- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

طرابلس كما وجدتُها… هل هي عودةٌ للحياة؟ (روبورتاج)

- الإعلانات -

كانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف بتوقيت ليبيا… وجدتُ لنفسي مقعدا بجانب طفلتين لم تتجاوزا التاسعة وإمرأتين منتقبتين يقف أمامهما رجل بلحية كثيفة. كان الانتظار قد بدأ يُنهكنا، وكنتُ أشغل نفسي بتأمّل المطار الذي بدا لي أقرب إلى ورشة بناء كبيرة، أغلب أجزائه في طور الإنجاز أو البناء، جدرانا وأقساما وحتى سقفا. لم يكن هناك ما يشد الانتباه طويلا… رُحت أسترق النظر إلى الناس وإلى ملامحهم ثم التفتّ إلى الطفلتين بجانبي فوجدتهما ترْقُبانني بأعين واسعة ملؤها الفضول. ابتسمتُ لهما مُلاطفة فبادلتاني ابتسامة خجولة. أخبرني لاحقا أحد الزملاء المرافقين لي في المهمة الإعلامية التي أخذتنا إلى طرابلس، أنهما لم تُزيلا نظرهما عني للحظة وأنهما تهامستا كثيرا.

كان من الواضح أن اهتمامهما يعود إلى أني المرأة الوحيدة مكشوفة الشعر في مطار ”معيتيقة” الدولي وكنت قد لاحظت في طابور مصلحة الجمارك تواجد تونسيات أخريات -من خلال لهجتهن- لكنهن كن يغطّين رؤوسهن كما البقية. مطار معيتيقة كان يشهد حركية عادية، وعبر مضخمات الصوت كان النداء يوجّه للمسافرين عبر رحلة الخطوط التونسية السريعة في اتجاه صفاقس. 

فوارق.. وقواسم مشتركة

وجدنا في انتظارنا أمام المطار سيارات حملتنا بسرعة إلى نزل وسط طرابلس يُطلّ على بحر المدينة الجميل الممتدّ لكيلومترات طويلة. لم أتوقّع هذا المشهد المُريح. ارتبط البحر في مخيلتي بسواحلنا التونسية حتى صار كأنه حكرٌ علينا… والحقيقة أني لم أكن أنتظر أن أجد نفسي أمام ذلك الأزرق اللا متناهي في قلب العاصمة الليبية، خلافا لوسط تونس الحاضرة. كانت تلك مفاجأتي الأولى..

لم يكن ذلك الاختلاف الوحيد، فشوارع العاصمة الليبية واسعة، وطرقاتها  في حالة جيدة جدا. ثمة مبانِ كثيرة تُمتع البصر بجمالها المعماري وتراوح بين الحديث والعتيق يحمل أصالة ويروي تاريخا، وبدا المشهد شبيها بالمعمار التونسي بما يحيل على وحدة الحضارة والتاريخ بين البلدين المتجاورين. لكن المُلاحظ هو كثرة العمارات غير المكتملة وانتشار حضائر البناء…وهو حال بعض أطراف النزل الذي أقمنا به التي تنتظر إنجازا قد لا يطول. حين سألت السائق الذي كان يقلّنا بسرعة عن السبب، أجابني بأنها مشاريع متوقفة منذ ”ثورة 2011″…

أغلب السيارات التي رأيتها كانت فخمة وجديدة، لكنها لم تكن تعترف كثيرا بإشارات المرور. لم يكن سائقنا استثناءً فوجدتني أسأله عن عدد حوادث الطرقات في المدينة وأنا متشبّثة بمقعدي، ردّ متحمسا : ”الحوادث ‘هلبة’ (كثيرة), من يموتون في الطرقات أكثر بكثير من الذين يقتلهم الرصاص..”..

وجب هنا أن أعترف بأني حين علمتُ برحلتنا إلى ليبيا، عادت إليّ مباشرة مشاهد السيارات رُباعية الدفع الرافعة لرايات سوداء وعلى جوانبها فوّهات الرشاشات و”الار بي جي” تحملها أكتاف ملثمين يجولون بكل حرية في شوارع المدن الليبية، ويطلقون الرصاص في الهواء، كلما عنّ لهم ذلك. قبل السفر، كانت النصائح تنهال عليّ بتوخي الحذر والحيطة وعدم المجازفة بالتجوّل. وذهب الأمر بالبعض إلى ملاحظات تتعلق بمظهري وبالملابس التي يجب أن أرتديها وتلك التي عليّ تجنبها. ووجب أن أعترف مرة أخرى، بأن الخوف تسلل إليّ قليلا، وفعلا وجدتني أنتقي ما سأحمل من ثياب، وألقي في آخر لحظة بوشاح في حقيبتي تحسّبا لطارئ قد يطرأ…والحقيقة أني لم أحتجه مطلقا

عند المساء، بدأت تنقشع تلك الأفكار السوداء التي جئتُ محمّلة بها. أعلمنا المرافقون الليبيون أنه بإمكاننا الذهاب سيرا على الأقدام إلى مطعم محاذ للفندق الذي نزلنا به. كان الظلام قد بدأ يخيّم على المدينة التي اتسمت بالهدوء كما كان الطقس صحوا ولطيفا. حين دخلنا المطعم الذي وجدناه حافلا بالزبائن وأغلبهم من العائلات، علمنا أن أغلب العاملين فيه تونسيون، وهو الحال في بقية المطاعم التي زرناها لاحقا. اكتشفنا ليلتها أن ”دموع التماسيح” تؤكل في طرابلس! فهو إسم يُطلق على طبق يتمثل في حساء بغلال البحر.. وهو يحمل ذلك الإسم لمذاقه الحاد الذي يُسيل دموع الكثيرين، لكن لذّته تدفع إلى مواصلة احتسائه… كان المطعم شبه ممتلئ وكان حرفاؤه منشرحين بما لا يوحي بأنك في بلد يعيش أحداث عنف واشتباكات كل حين. خضنا ليلتها نقاشا طويلا عن المطبخ الليبي والتونسي، واكتشفنا أن أوجه الشبه بينهما عدة، مع فوارق في الأسماء أو المقادير أو طرق الطبخ.

عُدنا سيرا إلى فندقنا في ساعة متأخرة نسبيا، وتركنا المطعم وهو ما يزال يستقبل عددا من الزبائن. الحركة في الشارع كانت قليلة، وتواجد العنصر النسوي شبه منعدم، رغم أضواء إنارة قوية ومنتشرة بشكل يبعث الطمأنينة وإحساسا بالأمان. كما أن دورية أمنية تبدو قارّة تربض أمام النزل.

”موسيقى” الرصاص

ليلتها لم أستطع النوم بسهولة رغم الهدوء الذي لم يكن يمزّقه سوى نباح كلاب بعيدة.. وحال غفوتُ، سمعت دويا متسلسلا جعلني أقفز من الفراش. فتحت باب الشرفة وأخذت أرهف السمع، توقف الصوت وعاد الهدوء إلى المكان، فركنت إلى الفراش ثانية، أقنع نفسي بأن لا شيء يدعو إلى الخوف.

عند الصباح، جلست في الاستقبال أنتظر السيارة التي ستُقلّنا إلى مواعيدنا فلمحت أحد المرافقين الليبيين الذين شاركونا وجبة العشاء. تبادلنا الحديث لدقائق ثم سألته عن الدويّ الذي سمعته فجرا : ”هل كان تبادل رصاص؟ هل حصلت اشتباكات ؟” فأجابني ضاحكا بسخرية: ”اشتباكات ! ههه لا لا .. لعله تمرين أو ألعاب نارية..صوت الرصاص لا يُحدث صدى..”. فتح سؤالي الباب للحديث عن الحروب التي عرفتها ليبيا وطالت طرابلس. قال لي الرجل ”شهدت أحداثا كثيرة منذ 2011.. بما فيها مقتل القذافي..كان ذلك تقريبا أمامي.. أتعلمين؟ في مرحلة ما كان صوت الرصاص غير مخيف بالمرة، بالعكس.. لقد تحوّل أحيانا إلى موسيقى وعزف على الأوتار..” أجبتُ باستغراب: ”وحين يقتل هذا الرصاص شخصا تعرفه أو تحبه.. هل يبقى كذلك؟” أجابني بلا تردّد وهو ينفث دخان سيجارته ”حينها كان دويّه يتحوّل إلى نحيب حزن وغضب” ..”.

الممنوعات..

أردتُ تغيير الموضوع الذي أشعرني بشيء من الضيق، فسألته ونحن نقف أمام باب النزل ”تُرى ماذا يحدث لو طلبت منك سيجارة الآن ودخّنتها هنا؟” نظر إلى متفاجئا لوهلة ثم ابتسم وقال ”سيأتي أحد أعوان النزل ويخبرك بأن التدخين ممنوع”. أجبتُ ”لكنك تدخّن منذ زمن ولا أحد طلب منك إطفاء سيجارتك..”. ردّ  بابتسامة تقفز من عينيه ”تعلمين أستاذة.. هنا ليس مقبولا أن تُدخّن إمرأة في العلن.. حتى وإن كانت أغلب النساء يدخنّ الأرجيلة خلسة.. لكن المهم هو أن لا يكون ذلك أمام الناس..”.

انتقل بنا الحديث إلى حياة الليبيين وعاداتهم، وسألته عن سبب وجود لافتات كبيرة تحذّر الشباب من خطر المخدرات: ”هل المخدرات ظاهرة منتشرة هنا؟”. أجابني مفسّرا ”أظنك تعلمين أن الخمور ممنوعة في ليبيا، وإن نجح البعض في شرائها من السوق السوداء فإن أسعارها باهضة جدا. كما أن القانون الليبي صارم مع محتسيها..البعض يحاول صناعتها في منزله وكثيرا ما فقد أشخاص حياتهم تسمّما بالخلطات التي يصنعون..  ولذلك، فإن البديل الأسهل هو المخدرات بأنواعها.. في ليبيا حقول من الماريخوانا و”الحشيش” و”الخُشخاش”.. لكن المقلق فعلا هو انتشار الحبوب المخدرة.. هذه الحبوب خطرة فعلا..لذلك تُحاول الحكومة التوعية بمخاطرها..”

قدمت السيارة التي ستقلّني أخيرا. كنا يوم أحد، واستغربت الزحام الذي اعترضنا، فسّر لي السائق أن الأحد في ليبيا هو بمثابة يوم الإثنين في تونس. كل الإدارات والمحلات تعود للفتح بعد عطلة نهاية الأسبوع التي تكون يوم الجمعة. أما السبت، فالحركة تكون أبطأ والزحام قليل! . 

كان الطاغي على الليبيين الذين التقيتهم هو الترحاب والكرم حال سماع اللهجة التونسية، وأغلبهم يعرفون تونس جيدا ويحدّثوننا عن زياراتهم المتعددة لمناطق ومدن تونسية. ”سوسة” هي الأشهر والأقرب إلى قلوب من التقيت.

الإعلام و 000 15 إخلال مهني

في الليل نُظّمت لنا زيارة إلى مقر قناة ليبيا الوطنية، وهي القناة الرسمية للدولة. كانت تسمى قناة ”الجماهيرية” في عهد نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي. توقف بثها بعد سيطرة القوات المناهضة على العاصمة الليبية طرابلس في أحداث 2011 ، ليجري تغيير إسمها لاحقا إلى قناة الوطنية.

المقر بدا كبيرا وشاسعا، وهو قيد التجديد، وداخله مكاتب الهيئة العامة لرصد المحتوى الإعلامي حديثة البعث. وهي هيئة تصدر تقارير رصد للمحتوى الإعلامي لأكثر من مائتي وسيلة إعلام انتشرت في ليبيا بعد 2011. وقد احتوى تقريرها الذي صدر مؤخرا، وشمل الأشهر الست الأُوَلى لعام 2022، على أكثر من 15 ألف إخلال مهني في 26 وسيلة إعلامية، وفق ما أكده لنا رئيس الهيئة الذي كان في استقبالنا.
 
دخلنا الأستوديو الرئيسي لبث نشرات الأخبار وبرنامج وحيد صباحيّ. كما زرنا قسم الأخبار الذي كان أنيقا محتويا على تجهيزات جديدة وبتقنيات عالية. وفوجئت بوجود صُحفيات يعملن في تلك الساعة المتأخرة جنبا إلى جنب مع زملائهن.. حين كنا بصدد المغادرة، اشتكى أحد الأعوان الذي رجّحنا أن يكون المسؤول عن السائقين في القناة من قلة السيارات. ”لدينا عربتان فقط للقناة.. لا تفيان بالحاجة أبدا..”. استغربت أن إشكالا مماثلا تعرفه قناة رسمية في بلد مثل ليبيا حيث السيارات غير باهضة والبنزين بخس الثمن.

عُدنا إلى النزل والوقت قد تجاوز منتصف الليل. طرابلس شديدة الجمال ليلا، تناسق رائع بين الأضواء والبنايات والهدوء سائد. أوقفتنا دورية مرورية وطلبت جوازاتنا وأوراق السيارة التي يبدو أنها لم تكن مكتملة. ثم سأل عون عن رخص تخصّنا لا أعلم كُنهها على اعتبارنا أجانب، ثم تناسى طلبه. انتظرنا دقائق قبل أن يسمح لنا بمواصلة طريقنا.

حين امتطينا طائرة العودة بعد الزيارة السريعة لطرابلس، بدت المدينة من السماء هادئة وجميلة كما وجدناها على الأرض. لكن لا أحد يعرف يقينا كيف سيكون الأمر غدا.. قلت لنفسي ”الليبيون شعب طيّب وكريم لا يستحقّ ما يحصل معه..” ثم استدركتُ في قرارتي: ”لا أظن أن شعبا من شعوب العالم يستحق الموت والدمار..”.

أمل الهذيلي

 

#طرابلس #كما #وجدتها.. #هل #هي #عودة #للحياة #روبورتاج

تابعوا Tunisactus على Google News

- الإعلانات -

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد