صوت العقل في تونس: لنضعْ السياسة جانبا ونعالج الاقتصاد | مختار الدبابي
يمثل الاتفاق بين الحكومة التونسية واتحاد الشغل أهم حدث في هذه المرحلة، فهو أهم من الاستفتاء والدستور والقانون الانتخابي الذي صدر بعده بساعات ليغطي عليه إعلاميا. وقيمة الاتفاق ليست في طرفيه وإن كان ينبئ بأن صوت العقل قد بدأ يتحكم في المشهد التونسي، وأن خطابات التصعيد والنفي والإهمال والتهميش قد تراجعت لفائدة التوافق، وهذه هي الفائدة.
لا تحتاج تونس الآن إلى التغييرات السياسية في حد ذاتها، وإن كان وجودها مهما للرئيس قيس سعيد الذي يريد بناء نظام سياسي مرن يساعده على تنفيذ أفكاره في الحكم. ما يردده بعض الناس هو ضرورة أن نضع التشريع جانبا الآن ونعالج قضايا الاقتصاد.. نضع السياسة جانبا ونعالج الاقتصاد.. نضع الألعاب الإقليمية جانبا ونعالج الاقتصاد.
ولا شك أن الفسحة الزمنية التي يوفرها الاتفاق بين الحكومة التونسية واتحاد الشغل هي ما يحتاجه قيس سعيد ليتفرغ للإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية العاجلة التي يريدها الناس. تقريبا لم يعد هناك عائق أمام الرئيس سعيد ليفتح معركة التغيير التي يثق الناس في أنه سيبدأها وأنه قادر عليها، لكن التغيير الذي يريدونه لا الذي يريده هو، التغيير الاقتصادي أولا ومن بعد ذلك من حق قيس سعيد أن يغير ما يريد فله الوقت وله المشروعية الشعبية والانتخابية والسياسية.
الأحزاب تم تحييدها عمليا عن التأثير ولم تعد قادرة على العرقلة، كما أن صوتها الخارجي لم يعد مؤثرا، والغرب بات يسمع قيس سعيد ويخاطبه مباشرة بشأن الإصلاحات ولم يعد يحتاج إلى وسطاء ليضغط بهم على الرئيس التونسي.
والآن، ها أن الاتحاد الذي كان يضع ساقا مع الرئيس وساقا مع المعارضة ويصف نفسه بأنه يمثل الطريق الثالث، صار في صف الرئيس وقبل باتفاق رمزي لإرضاء جمهوره وإسكات مناوئي أمينه العام نورالدين الطبوبي من أحزاب صغيرة داخل المنظمة النقابية الأكثر تمثيلية في البلاد.
الاتفاق يعني أن الاتحاد سيرضى بهذه الزيادات الرمزية ويلتزم بهدنة اجتماعية لثلاث سنوات قادمة، وأنه لن يطرح مشاريع لزيادات أخرى ولن يقدم على مناورات ولن يضع العصي في العجلات أمام الرئيس. وهذه فرصة من ذهب للرئيس سعيد، ليس فقط من أجل النجاح في ضم اتحاد الشغل إلى صفه وإظهار أنه مسنود بأقوى قوة في البلاد، ولكن وهذا الأهم أنه سيجد متنفسا له ولحكومته لمعالجة الأزمة الاقتصادية ومخلفاتها دون منغصات وإظهار انه يمتلك القدرة على التفاوض وعلى القبول بالشراكة والتوافق في القضايا التي تحتاج إلى ذلك.
وفي الوقت الذي وصف فيه الطبوبي ما وصل إليه من اتفاق مع الحكومة ومن ورائها الرئيس سعيد بالواقعية والذكاء التونسي، قال غسان القصيبي المكلف بالإعلام في اتحاد الشغل في تدوينة له على فيسبوك بأن ما تم هو “رسالة إلى الداخل والخارج (مفادها) أنه لا توجد حلول لتونس إلا بحل تونسي – تونسي ولا حل بين التونسيين إلا بالحوار ولا استثمار ولا استقرار دون البعد الاجتماعي وتوفير مناخ سليم (…)”.
على السلطة أن توضح أنها ليست مسؤولة عن ندرة المنتجات الغذائية. ثمة أزمة عالمية لا يمكن أن تنأى تونس عنها
أراد الاتحاد التأكيد أنه لا يتصرف بمنطق المكابرة وأن شعار “الاتحاد أكبر قوة في البلاد” لا يعني أنه سيكون قوة عرقلة أو إحباط في وضع مجتمعي محيط.. لقد نقل الطبوبي الضغوط من على كتفيه ووضعها على كتفي الرئيس سعيد وحكومة نجلاء بودن من أجل إظهار ما يمتلكانه من برامج ومن أفكار للخروج من الأزمة.
لم يعد من الممكن أن تواجه الدولة أزمة غلاء الأسعار وندرة المنتجات الأساسية بالركون إلى نظرية المؤامرة؛ فذاك خطاب تعبوي نجح في تجميع الناس ضد الطبقة السياسية المتخلية، لكنه الآن لا يقنع، وعلى الدولة أن تعدل خطابها لتقول للجمهور الواسع الذي يثق في قيس سعيد إن هناك مشاكل عويصة بعضها قديم وبعضها الآخر طارئ، وإن لا أحد معه عصا موسى.
الوضوح مهم بالنسبة إلى الناس، فليست تونس مسؤولة عن أزمة السكر والزيت وندرة المنتجات الغذائية. ثمة أزمة عالمية لا يمكن أن تنأى تونس عنها، ولا أحد يهرب من تداعياتها بما في ذلك دول ذات وزن وإمكانيات مثل بريطانيا. لكن المهم في القصة أن تظهر الدولة أو الجمهورية الجديدة أنها تمتلك أفكارا وخيارات إستراتيجية، وألا تقف عند حدود اللطم والتباكي على المؤامرة والمتآمرين.
سيفتح الاتفاق مع الاتحاد أبواب صندوق النقد الدولي أمام الحكومة التونسية لتوقيع الاتفاق الذي تجري وراءه منذ أشهر، وهو اتفاق سيمكنها من الحصول على الأموال الكافية لبدء الإصلاحات الاقتصادية الضرورية التي ستسمح لقيس سعيد بأن يظهر قدرته على إدارة الدولة وتوفير فرص العمل للناس وتحسين أوضاعهم الاقتصادية، وجلب الاستثمارات.
ومنذ يومين قال المتحدث الرسمي باسم الحكومة نصرالدين النصيبي إن “فريق التفاوض التونسي كان على اتصال مع صندوق النقد الدولي بخصوص البنود الأخيرة للاتفاق الذي يجري الإعداد له مع الصندوق”.
وقال في تصريحات محلية “نأمل التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد قبل نهاية أكتوبر حتى تتمكن تونس من الوفاء بجميع التزاماتها بما في ذلك توفير السلع الغذائية ومنتجات الطاقة ودفع الأجور وخدمة الدين”.
وتبدو الخطوة أقرب الآن بعد الاتفاق مع الاتحاد، وهو ما أشارت إليه وكالة فيتش حين قالت إن توصل الحكومة والاتحاد العام التّونسي للشغل إلى تسوية من شأنه أن يقرّب من إعلان اتفاق بين البلاد وصندوق النقد الدولي على برنامج إصلاح يرافقه تمويل.
وذكرت الوكالة في بيان، أن توقيع اتفاق الأجور من شأنه أن يزيد من فرص التوصل إلى اتفاق طال انتظاره مع صندوق النقد، بشأن القرض المرتقب.
ويريد صندوق النقد الدولي والمانحون الأجانب الرئيسيون من تونس أن تمضي قدما في خفض الدعم وإعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة فضلا عن خطوات للسيطرة على فاتورة أجور القطاع العام.
وأشار الصندوق إلى أنه لن يمضي قدما في خطة الإنقاذ التي تسعى إليها تونس ما لم يوافق عليها اتحاد الشغل الذي يقول إنه يضم أكثر من مليون عضو وأثبت قدرته على إغلاق قطاعات رئيسية من الاقتصاد بالإضرابات.
ومنذ أكثر من 13 شهرا، بدأت تونس مفاوضات غير رسمية مع الصندوق للدخول في برنامج إصلاح اقتصادي جديد، يفضي إلى تمويل بمتوسط 4 مليارات دولار.
ويتضمن البرنامج الإصلاحي للحكومة التونسية إصلاحات مالية وجبائية (ضريبية)، تهدف إلى دفع النمو والاستثمار وتحسين مناخ الأعمال ومنها إعادة هيكلة المؤسسات العمومية والتحكم في كتلة الأجور.
#صوت #العقل #في #تونس #لنضع #السياسة #جانبا #ونعالج #الاقتصاد #مختار #الدبابي
تابعوا Tunisactus على Google News