خبز وسيرك: هل تؤمن مجتمعات الاستهلاك بآلهتها؟
من أعرق البرامج الإذاعية التي لا تزال البي بي سي تبثها منذ عام 1942 إلى اليوم، برنامج بعنوان «أسطوانات الجزيرة الخالية». تتخلل البرنامج الحواري مقاطع موسيقية أو غنائية من اختيار الضيف، كما يطلب إليه في الختام أن يختار الكتاب وأداة المتعة اللذين يفضل التزود بهما لو رمى به القدر في جزيرة نائية مقفرة، ليقضي بقية العمر في عزلة تامة عن البشر.
أذكر مثلا أن جراح القلب المصري الشهير مجدي يعقوب، اختار معزوفات لباخ وموزارت وتشايكوفسكي، وأن أداة الترف عنده كانت الأريكة (الشبيهة بالأرجوحة)، وأن الكتاب هو «جمهورية أفلاطون» Pluto’s Republic الذي أثار (بعنوانه الأفلاطوني الغامز) اهتماما واسعا عندما أصدره، عام 1982، عالم الأحياء اللبناني الأصل بيتر مدور.
وأذكر أني سمعت ضيفة إيرلندية نسيت اسمها تختار أغنية فيروز «يا عاقد الحاجبين على الجبين اللجين»! كما أن الممثل المسرحي جون غيلغود، الذي تقمص كثيرا من الأدوار الشكسبيرية، قد اختار رواية «بحثا عن الزمن المفقود» لبروست، واختارت المذيعة المخضرمة جون بيكوال «الحرب والسلام» لتولستوي.
ومما أعجب له، أن البي بي سي استضافت عام 1948 الفيلسوف العظيم برتراند راسل ليدشن سلسلة «محاضرات ريث» السنوية الشهيرة، التي ألقاها بعده أفذاذ مثل عالم الفيزياء روبرت أوبنهايمر وعالم الاقتصاد كنيث غالبريث، (علما أن إدوارد سعيد قد نال هذا التكريم عام 1993، وأن محاضراته هناك جمعت بعدها في كتابه «صور المثقف»، لكن رغم ذلك فإن برنامج «أسطوانات الجزيرة الخالية» لم يستضف راسلفلم، فلم يتح لنا أن نعرف ميوله الموسيقية ولا كتابه الأثير.
إلا أن رسائل السجن التي كانت مجهولة (اعتقل راسل عام 1918 بسبب مقال احتجاجي ضد دخول أمريكا في الحرب العظمى)، إلى أن أعلنت جامعة ماكماستر الكندية أخيرا نبأها، وأتاحتها للجمهور، تبين أن راسل طلب في أثناء حبسه مؤلفات متنوعة في الأدب والتاريخ والفلسفة، وقرأ كثيرا عن الثورة الفرنسية، بل إنه ألف ثمة كتابه «مقدمة إلى الفلسفة الرياضية». فماذا يا ترى أنت قارئ لو كنت في مثل هذه الحالة؟ أما أنا فلو فرضت علي العزلة وألزمت بأن أختار بين نوعين فقط من الكتب إما الرواية أو التاريخ، فإني مختار التاريخ. حب نشأت عليه صغيرا ثم اطمأنت إليه نفسي كثيرا لما قرأت في كتاب بول فان «كيف نكتب التاريخ»، أن التأريخ ليس علما بل هو فن، وأن «المؤرخين يروون وقائع حقيقية، الفاعل فيها هو الإنسان؛ فالتاريخ رواية حقيقية».
كان الإغريق يؤمنون بآلهتهم وأساطيرهم ولا يؤمنون، حيث كان علية القوم يرون حينا أن الأسطورة هي أساس الحقائق الفلسفية، وحينا آخر أنها تحريف خفيف لهذه الحقائق
كان بول فان، الذي وافته المنية أواخر أيلول/سبتمبر، أحد أطرف المؤرخين الفرنسيين وأمتعهم. حقق ألفة بين الجمهور الواسع وحقائق الحضارة اليونانية والرومانية بكتب شيقة، مثل: «عندما أصبح عالمنا مسيحيا» و«الخبز والسيرك» (باعتبار أن آليات الاقتصاد وصناعات الترفيه، ومنها بزنس الرياضة، لا تزال منذ عهد الرومان إلى اليوم، هي وسيلة التحكم في الجماهير). أما أقوى ما يمكن أن تقرأ عن العلاقة بين العقل والاعتقاد وبين التاريخ والأسطورة، فهو في كتابه «هل كان الإغريق يؤمنون بآلهتهم؟».
سؤال بديهي. لكن لم يسأله قبل بول فان أحد: أليست قمة التناقض أن يجمع الإغريق بين إعمال العقل الفلسفي في كل شؤون الوجود والإيمان اللاعقلاني بأساطير بالغة الغرابة؟ سؤال ربما أجاب عليه المسلمون ضمنيا عندما عكفوا على دراسة فكر الإغريق الفلسفي والعلمي، وأعرضوا تمام الإعراض عن مسرحهم وأشعارهم وأساطيرهم. سؤال جواب بول فان عليه، أن الإغريق كانوا يؤمنون بآلهتهم وأساطيرهم ولا يؤمنون، حيث كان علية القوم يرون حينا أن الأسطورة هي أساس الحقائق الفلسفية، وحينا آخر أنها تحريف خفيف لهذه الحقائق. بل إن أفلاطون كان يعتقد الأمرين معا.
أي إن اليونانيين، وخاصة شعراءهم وساستهم، كانوا يستخدمون الأساطير استخداما إيديولوجيا، وبالأحرى خطابيا، لتمجيد مدينة أو أمير أو فن من الفنون. سؤال له، في رأيي، اليوم معادل: هل تؤمن المجتمعات المادية بآلهتها؟ هل تؤمن بالمشاهير ونجوم الرياضة والغناء واليوتيوب، إلخ، ممن يبيعون الجماهير أوهام سعادة استهلاكية مستحيلة المنال؟
عرفت بول فان أول مرة لما أتى إلى تونس في نيسان/أبريل 1987 مشاركا في ندوة في نادي الطاهر الحداد، عن فكر صديقه المقرب ميشال فوكو. وبعد الندوة بأيام رأيته يجتاز شارع الحبيب بورقيبة في اتجاه شارع باريس، حيث دار الثقافة ابن رشيق. وبما أن التلفزة الوطنية كانت تهتم اهتماما أصيلا بالفكر والثقافة، فقد استضافته المذيعة القديرة إلهام الجمعي في حوار، كان مما كشف فيه أن الرومان لم يكونوا يشربون الخمر صرفا، وإنما يمزجونها ببعض ماء البحر! وأنهم كانوا من الحياء بحيث لم تكن المرأة لتتعرى أمام زوجها، وأن الجماع ما كان ليقع إلا في الظلام وتحت الألحفة.
عندما أتى نعي بول فان، تذكرت أني حصلت قبل عامين على مذكراته، وأنه لما يتح لي أن أقرأها بعد. مذكرات بعنوان حالم باسم: «وفي عالم الخلود لن يدركني السأم».
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
#خبز #وسيرك #هل #تؤمن #مجتمعات #الاستهلاك #بآلهتها
تابعوا Tunisactus على Google News