- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

راشد الغنوشي لـ”العربي الجديد”: الأولوية لمقاومة الديكتاتورية

يشدد راشد الغنوشي، رئيس حركة “النهضة” ورئيس البرلمان التونسي (الذي حلّه الرئيس قيس سعيّد)، في مقابلة مع “العربي الجديد”، على أن الأولوية المطلقة الآن هي لمقاومة الدكتاتورية التي ستواجه الجميع، واصفاً سعيّد بأنه عنوان للثورة المضادة. وفي حين دعا إلى حوار يشارك فيه سعيّد، ولا يقصي أحداً، فإنه اعتبر، في المقابل، أن هذا الحوار يجب أن يعقد بدون الرئيس، إذا رفض المشاركة فيه.

وأكد الغنوشي استعداد “النهضة” للتنازل عن أي موقع من أجل إنقاذ الديمقراطية، مشدداً على أنه يفضّل أن يعيش مواطناً في نظام ديمقراطي على أن يكون رئيساً في نظام دكتاتوري. واعتبر أن موقع سعيّد في سياق التاريخ ما بعد الخلفاء الراشدين، وما قبل الإصلاح الإسلامي وما قبل الحداثة.

* ما هي طبيعة هذه المرحلة التي تمرّ بها تونس حالياً، ما هو سياقها التاريخي والحضاري، وكيف تقرؤونها؟

كل انتقال في الحياة له تكاليف، كل مرور من مرحلة رحم الأم إلى الخارج، ثم الانتقال من الطفولة إلى المراهقة إلى الرشد إلى الحياة الزوجية، له تكاليفه. وانتقال شعب من مرحلة الدكتاتورية والوصاية إلى مرحلة الرشد والحرية عملية صعبة ومعقدة، والشعوب التي أنجزت ثورات كثيرة، ولكن التي حققت انتقالاً ديمقراطياً ناجحاً قليلة، ولك أن تنظر إلى بلدان الربيع العربي في 2011، ماذا بقي منها.

من يظنّ أن عشر سنوات من الثورة تم شطبها وانتهت واهم

تونس تعيش مرحلة صعبة في انتقالها الديمقراطي ولا تجد محيطاً معيناً في الإقليم بسبب خروجها عن السياق في المد الثوري. ثم بدأ محيطها يؤثر فيها، ويدفعها للانسجام مع السياق التاريخي لمحيطها. فالمقارنة الصحيحة بالتالي هي بين تونس ما قبل الثورة وتونس اليوم، وبين الحالة التونسية والحالة العربية، وسنجد في المحصلة أن التونسيين يتمتعون أكثر بحرية لم تكن قبل الثورة، وربما هم الأكثر تمتعاً بها في الإقليم.

* لكن كل هذا مهدد اليوم؟

هذا الانتقال لم يستقر، ومررنا من وضع النظام الديكتاتوري ومركز القرار الواحد إلى تعدد المراكز متعددة السلطات، وكانت السنوات العشر الماضية غريبة عن السياق التونسي والإقليمي. ولم يكن لتلك الصورة أن تستمر لأسباب داخلية وأخرى خارجية، وبدأ نوع من الحنين للرجوع إلى الماضي، وبعض الناس بدؤوا يضيقون بالحرية لأنها لم تحقق كل ما نريد، فكان الحنين للعودة إلى الرحم.

التوجه الآن هو عزل الانقلاب شعبياً

وجزء من الإعلام لعب دوراً في ذلك، حين روّج أن الثورة ستحل كل شيء، وخصوصاً الإعلام الشعبوي والمضاد للثورة، فرفع الانتظارات عالياً، حتى يصوّر أن النتيجة هي فشل ذريع، وأن السياسيين كذبوا على الشعب وأفسدوا وأثروا على حساب الشعب، وأن البلاد غنية لكنها منهوبة. وبالتالي حصلت نقمة على الكل، على الأحزاب والسياسيين والمؤسسات، ومثّل ذلك نوعاً من التبرير والتشريع لعودة فكرة المركز الواحد.

* هل كنتم تتوقعون، حتى في اللحظات الصعبة للثورة، أن يحدث انقلاب في تونس؟

لم يكن غريباً حصول ذلك، فقد حصل في بلاد أخرى وبشكل أشنع مما حدث في تونس، حيث أمسكت المؤسسة العسكرية بالحكم وداست بالدبابات على الناس. فالمصيبة التي حصلت في تونس هي الحد الأدنى من منتوجات الانقلاب. ومن يظن أن عشر سنوات من الثورة تم شطبها وانتهت واهم، لأن الشعب ذاق خلال هذه السنوات الحرية، وليس من السهل أن تعيد جيلاً إلى نظام فردي مطلق. ولذلك آثار من الثورة ما زالت منغرسة في عقول التونسيين وقلوبهم، ما أمكن للانقلابيين أن يصادروها.

* ولكن هذه الحرية مهددة اليوم بفعل هذه الأوضاع، وهذا الدستور المعروض على الاستفتاء؟

لا نرى اليوم عرساً انتخابياً، بل هي حملة باردة، وذلك دليل على أن التونسيين لم يأخذوا الدستور والاستفتاء محمل الجدية، واللعبة لم تنطل (عليهم)، وأدركوا أنها لعبة مكشوفة ولن تؤتي شيئاً جديداً. وقد رأينا استشارة إلكترونية لم يشارك فيها سوى أقل من 5 بالمائة، وحالة الاستفتاء لن تكون أحسن من ذلك. التونسيون لم يأخذوا هذه المشاريع على أنها مشاريع تحول ديمقراطي، بل هي مشاريع نكوص إلى الوراء وتشريع للانقلاب وإعطاؤه نوعاً من الشرعية.

نحن اليوم أمام دستور لا يعترف بجوهر الفكر السياسي الحديث الذي يقوم على الفصل بين السلطات وتوازنها ومراقبة بعضها البعض

* برأيكم لماذا أقدم سعيّد على ما أقدم عليه. هل هو مسار شخصي أم نتاج توفر عوامل مجتمعة في فترة ما؟ هل كان يضمر ذلك سلفاً؟

قيس ليس متناقضاً مع نفسه، وهو بشّر بهذا النموذج من قبل ووجد الفرصة لتحقيقه. بشّر بنظام قاعدي وسلطة في مركز واحد، وهو نموذج ما قبل الحداثة الغربية السياسية التي تقوم على فصل السلطات وتوازنها ومراقبة بعضها البعض، وقيس واع بذلك. وهو أيضاً نموذج يعود حتى لما قبل الإصلاح الإسلامي، لأن الإسلام ضد الحكم الفرعوني، وضد حكم الفرد، بل هو نظام يتحدث عن الشورى. وقيس في سياق التاريخ هو سلطان من السلاطين وباي (ملك تونس) يجلس في مقعد القضاء ويحكم بين الناس بنفسه، موقعه تاريخياً ما بعد الخلفاء الراشدين، وما قبل الإصلاح الإسلامي وما قبل الحداثة.

*كيف أقدم على ذلك، وكيف نجح في تنفيذه؟

واتته الظروف، ووجد الظرف الإقليمي مناسباً لذلك. فماذا بقي من الربيع العربي بعد تعرضه للانقلابات والحروب؟ إذاً وجد من يعينه على ذلك، وبالتالي حدثت فترة تراجع لتونس وحالة من الارتداد والنكوص عن مسار الربيع العربي.

*هل تعتقدون أنه مجرد حالة قوس سيغلق بسرعة أم مسار سيدوم طويلاً؟

ذلك يعود إلى صبر الناس وقدرة المعارضين على تجميع صفوفهم بتجاوز خلافاتهم الثانوية، وإدراك أن الأولوية ليس بمقاومة هذا الطرف لذاك، وإنما الأولوية المطلقة لمقاومة الديكتاتورية العائدة التي ستواجه الجميع.

وأرى أنه لا ينبغي أن يتكرر ما حدث زمن (الرئيس المخلوع زين العابدين) بن علي، لأن الخطر يحدق بالجميع، والأولى الذهاب إلى الأمام بنظام ديمقراطي يستفيد من التجربة، ينطلق من دستور 2014 ويمكن أن يطوره، ولكن لا يلعن الثورة كما فعل قيس الذي لعن كل ما أنتجته الثورة. قيس سعيّد هو عنوان الثورة المضادة.

*هل يوجد هذا الوعي لدى المعارضة اليوم. هناك بعض الأطراف التي ترفض الجلوس إلى “النهضة” والنزول معها إلى الشارع؟

السياسة ليست توصيف الواقع فقط، بل أيضاً معرفة اتجاه التاريخ وأين تسير الأمور. ففي 25 يوليو/ تموز 2021 كنا وحدنا، وقدّرنا أنه انقلاب منذ البداية. وللأمانة كان معنا حزب العمال الشيوعي في هذا التقدير أيضاً.

وعندما ذهبنا إلى البرلمان ليلة 25 يوليو كنا بضعة أفراد ورُفع شعار إسقاط الانقلاب منذ اليوم الأول، واحتجنا شهرين لخروج أول مسيرة في سبتمبر/ أيلول (الماضي) ثم أصبحنا جبهة، وهذه الجبهة بدأت تتحرك مع جبهات أخرى، بحيث التوجه الآن في المحصلة هو عزل الانقلاب شعبياً. في 25 يوليو الماضي كان هناك شارع انقلابي، واليوم بقي شارع واحد هو شارع إسقاط الانقلاب.

*تعتقدون إذا أن الديمقراطية التونسية لم تنكسر وإنما تلقت ضربة فقط؟

نعم تلقت ضربة ولم تنكسر بالتأكيد. نحن شديدو الإيمان أن تونس عاشت خلال عشر سنوات حرية وديمقراطية معاصرة، لا تقل عن حرية العواصم الديمقراطية، كلندن وباريس وبرلين وواشنطن، والتونسيون لن يتنازلوا عن ذلك.

*كيف أخطأتم إلى هذا الحد في تقييمكم لقيس سعيّد خصوصاً عندما دعمتموه في الانتخابات، أنتم وبقية الساحة السياسية؟

هذا خطأ نستغفر الله عليه. كانت النية طيبة، ولكن في السياسة لا تكفي النوايا. قد تفيد في الآخرة، ولكن في الدنيا هناك حسابات الصواب والخطأ.

مستعدون مجدداً للتنازل عن أي موقع من أجل الدّيمقراطيّة

هذا الخطأ حصل بسبب نقص في الوعي وخضوع لضغوط الواقع في تلك المرحلة. كان هناك بحث عن حل جديد، عن شيء من خارج الصف السياسي، ومن خارج الأحزاب وبلا تجربة سياسية. وكان أمل الناس أن هذا الصوت الجديد ربما يأتي بالفرج، وهو خطأ ارتكبناه، فلا ينبغي أن تودع ثقة الشعب وأمانة الناس في شخصية لم يُعرف لها ماض سياسي ولم تُعرف في أي مجال. وهذا أيضاً دليل على أن الشعب والنخبة يعيشان أزمة، والنخبة السياسية أيضاً كانت تُزايد على بعضها، وهناك من راهن على قيس لضرب الحركة الإسلامية.

*هل تعتقدون أن سعيّد، الماضي في مشروعه والذي لا ينصت إلى أحد، ذاهب إلى فرض أمر واقع وسينجح في ذلك؟

بالتأكيد هو مصمم على هذا، وهو لا يحاور ولا يسمع أحداً. السياسة عنده عقائد وليس مصالح، وفيها تناقض بين الخير والشر، والحلال والحرام، وبين السيئ والحسن. فالسياسة عنده ليست نسبية، وليست هناك حالة الوسطية أو المنزلة بين المنزلتين، ومخالفوه هم خونة ومتآمرون وجراثيم وضفادع وكواسر وعملاء، وهذا تنظير للعنف والحرب الأهلية وتقسيم للتونسيين. وبحسب دستور 2014 فإن دور الرئيس هو رمز وحدة الشعب، ونحن لم نسمع خطاب وحدة.

وللإشارة، فيوم احتراق مقر “النهضة” في ديسمبر/ كانون الأول كان هناك خطاب فريد في قاموس سعيّد، فيه حديث عن المواطنة والقبول بالاختلاف والتسامح، بينما السياق العام لكل خطاباته تحريض على مخالفيه، وهم خطأ بالكامل وهو صواب كامل، وهذا خطاب خطير لأنه لا يبشر بوحدة، بل بالتصادم.

* هل سينجح في فرض الأمر الواقع؟

قد ينجح إلى حين. والبارحة كنا مجتمعين في قاعة بمقر الحزب والجدران مزينة بنحو 150 شهيداً من أبناء الحركة أثناء مقاومة الاستبداد. فقلت هؤلاء وأمثالهم سد منيع في وجه الديكتاتورية، ولهم خلفاؤهم وأتباعهم وأقاربهم، وبالتالي هذه الثورة جاءت بها دماء الشهداء، فليس يسيراً أن تقلب الصفحة. ويأتي السيد قيس بدستور جديد ويلغي دستور الثورة، فهذا وهم.

التونسيون لم يأخذوا الدستور والاستفتاء محمل الجدية

ونحن نرى اليوم كذلك مثالاً صمود القضاة الذين يمثلون أكبر ضمانة للدفاع عن الديمقراطية وعن حقوق الإنسان. نحن نحيي هذا الصمود البطولي للقضاة ونشد على أياديهم. وسنوات الثورة العشر تركت في الإدارة التونسية والجيش والأمن والقضاء قدراً مهماً جداً من ثقافة دولة القانون والمؤسسات، ولهذا فنحن لا نخشى على الديمقراطية التونسية بفضل هؤلاء وغيرهم.

* بعض داعمي الرئيس يقولون للتونسيين إن عدم تصويتكم بنعم على الدستور هو عودة “النهضة” والغنوشي للحكم؟

هذا ليس صحيحاً. هذا خطاب فضائحي عرفته الساحة، وبالنسبة لنا رئاسة الدولة ليست الهدف الأسمى، بل عودة الديمقراطية إلى تونس هي الهدف. ونحن قلنا أكثر من مرة إننا على استعداد كامل لأي سيناريو وأي صورة من أجل ذلك، وتنازلنا سنة 2013 عن الحكومة وتركناها خلال الحوار الوطني من أجل بقاء الديمقراطية ومن أجل أن نضع دستوراً لتونس. وتنازلنا عن أشياء أكبر من رئاسة الدولة، وقلنا للمعارضة وقتها، قدموا لنا مقترحاً لإنقاذ البلاد وسنتنازل، لا عن الرئاسة فقط، بل حتى عن المشاركة في الحكومة.

* والآن أيضاً؟

نعم الآن أيضاً، نحن اليوم مستعدون لذلك أيضاً. وكما تنازلنا سابقاً فنحن اليوم مستعدون للتنازل عن أي موقع، حتى عن المشاركة أصلاً، المهم إنقاذ الديمقراطية، لأنني كمواطن، في الديمقراطية أتمتع بكل الحقوق، بينما في غيابها لا يبقى لي أي حق. وإذا خيّرت بين أن أكون رئيساً في نظام ديكتاتوري، أو أن أعيش مواطناً في نظام ديمقراطي لكان خياري هو الثاني.

* هناك اليوم تقارب كبير مع أحمد نجيب الشابي (رئيس “جبهة الخلاص” المعارضة) أحد خصومكم في السابق. ألا يطرح هذا أسئلة عن أخطاء التحالفات والخصومات السابقة؟

بالتأكيد كانت هناك خصومات كان يمكن تجاوزها، وكان يمكن بعد 2011 أن تتوحد قوى مناهضة الدكتاتورية في الحكم البديل، ولكن تفرقت صفوفها، وحصلت في المقابل توافقات لا تتوفر فيها المبدئية الكاملة، برغم أنها تحالفات هدّأت الأوضاع وأنقذت تونس في ذلك الوقت في ظل وضع عربي متراجع بعد انقلاب مصر. وظل الوضع متماسكاً في تونس برغم أن التكلفة كانت ثقيلة. ومن قدر على مصر، وما أدراك ما مصر، ظن أنه سيقدر كذلك على تونس، وكان يمكن أن نسلك طريقاً أفضل لو حصلت تحالفات بين قوى 18 أكتوبر/ تشرين الأول (2011) التي قاومت بن علي. وهذه أخطاء ينبغي أن نستفيد منها.

هناك مشاورات من أجل بحث صيغة لحوار وطني تشرف عليه المنظمات الوطنية أو شخصيات مستقلة اعتبارية

وعلى كل حال فنجيب الشابي، كان من أبرز الزعماء الذي آووا المعارضة قبل الثورة، وكان لهم دور كبير في ذلك. ولا أحد ينكر عراقته في الدفاع عن الديمقراطية. ولذلك فالتقاؤنا معه أمر طبيعي، برغم الاختلاف الذي حصل، وكان لقاؤنا فيه تقييم للانحرافات التي حصلت والتي كان يمكن تفاديها.

* سعيّد كان دائماً يردد أنه كان يحترم المقامات، وأنه كان من دعاة التقارب، ولكن تمت خيانته، وهو يشير إليكم بطريقة غير مباشرة. كيف كانت العلاقة بينكما؟

نحن لم نكن يوماً دعاة صراع، وأنا لم أترشح ضد قيس ولم أنافسه، ومن الدور الأول من (الانتخابات) الرئاسية أعطاه عدد من النهضويين أصواتهم رغم وجود مرشح للحركة، وفي الدور الثاني أعطيناه كل أصواتنا.

لم ننافس الرئيس ولم نكن خصومه، والخصومة معه مفتعلة لأنه كان في الأصل يراهن على مجتمع دون ديمقراطية وتعددية ودون كيانات منذ البداية. وهو لم يخف هذا إلى حد كبير، فلم يكن هناك برنامج لرئاسته، وتفكيره أن الزعيم يواجه شعباً ويلخصه في نفسه، وبالتالي لا مجال في نظره لضرورة وجود أجسام وسيطة، الأحزاب والنقابات والجمعيات والمجتمع المدني، وأتصور أن البلديات سيأتي عليها الدور كذلك. وبالتالي طبائع الأمور قادت إلى ذلك.

وهو يضيق بهذه الكيانات لأنها تستطيع أن تعارض وأن تقول لا. ونحن اليوم أمام دستور لا يعترف بجوهر الفكر السياسي الحديث الذي يقوم على الفصل بين السلطات وتوازنها ومراقبة بعضها البعض. وحتى ما أقدم عليه من تعديل في الفصل الخامس (بالدستور) وحشر كلمة “في نظام ديمقراطي” فهو في الحقيقة يتحدث عن مقاصد الإسلام والشريعة، وكأن ذلك بديل عن الديمقراطية والمجتمع المدني.

مشروع سعيّد يعود تاريخياً إلى ما بعد الخلفاء الراشدين وما قبل الإصلاح الإسلامي وما قبل الحداثة

نحن طبعاً يُسرّنا إدراج المصطلحات الإسلامية في الدستور، ولكننا لا ننخدع بالمظاهر، بل نرى جوهر الخلاف، وهو هل نحن إزاء نظام فصل سلطات أم نظام بايات (ملوك تونس)؟ نحن لا تغرينا الشعارات، ونتساءل إن كان في هذا النظام قضاء مستقل أم لا، وبرلمان مستقل أم لا، وحكومة منتخبة أم لا. وطبعاً لا يوجد كل هذا، فكيف إذن سنطمئن إلى هذا النظام ببعض من الكلمات؟

هذا الدستور إذن يمثل دولة ما قبل الحداثة الغربية وما قبل الإصلاح الإسلامي، الذي اجتهد مفكرون، منذ رشيد رضا ومحمد عبدو والأفغاني والبنا، حتى وصلنا إلى حركة النهضة التي تؤكد على التوافق المطلق بأن النظام الإسلامي هو نظام شورى، وأن الديمقراطية هي أحسن صورة تطبيقية لقيمة الشورى. وبالتالي اجتهد الإصلاحيون في التوفيق بين العقل والدين، وبين الإسلام والديمقراطية. وأهم إضافة للنهضة يمكن أن نذكرها هي تأصيل قيمة الحرية. وسعيّد في الحقيقة يطرح مشروعاً فيه “إسلام” تتحكم فيه الدولة، وهو “إسلام” بلا حرية وبلا عقل، ونحن لا نريد ذلك.

* كيف ترون الموقف الدولي من الأزمة في تونس. أحياناً تكون هناك حرارة في المواقف وأحياناً تتراجع وتخفت؟

هناك تطور واضح حصل، بدأ بصمت فُهم منه نوع الرضا، ثم تطور إلى رفض صريح وقوي من مختلف وزارات الخارجية والمنظمات الدولية لضرب الديمقراطية والتطورات السلبية التي حدثت في تونس، وأصبحت المواقف أكثر صراحة ووضوحاً. ولكن بفعل الحرب الأوكرانية خفت اللهجة، لأن الأولوية الدولية اليوم ليس نشر الديمقراطية وإنما مواجهة روسيا وحلفائها.

وتقديرنا أن الذي يصنع التغيير في الحقيقة هم التونسيون متى أدركوا أنهم خدعوا بخطابات فضفاضة لتحسين الحياة ومقاومة الفساد وشيطنة الثورة. ولكنهم يرون اليوم أن هناك أزمة في كثير من السلع الأساسية المفقودة، أو التي ارتفعت أسعارها، وهم يلاحظون ملاحقة الإعلاميين والأحزاب والنشطاء أمام المحاكم العسكرية، والشعب التونسي يزداد وعياً بأنه خسر كثيراً ولم يربح شيئاً.

* هل لديكم خريطة طريق تطرحونها على الساحة؟

نحن اليوم في أزمة، والأزمات لا تحل بإقصاء الآخر وبتجريمه قضائياً لإخراجه من الساحة، وهذا هو مشروع سعيّد. والمشروع المقابل له هو مشروع حوار، لكنه لم يستجب إلى أي دعوة، كدعوة اتحاد الشغل أو دعوتنا نحن للحوار، وما زلنا ندعو إلى حوار لا يقصي أحداً، لأن العقبة الكبرى لأي إصلاح هو الإقصاء، وأن تراهن على تونس دون يسار أو دون إسلاميين أو بلا نقابات. هذا رهان على العنف والإقصاء.

* الحوار الذي تدعون إليه على أي قاعدة؟

حوار لا يقصي أحداً على قاعدة دستور 2014، ويمكن أن يكون هذا الدستور فيه نواقص ويمكن أن نتجاوزها. ونحن ندعو إلى حوار فيه قيس، لا يستبعد ولا يقصي أحداً إلا من أقصى نفسه، وإذا رفض قيس، وهذا منتظر، فينبغي أن يكون حواراً بدونه.

* من يمكن أن يشرف على هذا الحوار؟

يمكن أن تشرف عليه منظمات المجتمع المدني التي أشرفت على الحوار في السابق، أو شخصيات محايدة يرتضيها الجميع، وهناك مساع في هذا الصدد لإقناع عدد من الشخصيات لقيادة هذا الحوار. ويفضي هذا الحوار إلى حكومة إنقاذ يديرها اقتصاديون وتستمد شرعيتها من مجلس نواب الشعب، الذي نعتبره شرعياً، ثم تنظم انتخابات تشريعية ورئاسية تحت إشراف الحكومة ثم نعود إلى الشرعية.

 يصف سعيّد مخالفيه بأنهم خونة ومتآمرون، وهذا تنظير للعنف والحرب الأهلية وتقسيم للتونسيين

*هذا السيناريو ممكن ومتاح حالياً؟

هذا ما تتبناه جبهة الخلاص.

* أنتم مدعون للتحقيق يوم 19 يوليو (الحالي)، هل تتوقعون إيقافكم؟

كل شيء متوقع مع الديكتاتورية ولا يستبعد شيء، ونحن نتفاءل خيراً، وما نتعرض له أمر عابر، وتونس ذاهبة إلى الديمقراطية، وسيدوم هذا الامتحان قدر صبر التونسيين وفرزهم بين القضايا الأولية والثانوية.

* تركيز الملاحقات القضائية عليكم، فيه تطور في صراع سلطة الانقلاب مع خصومه؟

هم يستهدفون الحزب الأكبر في البلاد، ومشروع قيس هو استبعاد كل الأحزاب وهو ينطلق من الكبير. ونحن، النهضة، حسب آخر انتخابات، أول الأحزاب في 2019 ويبقى هذا قائماً حتى يتغير في الانتخابات القادمة بالتأكيد أو النفي. ومن الطبيعي أن تتوجه السهام إلى هذا الحزب الأكبر، وهذا يحرك غرائز الانتقام والثأر. وهناك مجموعات مساندة لقيس تدرك أنها غير قادرة على مواجهة النهضة في الانتخابات، وهي تراهن على استبعادها بطرق أخرى، لأنها حاولت مرات وعجزت عن إبعادها، وبقيت النهضة الحزب الأول، وحتى بتراجعه ظل الحزب الثاني بفارق بسيط.

*ملاحقتك فيه استهداف شخصي لك؟

هو استهداف للنهضة وللحزب وللديمقراطية والتعددية، وليس استهدافاً لشخصي. ومن يضرب الحزب الأكبر سيكون ضرب بقية الأحزاب أسهل.

* كيف تتعامل شخصياً مع إمكانية توقيفك؟

هو أمر عادي متوقع، عندما تترجم خطابات قيس لا تجد إلا حروباً وخصامات وسجوناً ومحاكمات.

* في زحمة هذه الأحداث، هل تفكرون في مؤتمر النهضة، أم أن الملف الوطني طغى على كل شيء؟

الملف الوطني طغى بالفعل على كل شيء، هناك لجان ما زالت تعمل على المؤتمر، لجنة المضامين واللجنة المادية، ونتحين الفرص لعقده. وبمجرد أن يتهيأ لنا مناخ سياسي يسمح بعقد المؤتمر سنعقده، وأنا لست مرشحاً للموقع القيادي الأول في الحركة.

* هل أخذت قراراً نهائياً بعدم الترشح؟

نعم.

* إلى أين نحن ذاهبون في تونس اليوم برأيكم؟

أنا متفائل بأن الديمقراطية في تونس ليست حدثا عارضاً، بل هي تغيير في البنى النفسية والفكرية والاجتماعية. فالتونسيون الذين تذوقوا طعم الحرية لعشر سنوات كاملة ليس من اليسير إقناعهم بالعودة إلى نظام الحزب الواحد والزعيم المتفرد والنظام القاعدي.

وأعتقد أنه ليس من السهل أن تنسي التونسيين هذه العشرية، وأرى أن سنة واحدة من الانقلاب أعادت الاعتبار، أو شيئاً منه، إلى الثورة ودستورها، لأن التونسي ذكي ويقارن بين الواقع الأليم وبين الشعارات المرفوعة. والنظام القاعدي لن يأتي للتونسيين بالمن والسلوى. فمشكل التونسيين اجتماعي واقتصادي، والرئيس ليس مشغولاً بذلك، بل شغله كيف يغير النظام السياسي ويلغي الديمقراطية، ويحل محلها سلطة الفرد، وهذا غير مقبول.

- الإعلانات -

#راشد #الغنوشي #لـالعربي #الجديد #الأولوية #لمقاومة #الديكتاتورية

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد