عندما تنبّأ الغنّوشي بمصيره
قرّر رئيس حركة النهضة (التونسية)، راشد الغنّوشي، في محبسه، أن يشارك زميله في المعتقل، جوهر بن مبارك، في صراع الأمعاء الخاوية، وهو الذي تجاوز الثانية والثمانين، رغم إدراكه أن الرجل الذي يواجهه هذه المرّة لا يلتفت إلى مثل هذه الوسائل النضالية، ولن يغيّر هذا من موقفه. ولكن كيف انقلب الحال إلى هذه النهاية، بعدما كان الشيخ يأمر فيُطاع، ويدعو فيُستجاب… هل كان الشيخ يتوقّع حصول مثل هذا السيناريو؟ الجواب: نعم.
كنت قليل التردّد على مكتبه، فمنذ عودته من المهجر على أثر رحيل زين العابدين بن علي، وخلال 12 عاما زرته حوالي خمس مرّات فقط، فليس من عادتي التردّد على مكاتب المسؤولين في الدولة والأحزاب. وعندما توجّهت إليه في آخر زيارة لإحاطته علما بأهمية القضايا التي تناولتها لجنة الحريات الفردية والمساواة التي شكلها المرحوم الباجي قايد السبسي، وكنت عضوا فيها، استقبلني في مكتبه، ودامت الجلسة أكثر من ساعة، حيث تناولنا مسائل عديدة تتعلق بالساحة الوطنية وأوضاع الحركة. وللتاريخ، تحمّل ملاحظاتي النقدية له وللعديد من اختياراته وأسلوب إدارته الحزب. وأذكر أنني أثرت معه مسألة لطالما شغلتني وشغلت كثيرين من المهتمين بشؤون حركة النهضة. سألتُه: لماذا هذا الإصرار منه على البقاء داخل السلطة، خصوصا بعد تراجع الحركة سياسيا وانتخابيا؟ ولماذا قدّمت التنازل تلو الآخر، حتى أنها رضيت بأن يكون لها وزير واحد في الحكومة، ما جعل وجودها صوريا، رغم أن الجميع يتهمها إلى تاريخ اليوم بالهيمنة على الدولة، ويحمّلها كل المصائب التي حصلت خلال المرحلة الماضية؟
سألني ماذا تقترح. أجبته على الفور: الانسحاب الفوري من السلطة، والانتقال إلى موقع المعارضة، والقيام بمراجعة الخطة السياسية للحركة. وحتى أدفعه في هذا الاتجاه، أضفت أن الأحزاب القوية والفاعلة يمكن أن تؤثر وتكون شريكة في الحكم من خارج السلطة، وبعيدا عن دوائر الحكومة. فكّر قليلا، ثم قال: لو غادرنا الدولة لأعادونا إلى السجون والمنافي! سألتُه في دهشة: من يمكنه أن يجرؤ على ذلك، فالأوضاع تغيّرت كثيرا في الداخل والخارج مقارنة بعهد الجنرال بن علي… سكت ولم يعقّب.
عندما خرجتُ من عنده، كنت أعتقد أن هذا السيناريو الأسود مستبعدٌ أن يحصل في تونس بعد الثورة، فتوقّعاتي تقف عند حدود استمرار تراجع شعبية “النهضة” لتصبح حزبا صغيرا، وأن الانقسامات في صفوفها مرشّحة لكي تتعدّد، وأنها مُقدمة على تغييرات مأساوية. أما العودة إلى مرحلة المطاردة والطرد من الفضاء السياسي، فذلك احتمالٌ كان عندي أقرب إلى الخيال.
حصل هذا اللقاء قبل أكثر من سنة من الانتخابات الرئاسية التي جرت في سنة 2019، وصعود الرئيس قيس سعيّد، ثم تغييره المشهد السياسي برمته. وما كان مستحيلا من قبل أو مستبعدا أصبح أمرا واقعا ومعيشا. أُخذ الغنّوشي من بيته أمام ذهول الجميع، وعجز الحركة عن منع ذلك. كما تم اعتقال أبرز مساعديه، ولم يُستثنَ من الحملة حتى الذين خرجوا عليه. وتتواصل الإيقافات، ليس فقط بنية منع انعقاد مؤتمر الحركة، وإنما الأهم السعي إلى شلّها، وربما التمهيد لحلها ووضعها خارج القانون. وقد يكون الأمر أكثر خطورة، حيث انطلقت عملية تطهير الإدارة من كل الذين تم تعيينهم، أو سوّيت أوضاعهم القانونية والإدارية من “النهضة” وبقية الأحزاب خلال السنوات التي أعقبت الثورة. وسيشكّل ذلك ملفا اجتماعيا وإنسانيا ثقيلا يصعب على الحركة تحمّل تبعاته في هذه الظروف.
كان الغنّوشي يعلم جيدا أن خصومه كثيرون، رغم محاولاته العديدة من أجل ترضية بعضهم، وتحييد آخرين، ومغازلة القوى الصلبة. لكن ما لم يكن في حسبانه إقدام رئيس الدولة على خطوة “25 جولية” (يوليو/ تموز 2021)، ووقوف المؤسّستين الأمنية والعسكرية إلى جانبه، والتأييد الشعبي الذي لقيه، وتخلّي جزءٍ واسعٍ من النخب عن الديمقراطية… ومن يخطئ الحساب في السياسة قد يجد نفسه خارج كل الحسابات.
#عندما #تنبأ #الغنوشي #بمصيره
تابعوا Tunisactus على Google News