سيناريو الإجراءات المؤلمة: معادلات صعبة في تونس | أسامة رمضاني
بعد المحادثات التي أجراها مؤخرا وفد عن صندوق النقد الدولي مع كبار المسؤولين التونسيين تجدد الاهتمام بمواضيع بقيت تراوح مكانها منذ عقود ومن بينها إعادة تنظيم المؤسسات العمومية المنهكة ماليا والضغط على المصاريف الحكومية بما فيها أجور الموظفين والنفقات المنجرّة عن صندوق التعويض.
وإن كان السجال بين الحكومة واتحاد الشغل حول الموضوع حديث العهد فإن التجاذبات حول إشكاليات الإنفاق العمومي وتداعياته الاجتماعية والسياسية لم تتوقف أبدا في تونس منذ الاستقلال. كانت التجاذبات تهدأ أحيانا لكن سرعان ما تطفو مجددا على السطح. كانت تتخللها منذ سبعينات القرن الماضي هزات اجتماعية تولدت عن الترفيع في أسعار الخبز أحيانا ولكنها نتجت مرات أخرى وبمسميات عدة عن عدم الرضا عن سياسات الدولة تجاه تحديات التنمية وتوفير الشغل ومحدودية ما وفرته لشرائح من المجتمع ومناطق من البلاد لم تعد تقبل بالحرمان كنمط عادي للحياة.
قبل وبعد “أحداث 2010 و2011” التي أطاحت بنظام بن علي، تعددت الأسباب والشعارات الملهمة للاحتجاجات. ولكن الإشكال الجوهري كان ولا يزال: منوال تنمية أصبح تدريجيا غير قادر على توفير الشغل أو الدخل الكافي لطبقات اجتماعية هي أصلا ضعيفة الحال، من جهة، وحكومات متعاقبة سعت إلى ربح الوقت وتهدئة الأوضاع بمواصلة الانتدابات في الوظائف الحكومية وتوظيف النفقات العمومية، من جهة أخرى.
هذه السياسة التي وصفها الكثير من المحللين بسياسة الهروب إلى الأمام لم تنجح في استنباط الحلول اللازمة من أجل الخروج من حالة الركود الاقتصادي التي فاقمت عجز الميزانية وارتفاع نسبة التداين للخارج ومعدلات البطالة.
وزادت جائحة كورونا الطين بلة من حيث ضربها لمواطن الشغل وتوسيعها لرقعة الفقر، وهي من جملة العوامل التي زادت في منسوب الاحتقان الاجتماعي وغذّت الحركات الاحتجاجية.
منذ 2011، على وجه التحديد، أصبح حديث السياسيين يدور باستمرار عن “الإجراءات المؤلمة” التي يودّون أو ينوون اتخاذها في إطار الإصلاحات الاقتصادية التي تحتاجها البلاد.
وفي قاموس الطبقة السياسية كانت الإجراءات “المؤلمة” دوما تعني التقليص من الإنفاق العمومي وخصخصة الشركات الحكومية التي تواجه مصاعب مالية. ولكن النخب الحاكمة بمختلف أطيافها السياسية لم تجد من سبيل في معظم الأحيان سوى مواصلة سياسة الإنفاق العمومي والمزيد من الانتدابات في الوظائف العمومية، رغم تنبيه البنك الدولي مرارا السلطات من أن عدد الموظفين الحكوميين وعبء جراياتهم على الموازنة بلغا حدا غير مقبول.
اليوم وقد تدهورت المؤشرات فلم يعد هناك هامش كبير للتغافل عن الأوضاع حتى وإن كانت التحويرات الوزارية المتواصلة توفر مخرجا لمن ينهكه البحث عن الحل.
النخب الحاكمة لم تجد من سبيل سوى مواصلة سياسة الإنفاق العمومي، رغم تنبيه البنك الدولي مرارا السلطات من أن عدد الموظفين الحكوميين بلغ حدا غير مقبول
حتى من لم يكن يفقه في الأرقام من بين التونسيين أصبح يعرف أن الموازنة العامة تواجه عجزا بنسبة 11.5 في المئة ونسبة تداين تتجاوز 90 في المئة من الناتج المحلي الخام.
ويعرف أيضا أن مبالغ القروض التي تسددها الدولة ارتفعت من ثلاثة مليارات دينار سنة 2010 إلى 16 مليارا في هذا العام. ويعلم بالتأكيد أن السلطات سوف تسعى هذه السنة إلى اقتراض 19.5 مليار دينار ( حوالي 7.2 مليار دولار)، من بينها خمسة مليارات دولار من القروض الأجنبية.
احتدت نبرة النقاش بعد المباحثات الأخيرة مع صندوق النقد الدولي وتصريح رئيس الحكومة هشام المشيشي بأن “لا خطوط حمراء” أمام سيناريوهات تخفيف عبء الشركات الحكومية التي تعاني من عجز أثقل كاهل الدولة، في وقت يبلغ فيه عجز الشركات العمومية قرابة ستة مليارات دينار (أي حوالي 2.2 مليار دولار)، ما أثار مخاوف النقابيين وأوحى لبعض المراقبين بأن الدولة تنوي فتح ملف خصخصة المؤسسات بجرأة أكبر من الماضي.
لكن الأمر يتعلق بملف شائك، إذ تبقى الإدارات الحكومية قلعة حصينة بحكم أنها تمثل النواة الصلبة للطبقة الوسطى، وهي عدديا أكبر شريحة في المجتمع رغم تآكل أطرافها الدنيا خلال الأعوام الأخيرة والتحاقها بالفئات الفقيرة.
أكد نورالدين الطبوبي أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل استعداد منظمته لمناقشة أوضاع الشركات الحكومية، حالة بحالة، على أساس محاولة إنقاذ الشركات وتحسين حوكمتها وليس بالضرورة التفريط فيها.
يبقى أن للنقابات موقفا مبدئيا يعارض عموما التفريط في المؤسسات العمومية أو الاستغناء عن موظفيها أو المس بأجورهم. وهؤلاء يشكلون القاعدة الأوسع لمنتسبي اتحاد الشغل.
لفت الانتباه أيضا على الساحة التونسية كلام وزير المالية علي الكعلي بخصوص مراجعة طرق التأجير وإعادة تنظيم روزنامات العمل من أجل التقليص في الأجور وتخفيض كلفة الإنتاج، بعد أن بلغت رواتب الموظفين الحكوميين “الحد الأقصى”، إذ هي، حسب قوله، تشكل حوالي 20 مليار دينار (حوالي 7.4 مليار دولار) من جملة الموازنة العامة التي تبلغ 52 مليار دينار (أي حوالي19.2 مليار دولار).
والمفارقة في تونس هي أن الإدارات الحكومية لها قدرة عجيبة على التمدد والنشوء من جديد حتى عندما يعلن المسؤولون عزمهم على تقليص وجودها. منذ عقود ما انفكت الإدارة العمومية تتضخم وتشهد ولادة المزيد من الدواوين والوكالات والصناديق والهيئات التابعة للدولة دون أن ينقرض أيّ من هياكلها القديمة.
الشارع التونسي لم يهدأ
من آخر الأمثلة ما أعلن عنه المشيشي في خضم الإصلاحات المنشودة، إنشاء مؤسسة حكومية جديدة، هذه المرة “للإشراف على إصلاح الشركات”. وأعلن وزير الصحة من ناحيته عن النية في تأسيس صندوق يتكفل بالتعويض عن الخسائر التي قد تنجم عن التلقيحات ضد كورونا.
العقبة الأخرى أمام كل تقليص للمؤسسات الحكومية تبقى العقليات السائدة في المجتمع والتي لا تزال ترى في الوظيفة الحكومية ضمان استقرار ومركزا اجتماعيا محترما وبوليصة تأمين ضد البطالة لا تنتهي صلاحيتها أبدا، لذا الجري وراء الانتدابات الحكومية لن ينتهي بسرعة. وسيستمر ما دامت جاذبية المبادرات الخاصة محدودة بفعل التباطؤ الشديد في النمو (في أفضل الحالات) والعوائق البيروقراطية التي تقف حجر عثرة أمام المبادرات الفردية.
ومن الملفت أن العديد من الحركات الاحتجاجية ما زالت تضع التوظيف الحكومي وتحسين الامتيازات في الوظائف العمومية في مقدمة مطالبها.
وتسعى السلطات أيضا في نطاق نفس الرؤية العامة إلى تخفيض إنفاقها على صندوق التعويض الذي كان من المفروض أن تكون وظيفته التدخل للضغط على الأسعار من أجل مساعدة الفئات المحتاجة.
واعتمادا على أرقام موازنة 2021 تبلغ اعتمادات الصندوق 3.4 مليار دينار (حوالي 1.25 مليار دولار)، ثلاثة أرباعها تخصص لدعم أسعار المواد الغذائية الأساسية والبقية تنفق لتعديل كلفة الكهرباء والبترول والنقل.
ولكن النزر القليل فقط من جهد صندوق التعويض يذهب إلى المحتاجين فيما يستفيد من القسط الأكبر منه كبار المستهلكين من ميسوري الحال والتجار والسياح إضافة إلى مهربي المواد المدعومة من الدولة إلى الخارج. وتتحدث السلطات اليوم عن توزيع مساعدات مباشرة بواسطة البطاقات الذكية المخصصة للمحتاجين عِوَض دعم الأسعار للجميع.
في محاولتها التخفيض من النفقات العامة سواء بمعالجة ملف الشركات الحكومية أو باعتماد الدعم الموجه للأسعار، تواجه البلاد تقاليد راسخة تتمسك بدور محوري للمؤسسات العمومية وتدخّل الدولة، ما يجعل محاولات الخصخصة مصدرا للريبة إن لم يكن للرفض، كما أنها تواجه قيمة رمزية قصوى لأسعار المواد الغذائية. ومن يعتقد عكس ذلك فليتخيل ردة الفعل لو ضاعفت الدولة سعر الخبز مثلا.
وتعمق المشكلة كذلك الشكوك في قدرة الإدارات الحكومية على تركيز منظومة جديدة، في أوج أزمة كورونا، تكون قادرة على تحديد من يحتاج إلى هذا الدعم، وتوزيع البطاقات الذكية في الإبان على كل المحتاجين حتى تحميهم دون غيرهم من غلاء المعيشة.
تواجه الدولة بالتأكيد اختيارات أيسرها قاس. وإن تبدو الأفكار المطروحة ونصائح الخبراء الدوليين منطقية على الورق فإنها تواجه خطر الاصطدام على أرض الواقع بأوضاع اجتماعية هشة لا توفر الظروف المثلى لاتخاذ “الإجراءات المؤلمة”، خاصة في غياب الاستقرار السياسي أو التوافق على نموذج التنمية الجديد والمراد إرساؤه.
تابعوا Tunisactus على Google News