“دوم” الجزائر… حرفة تقاوم التطور التكنولوجي
تعدّ صناعة نباتات الحلفاء، أو ما يعرف في الجزائر بـ “الدوم” من الحرف التقليدية التي تميّز العديد من المحافظات في البلاد، لما لها من طابع تراثي وتقليدي ما زال يصارع الزمن، وهي حرفة تقوم على استغلال هذه النباتات في إعداد أوانٍ مطبخية وتجهيزات منزلية بسيطة مختلفة كما يفعل غيرهم مع القش والقصب وغيرهما من المواد النباتية المصدر. الحرفيّون الذين تمسكوا بها يرفضون التخلي عنها على الرغم من الصعوبات والمشاكل والتحديات التي تواجههم، كنقص المواد الأولية وغياب سياسة التسويق والتصدير وعدم وجود أماكن للعرض وغيرها.
ورثت عائلة موالدي في مدينة القليعة، غرب الجزائر العاصمة، حرفة صناعة الحلفاء والخيزران من زمن الاستعمار الفرنسي. وتعلّم غيلاس، وهو أحد أفراد العائلة، الحرفة منذ 20 عاماً. ويقول: “توارثنا هذه الحرفة منذ زمن طويل، وكان جدي من أوائل الذين امتهنوا هذه الحرفة في زمن الاستعمار، وكانت الحاجة أم الاختراع. فالوضع الذي كان يعيشه الجزائريون آنذاك تحت وطأة الاستعمار دفع الكثير من الجزائريين إلى تعلم أي حرفة تضمن لهم قوت يومهم، خصوصاً المهن اليدوية”. يضيف في حديثه لـ”العربي الجديد” أنّ العائلة فضلت بعد الاستقلال الاستمرار في تطوير الحرفة حتى ذاع صيتها “وبعد سنوات، تحولنا إلى مؤسسة عائلية لصناعة الحلفاء والخيزران وطورنا هذه الحرفة في المنطقة ونقلنا عملنا إلى ولايات أخرى حيث استفاد العديد من الشباب المهتمين بهذه الحرف التقليدية”. وعادة ما تُجلب المواد الأولية من محافظات سعيدة والجلفة وغليزان، وهي محافظات داخلية.
مظلات صيفية
وليس بعيداً عن ورشة غيلاس موالدي، ينهمك سمير برفقة زوجته في صناعة العديد من التحف الفنية من نبات “الدوم” كالمظلات الصيفية والقفاف والسلال والأواني الخاصة بالخبز. ويبدو شديد التعلق بهذه الحرفة، وهناك تناسق وانسجام كبير بينه وبين زوجته في تسيير مراحل الإنتاج، إذ يتولى كلّ واحد منهما تحضير المنتج إلى مرحلة معينة وتسليمه للآخر. يتكفل سمير بالمراحل الأولية الأساسية كانتقاء الحلفاء ذات النوعية المناسبة وتصفيفها وفتلها لتتكفل زوجته بالمرحلة الخاصة بالتزيين وتحضير المنتج في حلته النهائية قبل العرض.
يقول سمير: “تتحدر عائلتنا من محافظة الشلف الواقعة غرب العاصمة الجزائرية. والفضل يعود إلى مدينة سيدي موسى. كنت أزور أقاربي خلال العطل المدرسية وتمكنت من التعرف على الكثير من الحرفيين في المنطقة وأحببت هذه الحرفة. وبعدما توقفت عن الدراسة، توجهت مباشرة الى تلك المدينة وبقيت فيها مدة عامين. عملت في البداية أجيراً في إحدى الورش، وكنت ألاحظ الإقبال الكبير على هذه المنتجات من قبل التجار من مختلف الولايات، خصوصاً أنّها مصنوعة باليد وذات نوعية جيدة. وبعد سنوات عدة، فكرت في إنشاء ورشة خاصة لكنّني فضلت الابتعاد عن المنطقة والعودة إلى مقر إقامة عائلتي في مدينة القليعة قرب العاصمة الجزائرية، وأنشأت ورشة في منزلي. ركزت في البداية على صناعة القفة والمظلة والكسكاس (الجزء العلوي من ماعون إعداد طبخة الكسكسي) التي تشهد إقبالاً من سكان القليعة المعروفين بميولهم إلى تزيين منازلهم بالمنتجات التقليدية”.
إبداع سمير في هذه الصناعة الحرفية سمح له بتلقي دعوات لعرض منتجاته في المعارض والمهرجانات التي تنظمها غرف الصناعة التقليدية في مختلف المحافظات. وبعد زواجه من سيدة تتقن الحرفة نفسها، قرر تطوير نشاطه أكثر وتطوير الإنتاج وصناعة تحف فنية أخرى. إلّا أن هذا النجاح ترافق مع العديد من المشاكل التي واجهت سمير على غرار الحرفيين الآخرين، وعلى رأسها عدم توفر المواد الأولية، بالإضافة إلى غياب الدعم الحكومي لتطوير هذه الحرفة والترويج لها، علماً أن الكثير من الدول، كالجارة تونس، استطاعت الاستفادة من المنتجات التقليدية هذه لتطوير السياحة. كما أنّ الضرائب المرتفعة أثقلت كاهلهم على الرغم من التصريحات المتتالية التي تشير إلى تشجيع الدولة الحرفيين، من دون أن تطبق على أرض الواقع”.
هوية وتاريخ
في منطقة بومدفع الواقعة في محافظة عين الدفلى، التي تشتهر أيضاً بصناعة الحلفاء والفخار والمتاخمة للمركب الحموي المشهور حمام ريغة، استقبلنا الأربعيني محمد زايري في محلّه الذي استفاد منه في إطار برنامج حكومي مخصص للحرفيين، لكنّه ليس كافياً بالنسبة إليه. ويقول: “تعلمت هذه الحرفة من خلال تدريب شاركت فيه عام 1999 وبقيت أمارسها حتى اليوم. أصنع غالبية المنتجات في منزلي وأقضي أوقاتا قليلة في المحل الذي اتخذته كمكان للعرض فقط. وخلال الفترة الأخيرة، وكون منطقتنا معروفة بكونها منطقة عبور للمصطافين إلى مدن الساحل، كان الإقبال على المنتجات التقليدية كبيراً مقارنة مع المناطق الأخرى في منطقة الوسط. إذ إنّ الكثير من السياح، خصوصاً المغتربين أو الآتين من العاصمة، يفضلون اقتناء المنتجات التقليدية للذكرى أو استعمالها في تزيين البيوت أو في المطابخ نظراً لخصوصيتها التاريخية كرمز للهوية ولتاريخ الجزائر”.
في المقابل، يعرب عن مخاوفه من تراجع عدد الحرفيين خلال السنوات الأخيرة نظراً لابتعاد الشباب عن الحرف التقليدية وتأثرهم بالتكنولوجيا والبحث عن الربح السريع. ويطالب بإيجاد حلول عاجلة من قبل المسؤولين للحفاظ على هذه الحرفة من الزوال، وتقديم الدعم اللازم للحرفي الذي يحافظ على أحد رموز الهوية الجزائرية.
ويقول حرفيّون إنّ الدولة فشلت في دعم هذه الحرفة. وما زال حرفيو الحلفاء والخيزران يعانون من جراء ضعف وصعوبة تسويق منتجاتهم بسبب نقص أماكن العرض، وعدم تصدير هذه المنتجات، على الرغم من أن العديد من السياح الأجانب يقبلون على اقتناء كمية كبيرة من التحف الفنية التي يصنعها الحرفيون، ما يشير إلى إمكانية عقد اتفاقيات تجارية مع دول عدة لتصديرها. من جهة أخرى، عاش الحرفيون كابوساً خلال تفشي جائحة كورونا التي تسببت في ركود اقتصادي على جميع الأصعدة، لا سيما الجانب السياحي. وأغلقت الأماكن السياحية التي كانت تعد مساحات رئيسية لعرض وتسويق المنتجات التقليدية للمواطنين والمغتربين والسياح.
هذه المخاوف دفعت بعض المهتمين إلى مطالبة الحكومة الجزائرية بالعمل على حماية هذه المهن والحرف التقليدية. ويؤكد رئيس غرفة الصناعة التقليدية، عبد القادر دحماني فقي، في حديثه لـ “العربي الجديد” أنّ هذه الحرفة يمكن أن تشكل إضافة حقيقية للاقتصاد الجزائري وتوفر فرص عمل ومداخيل بالعملة الصعبة، إذا ما اعتمدت سياسة ناجعة للتصدير، ومضاعفة عدد المهرجانات الوطنية والدولية الخاصة بالمنتجات التقليدية، بهدف توفير أماكن أكبر للعرض وتمكين الحرفيين من تبادل الخبرات مع الأجانب، والتعريف أكثر بالمنتجات الجزائرية”. كما يطالب الحكومة بضرورة إنشاء قرى أو ورشات كبيرة تجمع كلّ الحرفيين لدعم عمليات الإنتاج والعرض والبيع، وتشجيع إنشاء أماكن تساهم في تنشيط السياحة الداخلية وتخفيض الضرائب بالنسبة للحرفيين. يضيف: “الكثير من الحرفيين قادرون على الإبداع وغزو السوق العربية والأوروبية إذا ما توفرت الظروف الملائمة لتطوير أنشطتهم”.
#دوم #الجزائر #حرفة #تقاوم #التطور #التكنولوجي
تابعوا Tunisactus على Google News