- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

سيميائيات العصا | القدس العربي

حين توقف المطر أغلقت المطرية ودون أن أشعر اتخذتها عصا أتكئ عليها وأنا أسير في شارع يعج بوجوه الغرباء. وبما أن لي ذهنا يسأل في كل شيء، وبما أنه لا شيء في الخارج يشده، تساءلت وأنا أنظر إلى المطرية كيف تحولت لديّ إلى عصا أستعين بها، أنا الذي لا أحتاجها للمشي على ثلاث. تذكرت لغز أبي الهول (السفانكس) في الأسطورة الإغريقية الذي طرحه على أوديب: «من هو الكائن الذي له صوت وحيد ويكون له أربعة سيقان في الصباح، فساقان في الظهر ثم ثلاثا في المساء؟». بات اللغز بسيطا اليوم إذ لست مطالبا أن تكون أوديبا حتى تجيب عليه. ستدرك أن الإنسان وهو في زاول يومه يمشي على ثلاث وتكون العصا ثالثة الساقين. يقبع السفانكس في الأسطورة أمام باب طيبة ويسأل المسافرين القادمين إليها أن يجيبوا، فالإجابة هي جواز العبور إلى داخل المدينة.
العكاز وهو في هذا اللغز ساق ثالثة، تساعد الساقين على التنقل والحركة حين يصيبهما الوهن، فهو يقي الماشي من السقوط، حين يصبح الاعتماد المثنى على الساقين غير كاف. لا أحد يعلم متى بدأ العكاز يعين الهرم على المشي، وأغلب الظن أنه كان بفعل الحاجة وليس بفعل الصدفة، لأن الاستعانة في المشيء بشيء طبيعي لا يحتاج صناعة ولا تدبرا، بل هو جزء من عقل المرء الوظيفي، الذي قرّب إليه أن يلتحف بشيء للوقاية من القر أو الحر. أن تمشي متكئا على عصا فذلك ضرب من الاستفادة الوظيفية من الطبيعة، لكن الصناعي أو الفني هو في تصنيع الأداة المعينة. الاستعانة بالعصا وهي غصن طويل متين من شجرة هو ضرب من التوليد الصناعي، أو التحويل البدائي من غصن متين إلى عصا يُتكأ عليها، وهذا لا شك يتطلب ضربا من الاستعارية والتهذيب. الاستعارية في أن العصا ينبغي أن تكون منتصبة على هيئة الساق، وتوضع بالتوازي مع فرع الجسد. الجسد في تصورنا القديم شجرة متحركة، ولذلك نجد في اللغات الطبيعية كثيرا من تسميات الأشجار وثمارها وأوراقها، تستعار لتسمية هذا الجزء من الجسد أو ذاك. يكفي أنا نسمي قامة الإنسان فرعا، ولاسيما حين تكون مهذبة جميلة مليحة، كالتي عند النساء الفارعات. الفارعة والفرع تسميتان مشتقتان من أصل الشجرة. المرأة الفارعة أو الشاب الفارع هي التي تجمع بين الطول والامتلاء، إذ لا فائدة من امتلاء بلا طول ولا من طول بلا امتلاء. هذا في مقاييس الجمال العربية القديمة بلا شك.
ويسمى الخصر القُصب، ومن القصب استعيرت للجسد تسميات كثيرة مثل قصب اليدين أو الرجلين، يعني العظام المستديرة المستطيلة المجوفة، ويقال قصّبت المرأة شعرها بمعنى فتلت خصله حتى يصير كالقصب، لكن للقصب سيقان كما للإنسان، سيقان أيضا هذا من تناقل التجارب بين الإنسان والطبيعة في تعيين الأشياء وإدراكها.
لا شك في أن بين اتخاذ الإنسان الأول العصا عكازة، واتخاذها في عهد الفراعنة رمزا حقبا واستعمالات ثقافية كثيرة، فقد وجد في قبر توت عنخ آمون أكثر من مئة وثلاثين عكازا من الذهب والخشب الرفيع، ومن الصدف والحجارة الكريمة. هناك تمثال يجسد هذا الفرعون وهو يحمل في يديه عصا طويلة، هي بكل تأكيد عنصر من عناصر السلطة والاستعراض، غير أن العكازة قد وجدت في كل مقابر الموتى المصريين القدامى بقطع النظر عن انتماءاتهم الطبقية ويبدو أن هذه العكازات كانت متعددة الوظائف، فهي تعتمد سلاحا يقي ضرر الحيوانات والزواحف، بالإضافة إلى كونها عنصر دعم للماشي مثلما هو دورها اليوم. في هذا الجو من رمزية العصا وردت الآية 18 من سورة طه بقوله تعإلى على لسان موسى (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكأُ عَلَيْهَا وَأَهُش بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ) وأطال المفسرون العرب في تفسير معنى الهش فأرجعه أغلبهم إلى ضرب الأشجار لإسقاط الأوراق فترعاها الأغنام، ذهبوا هذا المذهب، رغم أن من معاني الهش صولة الراعي وهو يمشي بين الأغنام، غير أن المفسرين احتفظوا بشيء من هذا جزءا من أجزاء المعنى الأول وهو التوكؤ. ليست حالة التوكؤ التي تقصد في التفاسير راجعة إلى عجز عن المشي، لأن من صفات الراعي أن يكون ممن هم في شرخ الشباب، لكن الاعتماد هنا قد يكون نابعا من صعوبة المشي في الفضاء، وليس من صعوبة المشي في ردح معين من العمر.

المعنى الثاني وهو المشي الاستعراضي بالعصا، أي أن يمشي الراعي بين أغنامه متخايلا يشبه في استعراضيته مشية الفرعون وهو يعرض صولته بين يدي حاشيته، أو رعيته.

غير أن هذا المعنى يرفضه آخرون حين يعتبرون الهش كالهس وهو زجر الغنم، ويبدو هذا المعنى الأقرب إلى استعمال العصا من معنى إسقاط الأوراق وهو ما يمارسه الرعاة اليوم، حين يستعملون هذه العصي في زجرها، لا بالصوت بل بالحركة الخفيفة أو الثقيلة للرعاة قاسيي القلوب. المهم أن المعاني الثلاثة في أهش هي معان مستمدة من وظيفة العصا، فهي أداة لإسقاط الثمار أو جنيها، ونحن في تونس نعرف كيف تستعمل عصا التين الشوكي في جنيه واستعمالها في جني الزيتون بالطريقة التقليدية العنيفة. رمزية هذه الوظيفة موجعة، لأن العصا التي تتخذ من الشجرة تعود كعصا الفأس التي تعضده، كي تقطع أمها الأولى. أن تهش العصا فتنزل الأوراق بعنف أو أن تسقطها من غير زمان سقوطها فذلك يعني أن الإنسان قد أكسب العصا وظيفة عنيفة ثورية تعصف بأصلها قبل أن تعنف عدو الإنسان.
المعنى الثاني وهو المشي الاستعراضي بالعصا، أي أن يمشي الراعي بين أغنامه متخايلا يشبه في استعراضيته مشية الفرعون وهو يعرض صولته بين يدي حاشيته، أو رعيته. العصا هي جزء من الفرعنة بين الراعي ورعيته، لا ندري كيف يمكن أن يمشي الفرعون الراعي، أو الراعي المتفرعن، لكن لا شك أن في تلك المشية ضربا من البروتوكولات، التي تظهر المهابة عند الأول وادعاءها عند الثاني، لكن الأكيد أن شيئا من التقارب الثقافي يحيلنا إلى ضرب من التقليد، تعتمد فيها العصا بقطع النظر عن نوعيتها ورفعة مادتها وزينتها في استعراض البأس والشدة والصلف.
مربط المعنى في الآية أعلاه ليس ما ذكر للعصا، بل ما لم يذكر ويفهم من لفظ (مآرب أخرى) وفي هذا أطال المفسرون بالرجوع إلى ثقافة العرب، لا إلى ثقافة موسى وفرعون، وهم معذورون في ذلك للجهل بما كان للعصا من وظيفة في ذلك الوقت، ولأن تلك الوظيفة يمكن أن تسترسل بين الثقافة فتأخذها ثقافة عن أخرى، فقد ذكروا من المآرب أنها كانت محملا يلقى عليها ما يظلل في حمارة القيظ، أو تلقى على العاتق ويحمل عليها القوس والكنانة والمخلاة، ويمكن أن يقاتل بها السباع وغير ذلك من وسائل الحماية والحمالة.
حاول الجاحظ في «البيان والتبيين» تقريظ العصا وربطها بأرفع أحوال الكلام وهو الخطابة، وبأقدس أحوال السحر، محيلا على إلقاء السحرة عصيهم التي تحولت أفاعي وكيف أن عصا موسى التي انقلبت إلى حية أبادتها. لكن العصا التي تمايلت رموزها بتمايل أغصان التاريخ، وتنوعت بتنوع الحضارات، ظلت أقرب في المخيال الشعبي إلى معنى التأديب والمعاقبة، فقالت العرب العبد يقرع بالعصا: (والعبد تكفيه الإشارة). وقال أبو الطيب لا تشتر العبد إلا والعصا معه. وفي رمزية السلطة الحديثة، تستعمل عبارة العصا والجزرة لضرب من السياسة التي تجمع بين أكلين أكل الموجع وأكل المعيش البسيط. الرمزية الشعبية الأكثر أن العصا اقترنت بالأكل، ولهذا نحن نقول في تونس (كليت طريحة) بمعنى ضربوني ضربا موجعا بالعصا أو بغيرها.
عاد المطر ينزل ففتحت مطريتي وأعدت لهذه الآلة دورها وهيبتها، لكن شيئا ما يقول لي وأنا أحملها بين يدي، إني أحمل عصا تحجب عني عين السماء يوم لا ظل إلا مظلتها.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

- الإعلانات -

#سيميائيات #العصا #القدس #العربي

تابعوا Tunisactus على Google News

- الإعلانات -

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد