عامان على الانقلاب في تونس: سلطوية تترسخ وتطبيع شعبي
عامان على الانقلاب في تونس: سلطوية تترسخ وتطبيع شعبي ومقاومة ديمقراطية رمزية
اليوم الثلاثاء يكون قد مر عامان على تونس منذ أن قام الرئيس قيس سعيّد بانقلاب على الدستور في 25 يوليو/تموز 2021، وهو اليوم الذي يوافق احتفال التونسيين بعيد الجمهورية، عندما انتهى حكم البايات، وانتقلت تونس في عام 1957 من الملكية إلى الجمهورية. وجاء الانقلاب بعد ثورة حالمة في عام 2010 تسقط من جديد في براثن حكم الفرد وهيمنة الشخص.
ويتساءل التونسيون اليوم: هل حقّق الانقلاب أهدافه وترسّخ حكمه، وهل ماتت الديمقراطية التونسية نهائياً؟ وكذلك، هل حققت سلطة الانقلاب ما وعدت به التونسيين من رفاه بعد انقلابها على ما تسميه بالعشرية السوداء؟ وأين المعارضة وما هو دورها؟ وهل يكتفي التونسيون بالتفرج على ضياع حلم الديمقراطية أم أنهم راضون على الوضع؟
مشهد تونسي متناقض
صور مختصرة من واقع التونسيين اليوم، يمكن أن ترسم ملامح هذا المشهد المتناقض. فالرئيس قيس سعيّد كان يخطب، أول من أمس الأحد، وسط حشد من المسؤولين مباشرة من روما، وكأنّ المجتمع الدولي سلّم بالأمر الواقع وأدار ظهره نهائياً للديمقراطية الوحيدة في المنطقة، بينما في المقابل، نواب ومسؤولون ومنظمات من دول عديدة في العالم ينتقدون عودة الديكتاتورية في تونس.
لم تحقق حكومة سعيّد شيئاً مما وعدت به، فيما تتزايد أعداد الحالمين بمغادرة البلاد
وفي المشهد الحقيقي لحياة التونسيين، لم تحقق حكومة سعيّد شيئاً مما وعدت به، إذ تستفحل الأزمة الاقتصادية عكس ما كانت تعهدت به، مع انقطاع الماء والكهرباء، واختفاء سلع وأدوية، ومعاناة مستشفيات، إضافة إلى انهيار العملة والخزائن الفارغة التي تنتظر قروضاً جديدة لتثقل كاهل التونسيين، فيما الأسعار تلتهب في الأسواق. والأهم فقدان الأمل وتزايد أعداد الحالمين بمغادرة البلاد، والشباب الذي يلقي بنفسه في البحر، بينما سعيّد يقايض بهم وبالمهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء ليكسر الخناق الدولي من حوله.
غير أن سعيّد يعتبر أن “ما تحقق في تونس بعد 25 يوليو 2021 هو من قبيل المعجزات”. وهو قال خلال زيارة إلى ولاية القيروان، في مارس/آذار الماضي، إنه “اتخذ القرار (إجراءات 25 يوليو) بينه وبين نفسه بعد زيارة إلى المستشفى الجهوي في الرديف (جنوب البلاد) حيث لا ماء ولا كهرباء ولا أوكسجين”. وتابع سعيّد أن “إجراءات 25 يوليو 2021 جاءت لتصحيح المسار وتحقيق أهداف الشعب التونسي في الشغل والحرية والكرامة”.
السؤال اليوم، وفيما يمسك سعيّد بكل السلطات بلا رقيب أو حسيب: هل حقّق هذه الوعود أو حتى بعضاً منه؟
وفي المشهد أيضاً، يعود اليوم مؤمنون بالديمقراطية التونسية ومتمسكون بالثورة إلى شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة تونس، في صورة تؤكد أن هناك معارضة لا تزال تتنفس على الرغم من كل الضربات التي تلقتها، وأن أملاً لا يزال كامناً في استرجاع ما ضيعته المناكفات السياسية.
هذه هي طبيعة المشهد المتناقض، إذ يرى كلّ من موقعه تونس، اليوم، بين متشائم ومتفائل. فكيف يتلخص هذا المشهد وإلى ماذا يؤشر؟
شيطنة “العشرية السوداء” ترسّخ الانقلاب
يقول مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس مهدي مبروك، في حديث لـ”العربي الجديد”، إنه “حين أعلن الرئيس ليلة 25 يوليو منذ سنتين انقلابه الناعم، ظنّ كثيرون أن الأمر لا يعدو أن يكون مزحة ثقيلة ستبين الأيام القليلة اللاحقة زيفها، وبحث البعض عن تفسير لكل تلك البرودة بل والترحاب العلني والخفي لما حدث”.
ويضيف مبروك: “ذهب البعض إلى فرضية شراء الذمم ليلة خرج الناس في سياراتهم يطلقون منبهات الصوت، وذهب البعض الآخر إلى حالة الخوف والحذر لشعب لم يتعود على الانقلابات، باطنها وظاهرها، فأقصى ما سجّلت ذاكرة من بلغ الآن أكثر من 50 عاماً هو بيان طبي أزاح الرئيس الحبيب بورقيبة (من قِبل زين العابدين بن علي في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987)، وذهب آخرون إلى اعتبار ذلك بهتة ظرفية في انتظار أن يسترد العقل التونسي برودته وصرامته”.
ويتابع مبروك: “كان الكثير منا يعتقد أن أشهراً قليلة وسيضطر النظام إلى مغادرة الحكم طوعاً أو كرهاً: صعوبات اقتصادية متراكمة وشعب متمرد لن يرضى بالعودة إلى مربع الاستبداد، وكان الجميع يراهن على أمرين: الزمن الذي يدفع النظام إلى ارتكاب حماقات عددية حتى يكتشف الناس سوء أدائه وإخفاقاته الذريعة، والشعب العظيم الذي لن يقبل أن تمسّ حرياته”.
مهدي مبروك: الأوضاع مرشحة لأن تستقر، والانتخابات ستجرى، وسيعاد إنتاج شعبوية سعيّد
ولكن مبروك يشير إلى أنه “بعد سنتين، لم يتحقق شيء من ذلك، إذ استطاع النظام أن يتأقلم مع الزمن، بل وأن يخلق زمنه الخاص، زمناً صنعه من شيطنة “العشرية السوداء” وجعلها شيئاً كريهاً وبغيضاً”.
وبرأي مبروك، فإن “الشعب مستعدٌ لأن يؤبد الراهن على عيوبه وكوارثه على أن يعود إلى الوراء كما يقول الرئيس في شعاراته الشعبوية العديدة”. ويلفت إلى أنه “اليوم، اختفت جلّ المواد الغذائية وارتفعت الأسعار وتردت الخدمات العمومية من دون أن يحتج الناس أو ينزلوا ولو لمرة واحدة للتعبير عن هذا الغضب”. ويرى مبروك أن “حرّية الناس قُلّصت وسجنت نخبهم وحوكمت عامة الناس ممن يتكبدون تدوينات خارج السرب المطيع للنظام، وهم مستعدون للتنازل أكثر. لم يعد ممكناً رفع شعار “لا خوف بعد اليوم” لدى فئات واسعة”.
ويعتبر مبروك أنه “بعد سنتين من 25 يوليو، جرى تفكيك كل مؤسسات مرحلة الانتقال الديمقراطي وبُنيت سردية شعبوية تسلطية جديدة تعيد بناء القائد المنقذ”. ويرى أنه “يجرى تفريغ الساحة من السياسيين، فيصور الإعلام الدعائي للسلطة أن الجميع فاسدون وأنهم خانوا الثقة وهم عملاء خونة، حتى تظل الساحة فارغة لا يلعب فيها إلا رئيس أوحد مغرم بأن يسجل في شباك فارغة وأمام جمهور يؤله لاعبه الأوحد”.
ويعتبر مبروك أن “الضربة الأليمة التي وجهت إلى قادة جبهة الخلاص الوطني (المعارضة لسعيّد) ومن كان ينوي الاقتراب منهم جرفت ما كان يمكن أن يتراكم في أفق أي انتخابات مقبلة. ما يعني أن طريقاً سريعاً يفتح للنظام، على الرغم من بعض الأجسام التي قد تتشكل مستقبلاً من أجل قطع الطريق على استفحال كل هذا العبث”.
رهان على الاقتصاد وتقاطع المعارضات
وعن التطورات الممكنة في المستقبل، يقول مبروك: “لا أعتقد أن الأمور ستشهد تغيراً ملموساً في مستوى إدارة الحكم أو تغييره أصلاً، والأوضاع مرشحة لأن تستقر، والانتخابات ستجرى، ربما ليس في موعدها، وسيعاد إنتاج شعبوية سعيّد”. ويتابع: “سيخلف سعيّد سعيّد، ولن نرى بديلاً عن كل هذا الانحطاط الذي وصلنا إليه، وأعتقد أن الغرب قد وجد في سعيّد حليفاً يطمئن إليه: مكافحة الهجرة، والولايات المتحدة سترضى حتى لا يرتمي في أحضان الصين، أما الداخل فهو مفتت يضرب الوهن عمق أعماقه”.
قد يشاطر كثيرون رأي مبروك، خصوصاً أن سعيّد نفذ كل ما أراد من دون مقاومة تذكر، فقد حلّ البرلمان السابق وسجن نواباً ومسؤولين معارضين، ومواطنين لمجرد تدوينة، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء ونصّب آخر، وحلّ هيئة الانتخابات المستقلة ونصّب أخرى. كما كتب دستوراً وحده وأصلح أخطاءه بنفسه، ونظّم استشارة إلكترونية كانت أرقامها مضحكة، وكذلك انتخابات تشريعية كانت نسبة المشاركة فيها الأقل في تاريخ تونس وربما في غير تونس أيضاً. وهو اليوم، على الرغم من كل الوضع الاقتصادي الرديء، يواصل طريقه غير آبه بأحد، من الداخل أو الخارج، بينما المعارضة لا تزال مختلفة ومشتتة.
القيادي في حركة “النهضة” مستشار رئيسها رياض الشعيبي يقول، لـ”العربي الجديد”، إن “المعارضة بعد سنتين من الانقلاب تبدو اليوم أكثر اقتراباً في رؤيتها السياسية لما يحدث في البلاد ولسبل الخروج من الأزمة”. ويضيف: “اليوم تتفق جبهة الخلاص الوطني، المكون السياسي الرئيسي للمعارضة، والرباعية الديمقراطية الاجتماعية (التيار والجمهوري والعمّال والتكتل)، على أن ما يحصل في البلاد انقلاب على المؤسسات الديمقراطية وعلى الشرعية الدستورية”.
ويرى الشعيبي أنه “ولئن كان الاختلاف لا يزال يشق هذه القوى في تقييمها للانتقال الديمقراطي، إلا أنها تجمع على شرعية تلك المرحلة وعلى انطلاق أي عملية إصلاح من مكاسب وأسس تلك المرحلة، سواء ما تعلق منه بدستور 2014 أو بالمنظومة الانتخابية واستكمال بناء المؤسسات الدستورية”.
ويتابع الشعيبي: “لئن تعطل الالتقاء السياسي الميداني إلى حد الآن بين تلك القوى، إلا أن الواقع فرض عليها التلاقي في بعض المحطات الحقوقية، وسيدفعها حتماً للتقاطع النضالي كلما ازدادت ثقتها بقدرتها على التغيير وبسرعة انهيار السلطة”.
رياض الشعيبي: لامنطقية السلطة ستجعلها معرضة باستمرار للوقوع في الأخطاء
وبخصوص مضي سعيّد في ضرب كل معارضة ممكنة، وخصوصاً التجرؤ على الخط الذي كان يعتبر أحمر، وهو سجن رئيس “النهضة” راشد الغنوشي، يقول الشعيبي: “لقد كان اعتقال الشيخ راشد الغنوشي متوقعاً منذ الأيام الأولى للانقلاب، وما هرسلته (استفزازه والتحرش السياسي به) في عدد من المرات بجرّه لتحقيقات في قضايا واهية إلا من أجل الضغط عليه للتوقف عن القيام بدوره في قيادة المعارضة”. ويضيف: “لذلك لم نُفاجأ عندما اعتقل ليلة 27 رمضان (17 إبريل/نيسان الماضي)، خصوصاً أن قيس سعيّد هدده مباشرة في كلمته قبل أسبوع وتوعده بالانتقام”.
ويعرب الشعيبي عن أسفه لأن “هذه السلطة لا منطق ولا عقل لها، لذلك لا تستطيع أن تضع معها قواعد للصراع، أو ما يسمى بالخطوط الحمراء. وعلى الرغم من انتهاكاتها المؤلمة والفظيعة، إلا أن لامنطقيتها ستجعلها معرضة باستمرار للوقوع في الأخطاء، وتبعاً لذلك، عرضة لمزيد من العزلة والضعف. فما استهلكته من أرصدتها خلال أقل من سنتين ما كان ليحصل لو كان عندها بقايا عقل أو منطق”.ويوضح الشعيبي أن “السلطة بعد الانتخابات العامة التي نظمتها أواخر العام الماضي وبداية العام الحالي (في دورتين)، والتي اكتشفت خلالها ضعف حاضنتها الاجتماعية، اختارت التوسع في الاعتقالات وافتعال القضايا لمحاولة النجاة من مواجهة فشلها والتخلص ممن تعتبرهم تهديداً لها، لكن هذه الإجراءات التعسفية لم تزدها إلا ضعفاً وساهمت في تقوية المعارضة وتجذرها”.
ويراهن كثيرون في تونس على المعطى الاقتصادي والاجتماعي، خصوصاً أن فشل سعيّد وحكومته في تحقيق أي تقدم في هذا المجال بدأ يثير من حوله حتى من كانوا من مسانديه.
ويعتبر الخبير المحاسب القيادي في حزب التيار الديمقراطي هشام العجبوني أن “الحصيلة الاقتصادية لفترة حكم الرئيس سعيّد كانت هزيلة، إذ سجلت البلاد أضعف المؤشرات المتعلقة بنسب النمو، الذي كان مرفقاً بارتفاع قياسي في نسبة التضخم وانحسار الاستثمار نتيجة غياب الاستقرار السياسي وضبابية المشهد العام في البلاد”.
ويقول العجبوني، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن “الرئيس سعيّد، الذي يملك سلطة القرار السيادي المنفرد منذ سنتين، لم ينجح في معالجة الأزمة الاقتصادية التي تتحمّل السلطات التي تداولت على الحكم خلال السنوات التي تلت الثورة جزءا من مسؤولياتها طبعاً”. ويضيف: “الانفراد بالحكم والقرار لن يكونا حلاً لأزمة تونس الاقتصادية في غياب برامج ومخططات تشارك القوى السياسية والمدنية في صياغتها وتنفيذها”.
ويشير القيادي في “التيار الديمقراطي” إلى أن “الحلول التي تطرحها سلطة قيس سعيّد لإنعاش الاقتصاد، والمتمثلة في إبرام صلح جزائي وإحداث شركات أهلية لفائدة العاطلين عن العمل، لا تستجيب لمتطلبات البلاد الحقيقية”، معتبراً إياها “مجرد بيع للأوهام”.
ويشدّد العجبوني على أن “الإصلاح الاقتصادي يقتضي وضوح الرؤية وتنقية المناخ العام، وهما شرطان تفتقر إليهما تونس في الظرف الحالي”. ويحذّر من أن “شيطنة الرئيس سعيّد معارضيه وانتقادهم وسجنهم هي ممارسات لا تبعث برسائل طمأنة للمستثمرين الباحثين عن الاستقرار والحوافز من أجل ضخّ أموال لتحريك عجلة النمو الاقتصادي”.
#عامان #على #الانقلاب #في #تونس #سلطوية #تترسخ #وتطبيع #شعبي
تابعوا Tunisactus على Google News