فن الجسور.. الإنسان ابن الجسور
الأربعاء / 28 / رمضان / 1444 هـ – 21:30 – الأربعاء 19 أبريل 2023 21:30
«أي جسر هذا المكسوروفي أي مكان في العالم ذلك الذي لا يوصلأحدا إلى بيته»كروس عبدالملكيانلطالما مثلت الجسور عبر التاريخ ما هو أكثر من وصفها بناءً وصِلات وصل بين الأماكن، بل تجاوزت ذلك بصفتها صلات معنى، محملة بالدلالات والرموز، وشواهد على الانتصارات والهزائم والحكايات، عابرة مساحات شاسعة فوق الأرض والمياه والزمن، لتدنو بالمسافات وتصل الأرض بالأرض، والإنسان بالإنسان، مجسدة كل أشكال العلائق والصلات، حجرا، فكرة، فنا، ومعنى. فكيف يغدو إذن العمل الفني جسرا حقيقيا؟ وإلى ماذا يشبه بناء الجسور أو هذا المزج بين العناصر التي تشكل العالم؟ وكيف نصمم جسرا يربط بين مستويين مختلفين وبين ضفتين؟ وكيف نعبر المسافة التي تفصلنا عن الرصيف الأمامي أو عن الكوكب؟ وحين مدّ سحرة عصر النهضة جسورا هندسية نحو السماء، ملوحين بالأسطرلابات وبأجداد آلة قياس الأجرام، هل انتقلت الجسور بفضلهم نحو التجريد، أم أن التجريد هو الذي جسد الواقع؟يقدم كتاب «فن الجسور» لـ ميشيل سير وترجمة عبدالسلام بنعبدالعالي، استكشافا مثيرا ورائعا للفن والهندسة وراء تصميم وبناء الجسور. ويعد ميشيل فيلسوفا وكاتبا فرنسيا، اشتهر بنهجه متعدد التخصصات في الفلسفة، والذي يجمع بين عناصر العلم والتكنولوجيا والأدب. وفي كتابه «فن الجسور»، يستكشف المعاني المجازية والحرفية للجسور باعتبارها هياكل تربط الأشخاص والأماكن والأفكار، مدعما ذلك بأمثلة من التاريخ والأدب والفن لإبراز قيمة الجسور في المجتمعات البشرية، ودورها في الحضارات القديمة، كالإمبراطورية الرومانية، وكذلك في العصر الحديث، مقسما الكتاب لأربعة تصنيفات غير هندسية للجسور: الصلبة، الناعمة، الحية، والجسور المقدسة، مستندا في ذلك على سمات مشتركة بين تلك التي يتناولها في كل قسم، سواء كانت من لحم أو من معدن، من حجر أو من كلمات. يدعونا ميشيل في كتابه لتأمل الجسور لحظة العبور، منظرها المنتصب كما لو أنه أقيم لنستعمله، وجزء الشقاء وراءها، المهندسون والحدادون، والبناؤون، وجهودهم لبنائها ضد الزلازل والتسونامي، وصمودها في الجوار الخطير للمدن المغمورة، ولتأمل الطبيعة والكون والتكنولوجيا الحيوية، الطريقة التي تجسر العضويات الحية، وتتبعها طفرات الكائنات الحية التي تمر عبر التمازج الجيني، ومسام الجلد التي تتيح التدفقات مثلما يعمل ميناء أو جسر، حيث جميع الأشياء تعبر الجسر، فلسنا وحدنا القادرين على بناءات ضخمة وبديعة لأشكال هندسية، يمكن ببساطة أن نعثر على الجسور في كل مكان، ففي التفكير في التجسير يتطلب تأمل العالم في جزئياته وتفاصيله، ومن غير جسر، ما من طريق، وما من رابطة من نقطة إلى أخرى متميزة عنها تمام التمايز، ومن غير جسر ليس هناك منهج وطريق يعبر بنا من الذات إلى الآخر، حيث تصهر الجسور المتخالفين في وحدة، سواء في الخط الذي يربط بين كلمتين، أم الجسر الذي يقارب بين ضفتين، كما في جسر كيهل، حيث بوسع المرء أن يرقص في الوقت ذاته في ألمانيا وفرنسا معا.يتناول الكتاب سعة المعاني والرموز التي يمكن أن تحملها الجسور، الجسر بوصفه شاهدا وعدادا زمنيا يقيس عمرنا اللاتاريخي. زار ميشيل في طفولته جسر الجار الذي كان يعد أعلى جسر مائي في أراضي الإمبراطورية الرومانية، زاره على دراجته النارية مثلما كان جاك روسو وآخرون قد فعلوا على أقدامهم، ليجده مهملا مهجورا لا يصلح لقناة ولا طريقا ولا قطعة في متحف، وقد انغمس في ديمومة الطبيعة متناسيا التقنية والثقافة، ليعود إليه وهو شيخًا على متن سيارة، وقد شيد حوله بناء ضخم جيد التهيئة، أعد للمعلومات والوثائق وقاعات العرض السينمائي، «كان الجسر يعمل عدادا يقيس سن صغري اللاتاريخية، كنت قد ودعت عشرة مذابح، وكنا بحاجة إلى النسيان»، وخلافا لذلك ما زالت هناك جسور وكباري تركت أثرها على الطبيعة والتضاريس الصعبة، وتحدت الطبيعة وغضبها، واحتفظت بجماليتها وصمودها، فبالرغم من أن الجسور الطبيعية تنهار وتتسع هواتها، وتتآكل بفعل الزمن، إلا أن الجسور التي أطلقها الرومان والصينيون القدماء ما زلنا نعبرها إلى اليوم، ولذلك كان بوسع ميشيل أن يضع ثقته الكاملة في جسر ريون الروماني الذي يعرف باسم جسر الزلازل، إذ يعبر فوق خليج كورينثه عبر فاصل زلزالي نشط في اليونان.الجسور والموسيقى والشعرمن جسر النورماندي في الغرب الفرنسي يكشف لنا ميشيل كيف تتجلى كل أشكال الفنون وتمثلاتها، وتناسق علائقها، وأناقة ما يصدر عن غضب الماء، فمن يصغ إلى ما تسربه قيثارة الجسر من صخب الرياح والمياه الفوضوي، سيدرك روعة هندستها، حين تعترض أوتارها مخالب الرذاذ والنسيم لتعزفها في موجات مسموعة ومتناغمة، الجسر الذي وصفه بتحفة القرن العشرين، حيث كل فن عظيم أصله الموسيقى، محولا الضوضاء إلى معنى أولي، فيكفي أن تعبر جسر النورماندي لتسمعه وهو يحول الضجيج إلى موسيقى، بمعنى المياه والرياح، وليست الموسيقى وحدها ما كان بوسع الجسور أن تتمثله وتطوع معطياتها لتجسر زمكاننا، فقد كانت سقفا لحكايات الحب ومنبعا ثريا للشعر، وأسئلة الوجود والجمال، يتساءل ميشيل عن الشبه الذي يربط أنهار المدن الهادئة، بما هي عالقة بين ضفتين وبما هي تكون غالبا قد ضمتها أرصفة حجرية، ألا تشبه عشاقا أنهكهم الزمن؟ كيف كان ينظر الشاعر غيوم أبولينير وهو يقف على سطح جسر ميرابو الذي يجري تحته نهر السين في باريس منذ مائة عام، عندما كتب قصيدته الشهيرة «فوق الجسر»؟، هل كان حقا يرى النهر أسفل؟ وهل كان رأسه يدور مع دوخة دواماته؟ وهل كان يحس بجسده مجرورا مع التيار المعاكس؟ وهل أسعفه الحظ بأن يدبر انفعالاته من أعلى، بتأليف أغانٍ عاطفية؟ كيف نبني جسرا؟لكي نقيم سدا في الوادي أو لكي نجسره، هل يكفي أن نبني جدارا كثيفا عبره؟ لكن كم من الأطنان سيزن، وكم من الأنقاض سينحي، وكم سيكلف من زمن وأموال ومواد أولية، وسلطة لحشد عدد من الأيدي العاملة ؟ يقترح ميشيل لتقليص كل تلك الكلفة بتخفيفه من خلال إقامة الثقوب فيه، إذ يعزي استمرار تاريخ الجسور إلى عدد تلك الثقوب وأبعادها، أنه يدعو بذلك إلى الاتساع والاحتفاء بالفراغ، أن نكثر من الفراغات، ونقوض فكرة الامتلاء، وليس ذلك لنتمكن في النهاية من بناء جسر فحسب، بل لنبلغ الشفافية التي تسمح لنا برؤية الجهة الأخرى من الأرض ومن أنفسنا، ومن الآخر الذي لطالما كنا ننسج الخيوط لتجسير علائقنا معه ومع العالم، حيث التاريخ الكامل لجميع التقنيات والأدوات والآلات والممارسات حولنا يذهب إلى التخفيف، والميل نحو الناعم، فقد سعى الضخم نحو المصغر، والثقيل نحو الخفيف، والبطيء نحو الحيوي، والصلب نحو الناعم، وبالرغم من ذلك فإن بناء جسر متين لا ينهار بين عشية وضحاها، مقاوم للظروف الصعبة وتحولات الزمن، لابد أن يمر بشقاء ومعاناة يتكبدها العاملون عليه، متنبئين بالظروف الصعبة ثم تحملها، إذ تدوم نتيجة العمل بحسب ما كلفه، وأخيرا يقدم ميشيل نصيحته الأثمن في بناء الجسور «ابنوا جسرا حجريا أو حديديا، لكن شريطة أن تبنوا قبله جسرا بين اللغات «وهكذا يذيب الناعم الصلب».يقدم الكتاب في إخراجه البديع مادة تأملية وبصرية جميلة وممتعة، إلى جانب اللغة الشاعرية التي يؤرخ فيها مجموعة من الجسور، مؤكدا على فكرة الجسور كمواقع للتبادل والتفاعل، ورموزا للتواصل والتفاهم بين الثقافات المختلفة، ودورها في تعزيز الابتكار والإبداع، حيث تمكن الأفكار الجديدة من الانتقال من مجال إلى آخر، وهو بذلك لا يستكشف فقط الجوانب التقنية لتصميم الجسور، بل يتطرق أيضا إلى الأهمية الثقافية والاجتماعية والفنية والأدبية لهذه الهياكل، وكيف استخدمت الجسور كرموز للقوة والتقدم والوحدة عبر التاريخ، وكيف أنها ألهمت الفنانين والشعراء والكتاب على مر القرون، يقدم الكتاب في إجماله انعكاسا فلسفيا لأهمية الجسور في الثقافة الإنسانية، والطرق التي تشكل بها فهمنا للعالم من حولنا.
#فن #الجسور. #الإنسان #ابن #الجسور
تابعوا Tunisactus على Google News