عبد القدير خان.. عالم حمى وطنا
كان وقع أول تجربة نووية أجرتها الهند في صيف عام 1974 مؤلما بالنسبة لجارتها باكستان، فتجربة “بوكران الأولى” التي أطلقت عليها الخارجية الهندية اسم “بوذا المبتسم”، فجّرت معها مخاوف باكستان، خصوصا أنها جاءت بعد أقل من 3 سنوات من حربها مع الهند عام 1971 والتي تعد الثالثة بينهما منذ انفصال البلدين عام 1947.
وبقدر تفجير المخاوف لدى باكستان تفجرت لديها أيضا الإرادة السياسية لامتلاك قنبلة نووية، خصوصا أن انفصال جناحها الشرقي (بنغلاديش حاليا) عام 1971 خلّف جرحا لا يندمل، حيث باتت هدفا سهلا لجارتها اللدود الهند بافتقارها إلى العمق الجغرافي الإستراتيجي.
وفي محاولة للتحرر من المخاوف وتحويلها دافعا للتحدي، أطلق رئيس الوزراء الباكستاني في ذلك الوقت ذو الفقار علي بوتو عبارته الشهيرة: “حتى لو أكلنا العشب.. يجب أن نمتلك قنبلة نووية”، فما كان من وزير الخارجية الأميركي حينئذ هنري كيسنجر إلا أن رد عليه محذرا: “ستدفع حياتك ثمنا لذلك”، وقد كان.
الإرادة السياسية الصلبة التي عبّر عنها بوتو صادفت وجود نواة للقاعدة العلمية التي اضطلعت بهذه المهمة الوطنية الكبرى، ممثلة في مهندس المعادن عبد القدير خان الذي كان حينئذ في الـ38 من عمره، ويعمل خبيرا للمعادن في شركة هولندية على صلة بمجموعة “اليورنكو” أكبر مجموعة أوروبية مهتمة بتخصيب اليورانيوم، وتدير العديد من محطات تخصيب اليورانيوم في ألمانيا وهولندا وبريطانيا والولايات المتحدة، وتمد محطات الطاقة النووية بالوقود النووي.
كتب عبد القدير خان إلى ذو الفقار علي بوتو عقب التفجير النووي الهندي، رسالة يقول فيها: حتى يتسنى لباكستان البقاء دولة مستقلة عليها إنشاء برنامج نووي، ومن هنا كانت البداية لتشكيل العناصر الأساسية لنجاح البرنامج النووي: قيادة سياسية واعية بمتطلبات الأمن القومي للبلاد + إرادة سياسية + قاعدة علمية نواتها عالم وطني متخصص.
فمن عبد القدير خان الذي جعل بلاده أول قوة نووية إسلامية، وسابع قوة نووية في العالم، وحررها من عقدة الجغرافيا مع الهند؟
ذو الفقار علي بوتو جسّد الإرادة السياسية لبلاده في امتلاك سلاح نووي (أرشيف)
سيرة
ولد عبد القدير خان عام 1936 في بهوبال بالهند، وهاجر مع عائلته إلى باكستان عام 1952، أي بعد الانفصال عن الهند بـ4 سنوات. وبعد إتمام دراسته الثانوية في بهوبال، هاجر هو وأخوته إلى كراتشي، والتحق بكلية “دي جي” للعلوم هناك، حيث درس الفيزياء والرياضيات وحصل على بكالوريوس العلوم، في علم المعادن الفيزيائية من جامعة كراتشي عام 1960.
بعد تخرجه في الجامعة، عينته الجهات الحكومية المسؤولة عن توظيف الخريجين في وظيفة مفتش للموازين والمقاييس في أسواق كراتشي، لكن الوظيفة لم ترق له، فاستقال منها وقصد أوروبا بحثا عن أفق علمي وعملي أرحب.
على مدى العقد التالي، تابع خان دراساته العليا في الخارج، أولا في برلين الغربية، ثم في مدينة دلفت في هولندا، حيث حصل على درجة الماجستير في علم المعادن عام 1967، وفي عام 1972 حصل على درجة الدكتوراه في هندسة المعادن من الجامعة الكاثوليكية في لوفينفي ببلجيكا.
في ربيع عام 1972، تم تعيين خان من قبل مختبر أبحاث الفيزياء الديناميكية في هولندا، وهو مقاول من الباطن للشريك الهولندي لمجموعة “يورنكو” لبحث وتطوير تخصيب اليورانيوم من خلال استخدام أجهزة الطرد المركزي التي تعمل بسرعات عالية للغاية.
اكتسب خان خلال عمله في هولندا في السبعينيات شهرة باعتباره عالما موهوبا في المحطة النووية التي عمل فيها، وكان لديه وصول خاص إلى أكثر المناطق المحظورة في منشأة يورنكو، يمكّنه من قراءة الوثائق السرية الخاصة بتكنولوجيا أجهزة الطرد المركزي الغازية.
وتقول مصادر إعلامية غربية إن خان حصل خلال عمله على تصريح أمني مكّنه من الوصول إلى مجموعة كاملة من المعلومات حول تقنية أجهزة الطرد المركزي الفائقة، وزار المصنع الهولندي في ألميلو عدة مرات، وكانت إحدى مهام وظيفته ترجمة الوثائق الألمانية الخاصة بأجهزة الطرد المركزي المتقدمة إلى اللغة الهولندية.
تزوج خان عام 1964 من هندرينا ريترينك، وهي مواطنة بريطانية ولدت لأبوين هولنديين مغتربين من جنوب أفريقيا، وترعرعت في ما كان يعرف آنذاك بشمال روديسيا (زامبيا حاليا)، قبل أن تنتقل إلى هولندا.
تأثر خان بشدة بالأحداث التي مرت بها بلاده، ولا سيما هزيمتها في حربها مع الهند عام 1971، وخسارتها لباكستان الشرقية (بنغلاديش حاليا)، واختبار الهند لجهاز متفجر نووي في مايو/أيار 1974.
وفي 17 سبتمبر/أيلول 1974، كتب خان إلى رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو يعرض مساعدته في تحضير القنبلة الذرية، وعرض في الرسالة رأيه بأن طريق اليورانيوم إلى القنبلة باستخدام أجهزة الطرد المركزي للتخصيب، أفضل من مسار البلوتونيوم (الجاري بالفعل في باكستان حينئذ)، والذي يعتمد على المفاعلات النووية وإعادة المعالجة.
التقى بوتو بخان في ديسمبر/كانون الأول 1974، وشجعه على بذل كل ما في وسعه لمساعدة باكستان في الوصول إلى القنبلة. وعلى مدى العام التالي، مهد خان لذلك وجمع رسوم أجهزة الطرد المركزي، وقام بتجميع قائمة بالمورّدين الأوروبيين بشكل أساسي.
العودة
بعد أن اطمأن خان إلى تكوين النواة العلمية الأساسية التي ينطلق منها في مهمته، غادر هولندا في 15 ديسمبر/كانون الأول 1975 عائدا إلى باكستان برفقة زوجته وابنتيه، وعقب وصوله إلى بلاده أحرق سفنه واستقر هناك عاكفا على إنجاز البرنامج النووي لبلاده.
انطلق خان من الخبرة التي اكتسبها خلال عمله في أوروبا وواصل تطويرها، حيث عمل في البداية مع هيئة الطاقة الذرية الباكستانية. وفي منتصف عام 1976، وبتوجيه من بوتو، أسس خان مختبر الأبحاث الهندسية لتطوير قدرة تخصيب اليورانيوم.
وفي زمن قياسي، نجح خان في تخصيب اليورانيوم، وكانت قاعدة العمليات في كاهوتا على بعد 50 كلم جنوب شرق العاصمة إسلام آباد، وهناك طوّر خان نماذج أولية لأجهزة الطرد المركزي بناء على التصميمات الألمانية، واستخدم قائمة الموردين الخاصة به لاستيراد المكونات الأساسية من الشركات السويسرية والهولندية والبريطانية والألمانية، وفي مايو/أيار 1981 تم تغيير اسم المختبر إلى “مختبر أبحاث خان”.
كان طبيعيا أن يحتاج مثل هذا البرنامج النووي دعما ماليا يفوق قدرات باكستان المثقلة بالأعباء، ويحسب للمملكة العربية السعودية وليبيا تقديم مساعدات مالية لها للمساهمة في إنجازه. وتقديرا منها لهذه المساهمات، أطلقت باكستان اسم القذافي على أكبر ملاعب الكريكيت لديها في مدينة لاهور؛ تكريما للعقيد معمر القذافي والمساهمة المالية التي قدمها، كذلك للخطاب الذي ألقاه في الأمم المتحدة سنة 1975 يدافع فيه عن حق باكستان في امتلاك السلاح النووي.
كما تحدثت مصادر غربية عن حصول باكستان في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي على مخططات لسلاح نووي من الصين، استخدم تصميم انفجار اليورانيوم الذي اختبره الصينيون بنجاح عام 1966. ويعتقد عموما أن الصينيين اختبروا تصميمًا مشتقا للباكستانيين في 26 مايو/أيار 1990.
يؤكد عبد القدير خان -الذي أطلق اسمه على معامل كهوتا تكريما له- أن أهم عوامل نجاح البرنامج في زمن قياسي، هو: السرية العالية التي تم الحفاظ عليها في كافة المراحل، كما أثمر أجيالا من العلماء الذين تتلمذوا على يديه في تلك المعامل بعيدا عن الحظر المفروض على دخول الطلبة المسلمين هذا المجال في الجامعات الغربية، سواء في أميركا أو أوروبا، وما يحمله من خطر التصفية الجسدية لهم إذا نجحت حالات فردية في الإفلات من اختراق هذا الحظر، وفي تجارب علماء الذرة المصريين من: نبوية موسى ومصطفى مشرفة وسيد بدير، خير دليل على ذلك.
بعد دوره في البرنامج النووي الباكستاني، أعاد خان تنظيم وكالة الفضاء الوطنية الباكستانية سوباركو. وفي أواخر التسعينيات، لعب خان دورًا مهمًا في برنامج الفضاء الباكستاني، ولا سيما في أول مشروع باكستاني لمركبة لإطلاق الأقمار الصناعية القطبية ومركبة لإطلاق الأقمار الاصطناعية.
كان خان أيضًا شخصية رئيسية في إنشاء العديد من جامعات الهندسة في باكستان، فقد أسس -مثلا- معهد المعادن وعلوم المواد في معهد غلام إسحاق خان للعلوم الهندسية والتكنولوجيا، حيث عمل خان عضوا تنفيذيا ومديرا، وتمت تسمية قسم الهندسة المعدنية وعلوم المواد باسم الدكتور عبد القدير خان، كما تم تكريم مدرسة أخرى، هي معهد الدكتور عبد القدير خان للتقنية الحيوية والهندسة الوراثية بجامعة كراتشي. وهكذا لعب خان دورا حيويا في تقديم دورات الهندسة المعدنية إلى جامعات مختلفة في باكستان.
محنة العالم مع الجنرال
وبفضل السرية المحكمة، ظل المفاعل النووي الباكستاني بمنأى عن أية محاولات استخبارية غربية أو هندية للتسلل إليه، وأمّن ذلك دخول باكستان النادي النووي جنبا إلى جنب مع جارتها الهند، وخلق حالة من توازن الرعب تجعل نشوب حرب شاملة أمرا مستبعدا بين الجارتين النوويتين.
ولطالما تعرضت باكستان لضغوط أميركية بسبب برنامجها النووي، رغم أهميته المصيرية بالنسبة لها، لكنها ظلت تقاوم تلك الضغوط التي بلغت “أفج” حالاتها مع الجنرال برويز مشرف، الذي جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري عام 1998، وسعى للنيل من سمعة الدكتور عبد القدير خان بزعم أنه المسؤول عن نقل التكنولوجيا النووية إلى إيران وكوريا الشمالية وليبيا.
ففي 4 فبراير/شباط 2004، استدعى الجنرال مشرف الدكتور عبد القدير خان، وأجبره على تحمل المسؤولية عن ذلك وقراءة بيان على التلفزيون الباكستاني يعلن فيه المسؤولية الكاملة ويبرئ الجيش والحكومة من أي تورط، وهو ادعاء وجد العديد من الخبراء النوويين أنه من الصعب تصديقه.
لم يكن يخطر ببال أكثر كاتبي الأفلام الهندية خيالا أن العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان سيوضع في هذا الموقف، ليبدو كأنه تاجر يدير شبكة لبيع التكنولوجيا النووية للراغبين فيها، لكن هذا حدث بالفعل على يد الرئيس الجنرال مشرف الذي أراد أن يجعل منه كبش محرقة إرضاء لواشنطن التي لم تعارض الانقلاب العسكري الذي سبق أن قام به.
ومن مفارقات تلك المرحلة، أن يوضع أبو القنبلة النووية الباكستانية في هذا الموقف الذي ينال من سمعته باعتباره عالما وطنيا، كما يوضع رهن الإقامة الجبرية، بينما نظيره الهندي أبو بكر زين العابدين عبد الكلام الذي يلقب بـ”أبو البرنامج الصاروخي الهندي”، يعين رئيسا للهند بعد حوالي عامين من التفجيرات النووية الهندية عام 1998، والتي ردت عليها باكستان بعدد مماثل من التفجيرات.
قدم الجنرال مشرف بموقفه هدية مجانية إلى الهند التي سارعت إلى استثمار الموقف في ذلك الوقت، متهمة باكستان والحكومة الباكستانية بأنها “ليست أمينة على ما لديها من عتاد نووي”.
عاش خان بعد محنته مع مشرف حياة شبه منعزلة في حي “إي 7” الراقي بالعاصمة إسلام آباد تحت مراقبة الأجهزة الأمنية. وفي وقت لاحق، تراجع عن أقواله التي قال إنها صدرت تحت الإكراه الذي مارسه الدكتاتور العسكري آنذاك الجنرال مشرف، وقال إن باكستان لم تكن لتصبح أول دولة نووية إسلامية من دون “خدماته”.
وفي إشارة إلى المعاملة التي تلقاها خلال فترة حكم مشرّف، قال خان إن العلماء النوويين في البلاد لم يحظوا بالاحترام الذي يستحقونه. وفي عام 2009، أعلنت المحكمة العليا في إسلام آباد أن خان مواطن باكستاني حر، مما سمح له بحرية الحركة داخل البلاد.
في مايو/أيار 2016، قال خان إنه كان من الممكن أن تصبح باكستان قوة نووية في وقت مبكر من عام 1984، لكن الرئيس آنذاك الجنرال محمد ضياء الحق عارض هذه الخطوة، رغم العلاقة الوثيقة والودية بين خان وكل من الرئيس الجنرال محمد ضياء الحق والجيش الباكستاني.
ويظل الدكتور عبد القدير خان -الذي توفي أمس عن 85 عاما- في نظر الباكستانيين رمزا للفخر، وبطلا قوميا عزز الأمن القومي لبلاده أمام الهند، كما تظل سيرته جديرة بالدراسة لتتعلم منها الأجيال.
وقد نعاه الرئيس الباكستاني عارف علوي، قائلا “لقد ساعدنا في تطوير الردع النووي لإنقاذ الأمة، ولن تنسى الأمة الممتنة خدماته في هذا الصدد”. أما رئيس الوزراء عمران خان، فقال “لقد كان محبوبا من أمتنا بسبب مساهمته الحاسمة في جعلنا دولة نووية. وقد وفر لنا ذلك الأمن ضد جار نووي عدواني أكبر بكثير. بالنسبة لشعب باكستان كان رمزا وطنيا”. وقال وزير الدفاع برويز ختك “باكستان ستعتز بخدماته للأمة إلى الأبد، والأمة مدينة له بشدة لإسهاماته في تعزيز قدراتنا الدفاعية”.
وتتجاوز الدروس التي تحفل بها سيرة العالم الراحل حدود بلاده، لتصبح جديرة بالتعريف والتدريس في المحيطين العربي والإسلامي، لوقف ظاهرة استنزاف العقول، وتعزيز قيمة العلم والعلماء باعتبارهم الثروة الأولى للأوطان يتعين المحافظة عليها واستعادة من هاجر منها وخرج ولم يعد، والحفاظ على العقول الشابة من العلماء الذين أصبح حلمهم الهجرة وترك أوطاننا المأزومة.
#عبد #القدير #خان #عالم #حمى #وطنا
تابعوا Tunisactus على Google News