عندما تستثمر تونس في تنمية التخلف! | رياض بوعزة
سكان الأرياف في تونس، الذين ظلمتهم السياسات التنموية الخاطئة منذ الاستقلال وحتى اليوم، محاصرين بجدران من الأوضاع المزرية والمأساوية وحياة مليئة بالمتاعب والمصاعب والكثير من الفقر والبطالة والتهميش وقلة الإغراءات.
لا توجد عبارة أكثر وصفا للواقع الاجتماعي والاقتصادي سوى أن الدولة نجحت في تنمية التخلف!
بثبات عدد السكان لسنوات طويلة، لا يمكن القول إن الهجرة من الأرياف إلى المدينة، وهو أمر معتاد منذ سنوات لعدم توفر مقومات الحياة، تحدث بسبب تكدس الشباب في القرى بلا عمل، بل لأن السلطة تنظر إلى تلك الرقع الجغرافية “المهمّشة” على أنها خزان لليد العاملة في المدن الساحلية وأنه لا حاجة لجعلها في واجهة المنافسة.
انتظرنا طويلا لنرى انقلابا في رؤية “النخبة” السياسية أو الطبقة الحاكمة لتلك الأجزاء من الدولة. ولئن كانت ثمة خطوات لتنميتها حينما كان عدد السكان أقل في عهد الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي فإنها لم تحقق الهدف. وقد كرس سياسيو 2011 وما تلاها هذا المنحى. وبدل القطع مع برامج من سبقوهم أو تحسينها على الأقل وظفوا هذا المعطى شعارا في حملاتهم الانتخابية.
النزوح الداخلي أو الهجرة من الريف إلى المدينة مقياس ومحدد رئيسي في التنمية البشرية، فهو يعكس مدى قدرة منطقة ما على النجاح اجتماعيا واقتصاديا. والأهم من ذلك قدرتها على تقديم إغراءات لبقاء سكانها دون جعلهم يفكرون في الرحيل. ولتفعيل ذلك كان لا بد من أن يكون الهدف الجوهري هو التوزيع أكثر تكافؤا ليس لتحقيق العدالة والمساواة فقط، بل لتقاسم الأعباء أيضا.
المؤشرات دائما هي الفيصل. وفي حالة تونس تبدو الأرقام صادمة ولكنها غير مفاجئة حينما نرى أن البلد يحتل المركز 95 عالميا والتاسع بالمنطقة العربية في مؤشر التنمية البشرية العالمي من بين 170 بلدا على الرغم من الدرجات العالية التي تم تحقيقها في مؤشرات التنمية المتعددة في السابق إذا ما استثنينا العشرية الأخيرة المليئة بالإضرابات.
لقد وقفت العوامل السياسية والاقتصادية والمؤسساتية والإدارية حاجزا أمام التنمية الإقليمية (التنمية الجهوية) إذ لم تهتم 16 حكومة -باستثناء حكومة نجلاء بودن- تولت السلطة خلال أكثر من ستة عقود بالتوزيع العادل للموارد المادية وغير المادية من مخصصات الإنفاق العام على البنية التحتية وتركيز الاستثمارات والمشاريع ذات الجدوى الاقتصادية المستدامة، ناهيك عن ضعف القدرات الإدارية والقانونية واللامساواة.
لكن أحداث ديسمبر 2010 – يناير 2011، ولئن كانت في الظاهر انتفاضة على الواقع التنموي السائد، فإنها عرت مشاكل إنمائية ملحة بعدما انعكس الاختلال الهيكلي في إدارة الاقتصاد في شكل عجز الدولة عن تحقيق نمو متوازن ومستدام نتيجة نظام سياسي واجتماعي هيمن عليه كارتل من النخبة (سياسيون ورجال أعمال) حقق أصحابه منافع شخصية على حساب السكان ضمن سياق شائع في تونس تحت مسمى “رزق البيليك”، أي ممتلكات الدولة حلال لك.
العشرات من الخطط الحكومية لم تغير أو تترك أثرا في وجهات نظر السياسيين وحتى رجال الأعمال والمستثمرين التونسيين حيال ما يمكن فعله لتقليص الهوامش الاجتماعية الاقتصادية. ففيما يطلق الساسة وعودا إنشائية في إحداث تنمية عادلة بين المناطق الداخلية والساحلية، نلحظ أن الهوة تزداد اتساعا بين السياسات التي يقدمها من هم في السلطة وبين آمال وطموحات مجتمعات الأرياف.
ثمة سوء إدارة أكثر منه سوء تقدير للموقف، فرغم إقرار مبدأ “التمييز الإيجابي” في دستور 2014 نلحظ أن الفوارق بين الجهات أصبحت الميزة الأساسية للتنمية. وحتى لو افترضنا أن السلطات قبل 2011 لم تُفعّل خططها على النحو الأمثل فإن سياسات حكومات ما بعد ذلك التاريخ كانت أمام فرصة للقطع مع الماضي لكنها لم تقدم البديل بل على العكس أسهمت في تعميق الفوارق.
لقد غابت المشاريع الأساسية عن ذهن الدولة للمساعدة في توفير فرص العمل وتنمية الصناعة وتوفير خدمات الرعاية الصحية والسكن، ومعه ساءت أحوال المناطق فغدت تعاني تهميشا مركبا كرس التباعد الإقليمي والمكاني والتراكمي وبرزت من خلال ذلك حالة حرمان اجتماعية اقتصادية وسياسية عميقة بين سكان الأرياف وسكان المدن.
بالنتيجة تفاقم تذمر القرويين وازداد النزوح هربا من الجوع، حتى الزراعة التي من المفترض أنها ضمن محاور الأمن القومي للدولة لم تستطع شدّ سكان الأرياف بمناطقهم لتنميتها. ليس بسبب التغير المناخي الذي عرقل استصلاح الأراضي، وليس بسبب تكاليف الإنتاج والأسعار، وإنما لعدم وجود تخطيط منهجي يمكن أن يحول البلد إلى سلة غذاء تعود بالنفع على الجميع.
تونس تحتاج فعليا إلى إحياء الأرياف ليس من بوابة الزراعة فحسب، بل أيضا عبر دفع الشباب باتجاه تركيز مشاريع خاصة بهم مع توفير أسباب النجاح بداية من التمويل والتسويق مرورا بالخدمات العامة والبنية التحتية وصولا إلى استدامة الأعمال وتطويرها لكي توفر مبررات البقاء بدلا من الهجرة إلى المدن الكبرى أو إلى الخارج.
ما نراه من تباين صارخ في أحوال ومعيشة وتنمية مناطق الشمال والوسط الغربيين والجنوب الغربي والجنوب الشرقي، وهي الجهات التي لطالما كان حظها من اهتمام السلطة قليلا جدا قياس بالتنمية بالمناطق الساحلية، نموذج يجب تحطيمه بالكامل وإعادة بنائه من الصفر.
التاريخ سيوثق أن الساسة الحاليين لتونس وبمعية ظروف خارجة عن نطاقهم، وهنا نتحدث عن الجائحة، تسببوا عمدا أم عن غير قصد في تكريس مبدأ توسيع الفوارق التي جعلت معدل الفقر يتجاوز في عهدهم الرقم المسجل في عام 2010 بنقطة مئوية ليصل إلى 21.5 في المئة وفق بيانات معهد الإحصاء.
هذا الرقم والذي قد يتخذ منحى تصاعديا وإن كان مخيفا لحكومات متتالية جعلت من التنمية أساسا للنهوض باقتصادها لكنه يعكس التخطيط القاصر عن التفكير في المستقبل. فمتى ستتحرك السلطة.
#عندما #تستثمر #تونس #في #تنمية #التخلف #رياض #بوعزة
تابعوا Tunisactus على Google News