك الرئيس التونسي يُعدِّد العيوب التي تضمَّنها الدستور الحالي، مؤكِّدا أنه لم يعُد صالحا للعمل به، وأن نواب المجلس الوطني التأسيسي وضعوا أقفالا عديدة في الدستور عن طريق المُحاصَصَة، وأن البلاد لا يمكن أن تسير بدستور مليء بعراقيل كهذه، ومن ثمَّ فهو يدعو إلى تعديل الدستور أو تغييره بشكل يؤسِّس لنظام سياسي جديد.
لا يصدر نقد سعيد للدستور من فراغ، فرغم ما كرَّسه الدستور من توازن بين مؤسسات الحُكم وصيانة للحريات وضمان لتداول السلطة سِلميا، فإن انتقادات سعيد نابعة من رؤيته ومشروعه السياسي الذي يتبنَّاه منذ سنة 2011، وقدَّمهما سابقا في مبادرة عنوانها التأسيس الجديد. ففي عام 2013، انطلق سعيد مُبشِّرا بمشروعه من خلال ما سمَّاه “الحملات التفسيرية”، التي تواصلت حتى لحظة الانتخابات الرئاسية عام 2019. فقد صرَّح الرئيس قبل انتخابات 2019 بأنه في حال انتخابه رئيسا للبلاد فسيكون تغيير الدستور أول قراراته، معتبرا أن نظام البناء القاعدي على حد قوله، أو التأسيس الجديد، هو بديله للحُكم عن النظام السياسي الذي نصَّ عليه دستور 2014.
تجاوز الوسائط وحكم الشعب نفسه بنفسه
يقوم مشروع التأسيس الجديد على فكرة بناء المؤسسات المُنتخَبة من الأسفل (مستوى المجالس المحلية) إلى الأعلى (مستوى المجلس الوطني الشعبي)، وذلك عن طريق إجراء انتخابات بنظام الانتخاب وفق القوائم الحزبية والائتلافية، بحيث تنطلق العملية الانتخابية من المحليات -وعددها 264 محلية- حتى تتمخَّض عنها مجالس محلية، ثم تنبثق عن تلك المجالس باعتماد القرعة “مجالس جهوية”، وفي الأخير نصل إلى “المجلس الوطني الشعبي”. ومن المُفترض أن يسمح هذا النظام للناخب بأن يسحب الوكالة من أي عضو منتخب في حال عدم التزام العضو بوعوده الانتخابية، وذلك على حد قول المُدافعين عن مشروع الرئيس.
من ركائز هذا النظام المُسمَّى بنظام البناء القاعدي، الذي يريد سعيد أن يخطَّه في دستوره الجديد، هو تجاوز الوسائط أو وسائل التمثيل الشعبي الكلاسيكية والمؤسسية مثل النقابات والأحزاب والجمعيات والهيئات، حيث يهدف سعيد إلى ما يعتبره نظاما يحكُم فيه الشعب نفسه بنفسه من خلال المجالس المحلية والجهوية والمجلس الوطني الشعبي لا غير، على أن تكون السلطة التنفيذية بيد رئيس الجمهورية وحده، وكأن الرئيس يريد ببساطة تفكيك عُرى الدولة الحديثة ومراتبها المؤسسية، والركون إلى مفهوم شعبوي وجماهيري عن الحُكم أشبه بالطريقة التي روَّج لها الرئيس الليبي مُعمَّر القذافي.
لقد بُني دستور 2014 على نظام كرَّس سلطات واسعة للهيئات الدستورية المستقلة، ومنح الأحزاب أدوارا مُتقدِّمة في الحُكم عبر وجودها في البرلمان والحكومة، وهي خطوة للأمام أتاحت لأطراف عديدة المشاركة في العملية السياسية، بيد أن تعثُّرها وعجزها عن تقديم حلول لمشكلات اجتماعية واقتصادية عديدة للتونسيين دفع بضرب من ضروب الشعبوية التونسية إلى الواجهة. ولذا، منذ حركته الانقلابية في 25 يوليو/تموز، ومُستغِلا هذه الموجة الشعبوية، سارع سعيد إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، ثم أغلق مقر الهيئة الوطنية للحَوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، وأنهى مهام رئيسها، وكذلك أصدر مراسيم رئاسية غيَّر بموجبها تركيبة المجلس الأعلى للقضاء والهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
ولم يقف سعيد عند استهداف الهيئات المستقلة، بل تجاوز ذلك إلى استهداف المنظمات الوطنية عبر السعي في تغيير قيادة “الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري” (نقابة المزارعين)، وتهميش دور الاتحاد العام التونسي للشغل من خلال سن منشور حكومي حدَّ من دور النقابات التابعة له فيما يتعلَّق بالتفاوض بينها وبين الوزارات والإدارات العامة، بالإضافة إلى تهديد الجمعيات بإيقاف التمويل الأجنبي القادم إليها.
من النظام البرلماني المُعدَّل إلى نظام الزعامة
من النقاط الأساسية التي انتقدها قيس سعيد في دستور 2014 هي النظام البرلماني المُعدَّل، الذي يعطي صلاحيات واسعة لرئيسَيْ الحكومة والبرلمان على حساب صلاحيات رئيس الجمهورية. وقد اتفقت النخب في تونس على إنهاء اعتماد النظام الرئاسي بعد الثورة لما تسبَّب فيه سابقا من تسلُّط واستبداد أثناء حُكم “الحبيب بورقيبة” و”زين العابدين بن علي”. بيد أن سعيد يرى عكس ذلك، وقد انتقد في أكثر من مناسبة النظام البرلماني الذي حكم تونس بعد الثورة، ورأى أنه سبب وصول البلاد إلى هذه الدرجة من تفشي الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشديدة، قائلا في تصريح سابق له: “لو كان نظام الحكم رئاسيا لَمَا آلت الأوضاع إلى هذا المستوى من الخراب”. ويرى سعيد أن الأزمات السياسية التي عرفتها تونس بعد الثورة سببها النظام السياسي الحالي، مؤكِّدا أن استمرار العمل به تكريس لتفكيك الدولة وضرب مؤسساتها من الداخل مع الوقت.
علاوة على ذلك، يسعى سعيد من خلال دستوره الجديد إلى تخليد اسمه زعيما وطنيا قدَّم تصورات وأفكارا سياسية وقانونية جديدة، وغيَّر عن طريقها من مسار التاريخ التونسي، وقد أكَّد الرجل في مناسبات عديدة بالفعل أن دستوره الجديد سيغيِّر وجهة التاريخ في البلاد، كما ادَّعى بأن توجُّهه نحو تغيير الدستور إنما هو اقتفاء لخطوات الزعيم التونسي الراحل “الحبيب بورقيبة”، مستندا في ذلك إلى ما قال إنه إحدى مقولات الرئيس الراحل: “الدستور قابل للتطوُّر بتطوُّر الزمان”.
وردا على سؤال طُرِح عليه بخصوص ضعف خبراته في مجالَيْ السياسة والإدارة قبل توليه الرئاسة، صرَّح سعيد بأن السياسة ليست مهنة، وأن القادة الكبار قدَّموا مشاريع وجرى تبنِّيها، متسائلا هل عمل الرئيس بورقيبة في الإدارة من قبل؟، وقد شبَّه سعيد نفسه بالرئيس التونسي الراحل قائلا إنه (أي بورقيبة) “حمل مشروعا معيَّنا، وأنا أحمل مشروعا وتصوُّرا”. هذا وكتب سعيد أثناء الحملة الانتخابية بأنه يَعِد “التونسيين بالعدل والحرية وعلوية القانون على شاكلة الفاروق عمر بن الخطاب، الذي يُعَدُّ رجل دولة بامتياز ونموذجا يُحتذى به في الحزم والعدل”.
رغم تقديمه لنفسه في البداية بصورة الرئيس الزاهد المتواضع وابن الشعب، فإنه سرعان ما تلبَّسته حالة الزعامة كما يقول متابعون عديدون له، فالرجل لم يستسغ توزيع السلطات الوارد في دستور 2014 بين رئيس الجمهورية ورئيسَيْ الحكومة والبرلمان، مُردِّدا بأن تونس لها رئيس واحد في الداخل والخارج، وقد ذهب في تأويله الشاذ للدستور إلى إعلان نفسه “القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية”، رغم أن الإشراف على وزارة الداخلية وجميع الأسلاك الأمنية المنضوية تحت لوائها من اختصاصات رئيس الحكومة.
لذا، من الواضح أن تغيير قيس سعيد لدستور 2014، وعزمه على صياغة دستور جديد لجمهورية جديدة، ليس وليد حركة 25 يوليو/تموز الانقلابية، وما سبقها من أزمات سياسية داخل البرلمان، وإنما هو قرار يسبق لحظة وصول سعيد إلى قرطاج وامتلاكه زمام الحُكم في البلاد، ويمتد بجذوره إلى سنوات طويلة اعتنق فيها الرجل رؤية شعبوية ومشروعا سياسيا مضادا لمؤسسية الدولة الحديثة وخطة لصياغة دستور جديد يفي بمتطلبات حُلم الزعامة الذي طالما شغل خياله.
يحفل التاريخ العربي بنقاط تحوُّل من هذا النوع، الذي تتمخَّض فيه الأحداث عن جبهة شعبوية تتطلَّع إليها الجماهير من أجل تحقيق ما تعتقد أن المؤسسات القائمة قد عجزت عن تحقيقه في نظرها، وليس هنالك أشهر من نموذج صعود الرئيس المصري “جمال عبد الناصر” على أنقاض تفكيك المنظومة الدستورية والقانونية العتيدة التي عرفتها مصر لثلاثين عاما قبل عام 1954، حيث تبنَّى النظام الناصري وقتها ما سمَّاه بالشرعية الثورية. بيد أن الشرعية الثورية غير المعنية بتقسيمات السلطة الحديثة وتخصُّصاتها الدقيقة التي تتطلَّب تمثيلا شعبيا معقدا سرعان ما آلت إلى كوارث اقتصادية وعسكرية وسياسية عديدة، وانتهت بالنظام في النهاية إلى العدول ولو جزئيا عن شعبويته. يبقى التساؤل الأساسي هُنا: إلى أي مدى سيمضي الرئيس التونسي في حلمه الشعبوي ذاك؟ وإلى أي مدى سيظل التعاطف الشعبي تجاهه حاضرا في صفوف البعض قبل أن ينقشع على وقع أزمة جديدة، أو ربما إخفاق حُكم الرجل الواحد في حل الأزمات القائمة بالفعل؟
#حلم #الزعامة #في #قرطاج #لماذا #يريد #قيس #سعيد #دستورا #جديدا
تابعوا Tunisactus على Google News