سيدات النهضة المصرية «43» أمينة رزق.. تلميذة يوسف وهبى وأشهر«أم» فى السينما
من فيلم “دعاء الكروان” للمخرج “بركات” تستطيع العين اليقظة إدراك الدور الجميل الذى قدمته “أمينة رزق”، التى استطاعت إقناعنا بشخصية المرأة “البدوية” الحائرة،
المهزومة بعد مقتل ابنتها “هنادى” بسلاح خالها “جابر” شيخ العرب، أحد الكبار فى قبيلة “بنى وركان” بشمال الصعيد، وفى فيلم “أريد حلا” تستطيع العين الواعية إدراك قدرات هذه الفنانة الموهوبة وهى تعبر عن مأساة “المرأة العجوز” التى لاتجد من يعولها، وهى التى هجرها زوجها ولم تكن تملك ما تنفق منه على نفسها، وفى فيلم “بداية ونهاية” كانت أمينة رزق، الأرملة التائهة فى المدينة الكبرى، ومعها عيالها، بعد موت زوجها الموظف الصغير، وهذا يجعلنا نعتبرها فنانة انتصرت لقضية المرأة دون أن ترفع شعارا، ولا تصرخ فى مؤتمر جماهيرى، رغم أنها اختيرت لتكون نائبة فى “مجلس الشورى” لكنها كانت سباقة بالتعبير بالفن على خشبة المسرح وفى بلاتوهات السينما عن هموم المرأة بصدق وموهبة وإيمان..
هى صاحبة أطول مشوار فنى فى تاريخ المسرح والسينما فى مصر، فكانت بدايتها فى فيلم “سعاد الغجرية ـ 1928″، وهى صاحبة قصة كفاح جديرة بأن تروى، وكان ظهورها فى حقبة سياسية واجتماعية صاخبة، مزدحمة بالصراعات الفكرية والسياسية، وهذا يستلزم منا العودة إلى بدايات القرن الماضى، فهى من مواليد “15 أبريل 1910″، فى مدينة “طنطا”، وانتقلت إلى القاهرة فى العام 1916، وأقامت فى حى “عابدين” والتحقت بمدرسة “ضياء الشرق” وكانت معها فى الرحلة من “طنطا” إلى “القاهرة” خالة لها تدعى “أمينة محمد”، وحتى نعرف أسرار عظمة هذه الفنانة، نقرأ السياق التاريخى الذى عاشت فيه، فالعام الذى ولدت فيه، هو عام الارتباك السياسى فى المجتمع المصرى، وتصاعد الصراع الدينى بين الأقباط والمسلمين بتحريض من الاحتلال، بعد مقتل “بطرس غالى” رئيس مجلس النظار “مجلس الوزراء” على أيدى الشاب “إبراهيم الوردانى”، ورغم أن القتل كان لأسباب سياسية، نجح الاحتلال فى إشعال الصراع بين المسلمين والمسيحيين، وكان “بطرس غالى” من أعداء “الكنيسة الأرثوذوكسية” وكان يعمل على هدم كيانها المستقل، وتحويلها لكنيسة تابعة، ولكن البابا “كيرلس الخامس” كان يقظا لمؤامرة “بطرس غالى” وقاوم كل محاولات تذويب الكنيسة المصرية، وفى العام 1911 انعقد مؤتمران، مؤتمر قبطى، ومؤتمر مصرى، الأول كانت له أهداف غير وطنية، والثانى كان مؤتمرا شارك فيه الزعماء الوطنيون من القبط والمسلمين، وفى العام 1914 أعلنت الحرب العالمية الأولى، وأعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وعاش الناس ظروفا اقتصادية صعبة، وكانت “أمينة رزق” وابنة خالتها “أمينة محمد” فى وضع اجتماعى يحتم عليهما السفر من “طنطا” إلى “القاهرة “، وكانت المغامرة الكبرى، مغامرة دخولهما مجال الفن، وكان الأمر صعبا، لأن نظرة المجتمع للفنان فى تلك الفترة لم تكن نظرة احترام أو تقدير، وكان اختيار الفتيات مجال الفن محكوما بالرقص البلدى فى كباريهات والعمل فى صالات ترفيه فى وسط القاهرة، ومع ظروف الحرب العالمية الأولى، منعت حكومة الاحتلال السهر فى هذه الأماكن، فازدهرت مسارح “روض الفرج” الشعبية، وهى المسارح التى ظهرت فى زمن “محمد على”، حسب ما رواه “الجبرتى” فى تاريخه، فقال إن إنشاء “ترسانة” تصنيع السفن على “نيل بولاق” ووجود ميناء نهرى فى الموقع ذاته، جعل المنطقة الممتدة من “بولاق مصر” حتى “روض الفرج” تتحول إلى مجتمع للعمال والتجار، ونشأت محلات للطعام والشراب والترفيه، بعيدا عن قلب القاهرة، وكانت هذه التجمعات العمالية والشعبية، المكان الذى جعل اثنين من الجالية اليونانية يقيمان نشاطا ترفيهيا، يستهدف الحصول على أموال هذه الطوائف العاملة فى الميناء والترسانة من نجارين وحدادين وكيالين وتجار، وكانت فكرة الترفيه هى النواة الأولى لمسارح روض الفرج، وكان “على الكسار” علامة من علامات المنطقة الترفيهية الشعبية، فمن مسرحه الشعبى كانت انطلاقة “أمينة رزق” وخالتها “أمينة محمد” التى اتجهت للرقص الشرقى أو البلدى، وكانت “أمينة رزق” موهوبة للتمثيل، وأخلصت له منذ دخولها مدرسة “رمسيس” أو “فرقة رمسيس” التى أسسها “يوسف وهبى”، ومعه “عزيز عيد” المخرج المسرحى الأشهر، وعدد من فنانى المسرح الكبار.
مغامرات أمينة محمد
كان اكتشافى اسم “أمينة محمد” فى تسعينيات القرن الماضى، من مقال كتبه القاص الراحل “محمد مستجاب” عن “حى العمرانية” الذى كان يعيش فيه “هو من ديروط الشريف بأسيوط” منذ انتقاله للحياة فى العاصمة، وتكلم فى مقالة له عن “شارع أمينة محمد” وقال إنها خالة “أمينة رزق” الفنانة المشهورة، وساقتنى الأقدار، إلى “العمرانية” وأقمت فيها حوالى العامين ونصف العام، ومشيت فى الشارع الذى ذكره القاص “مستجاب” رحمه الله، وقرأت كثيرا عن رحلة “أمينة محمد”، حتى كان اليوم الذى شاهدت فيه حلقة من برنامج “النادى الدولى” الذى كان يقدمه الفنان الراحل “سمير صبرى” على شاشة القناة الأولى للتليفزيون المصرى فى سبعينيات القرن الماضى، أذاعته قناة “ماسبيرو زمان”، وكانت الدهشة والمفاجأة، رأيت الفنانة المعتزلة “أمينة محمد”، كانت عجوزا، وشها متكرمش، لكنها كانت ذات صوت عال، ترد على أسئلة “سمير صبرى” بقوة، رافضة فكرة الشيخوخة وبلوغ سن التقاعد، ولما سألها عن الفيلم الأول الذى قدمت به الفنان “حسين صدقى” قالت إنه تكلف “سبعة عشر جنيها مصريا”، وتكلمت عن اعتزالها الفن، وعملها فى مجال المطاعم الشعبية، فى أسوان، فتحت مطاعم شعبية فى منطقة العمل فى السد العالى، وكانت تبيع للعمال الفول والعدس، وعقب انتهاء المشروع، انتقلت إلى “السويس” لتبيع لعمال المناجم والمصانع الوجبات البحرية، ووقعت هزيمة “5 يونيو 1967” فاضطرت لمغادرة المدينة، وعوضتها الحكومة المصرية تعويضا مناسبا، وقالت للفنان “سمير صبرى” إن “أمينة رزق، جبانة” لأنها اختارت الفن، ورضيت لنفسها “تصفيق الناس لها” واعتبرت هذا “التصفيق” هو المجد الكامل الذى يستحق التعب والسهر و”حرق الأعصاب”، ولم تتوقف ـ مغامرات ـ أمينة محمد عند هذا الحد، بل أعلنت رفضها لكل الراقصات، وهى نفسها كانت راقصة فى يوم من الأيام، وسافرت إلى أوربا، وتعلمت فنون الرقص التعبيرى، وقالت ما نصه “أنا ضد هز الأرداف”، وكان هجومها على “سهير زكى” هو الأعنف، وكانت لطيفة فى حكمها على ما تقدمه “نجوى فؤاد” وفرقة رضا للفنون الشعبية، ومن علامات الثقة بالذات التى تميزت بها “أمينة محمد” رفضها “صبغة الشعر” و”طاقم الأسنان”، وقالت ما معناه إن الشباب يكون فى “القلب” وإنها تحب أن تكون على طبيعتها، وإنها تكره “الأسنان الصناعية” لأنها تفقدها الشعور بمذاق الطعام، وعقب مشاهدتى الحلقة، بحثت فى الكتب المتخصصة فى تاريخ الفن المصرى عن “أمينة محمد” التى غامرت بالعمل فى الفن، فعملت مخرجة، ومساعدة لمخرج أجنبى، ومنتجة، ومؤلفة للقصص السينمائية، وعملت راقصة، وظهرت فى عدة أفلام منها “ليلة فى العمر، بواب العمارة، شبح الماضى، الدكتور فرحات، خفير الدرك” وعملت مع المخرج العالمى “سيسيل دى ميل” فى فيلم “الوصايا العشر”، وهى منتجة فيلم “تيتاونج” الذى قدمت به الفنان “حسين صدقى” لجماهير السينما، وشاركها فيه “صلاح أبو سيف، أحمد كامل مرسى، والفنان التشكيلى صلاح طاهر والفنان عبدالحميد الشريف”، ثم قررت اعتزال الفن والاتجاه للعمل فى السياحة والتجارة!
الأم العذراء فى المسرح
لايمكن تناول سيرة “أمينة رزق” بعيدا عن مسيرة “يوسف وهبى” صانع نجوميتها ومكتشفها ومانحها المكانة الفنية التى تليق بموهبتها، وكان الوسط الفنى يعتبر إضراب “أمينة رزق” عن الزواج نتيجة مباشرة لارتباطها به، روحيا وفنيا، لكن الحقيقة أنها نفت هذه العلاقة العاطفية المزعومة، وقالت للصحافة الفنية إنها تعتبر “يوسف وهبى” المعلم والأستاذ، وإن زيجاته الثلاث، كانت هى “الوسيطة” فيها، وهذا يجعلنا نتوقف أمام العلاقة الفنية التى ربطت بين “الأم العذراء” أمينة رزق، و”مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ فن التمثيل”، ونجد الإجابة فى برنامج “اتنين ع الهوا” الذى أخرجه “نبيل عبد العظيم” للقناة الأولى ـ التليفزيون المصرى ـ وشارك فى تقديمه المذيع “طارق حبيب” وهو الذى سأل “أمينة رزق” عن مشوارها الفنى المرتبط بالفنان “يوسف وهبى” عن جذور تلك العلاقة، فقالت إنها التحقت بقرقة رمسيس، التى أسسها “يوسف وهبى” وتدرجت فى “التمثيل” على خشبة المسرح، حتى أصبحت “بطلة” الفرقة، وقالت “أمينة رزق” ضاحكة: “الناس منحونى لقب، ندابة فرقة رمسيس”، لكن الفنان الرائد “زكى طليمات” له كتاب مشهور اسمه “ذكريات ووجوه” طبعته “هيئة الكتاب” فى سبعينيات القرن الماضى، وفيه فصل عن “يوسف وهبى”، قال فيه ـ طليمات ـ إنه رفض العمل مع “يوسف وهبى” فى فرقة رمسيس، لأن “روزاليوسف” ـ الفنانة والصحفية المعروفة ـ كان زوجته، وكانت على “خصومة” مع يوسف وهبى، ولكن زكى طليمات لم ينكر على ـ وهبى ـ تميزه الفنى ومغامراته التى جعلته يستثمر الثروة التى ورثها عن والده “عبدالله باشا وهبى” وقدرها “عشرة آلاف جنيه ذهبية” فى مجال المسرح، فى زمن كان فيه هذا الفن لا يجد معونة من الحكومة ولاتشجيعا، وكانت حيوات الفنانين قاسية تتعرض لهزات عنيفة، بسبب ما تعرض له الفرق المسرحية من إفلاس، يجعلها غير قادرة على دفع أجور الممثلين، ولو راجعنا تفاصيل قصة انتقال “أمينة رزق” من “طنطا” إلى “القاهرة” ثم عملها فى فرقة “على الكسار” ومعها “أمينة محمد” خالتها المغامرة الجريئة، سوف نجد أن فرقة رمسيس هى مدرستها الأولى، فيها تعلمت قواعد التمثيل، وفيها حققت شهرتها، ولما سألها ـ سمير صبرى، فى حلقة من برنامجه “النادى الدولى” عن الدور الكبير الذى أشعرها بالتحقق الفنى، قالت إنه دورها فى مسرحية “بنات الريف” التى قدمتها مع فرقة رمسيس، وتناولت عدة أدوار لها، كلها كانت ضمن مسرحيات الفرقة ذاتها، ومما روته ـ أمينة رزق ـ للصحافة الفنيةـ أن الفنان يوسف وهبى هو من وهبها للفن، فى العام 1930وهو العام الذى تلقت فيه “عرض زواج” من شاب ثرى، طلبها للزواج مشترطا عليها اعتزال التمثيل، وكادت أن توافق على العرض السخى، لكن برقية من “يوسف وهبى” غيرت مسار حياتها، كان الفنان الرائد فى إيطاليا يجهز لتصوير فيلم “أولاد الذوات” وكان المتفق عليه قيام الفنانة “بهيجة حافظ” بالبطولة النسائية، ولكن خلافا وقع بينها وبينه، فأرسل برقية إلى “أمينة” يطلب فيها الحضور إلى “روما” فى إيطاليا، للقيام بالبطولة بدلا عن “بهيجة حافظ”، فاعتذرت “للعريس الثرى” واختارت السفر إلى روما والعمل مع “يوسف وهبى”، وكأن ـ برقية يوسف وهبى ـ كانت الذريعة التى انتظرتها “عذراء المسرح” لتواصل مشوارها الفنى، مضحية بلقب “ماما” لأنها عرفت وتعلمت أن الفن لايحتمل وجود شريك آخر فى حياة الفنان، واختارت الفن، لكن العاملين بالوسط الفنى منحوها لقب “ماما أمينة” تعويضا عن الأمومة الحقيقية، فأصبحت “الأمومة” قضيتها الكبرى، وقدمت أدوار الأمهات الشعبيات وعبرت عن أمهات البيئات المصرية، قدمت الأم الصعيدية فى “مسلسل الأيام، وفيلم ناصر 56” والأم البدوية فى فيلم “دعاء الكروان” والأم القاهرية فى عشرات الأفلام من أشهرها “الكيت كات” و”السقا مات” ولما سألها ـ سمير صبرى ـ عن “خبرة الأمومة” التى استمدت منها نجاحها الفنى على المسرح وعلى الشاشة، قالت إن “الحنان” فطرة فيها، منذ أن كانت طفلة صغيرة، وإن الإنجاب ليس شرطا لمنح المرأة الحنان، وقالت إنها عرفت فى حياتها أمهات قاسيات القلوب لم يمنحن أولادهن الحنان المتوقع منهن.
وعاشت “أمينة رزق” مخلصة للفن، والمجتمع، والأمومة، والمرأة المصرية، لأنها كانت تؤمن بأن “الفن رسالة” وهذا هو الدرس الكبير الذى علمه لها أستاذها “يوسف وهبى” وفى “24 أغسطس 2003” فارقت “أمينة رزق” الحياة، وبقيت أدوارها فى قلوب الجماهير.
#سيدات #النهضة #المصرية #أمينة #رزق. #تلميذة #يوسف #وهبى #وأشهرأم #فى #السينما
تابعوا Tunisactus على Google News