فيصـل الموصـلى: «فن النـَّميم» مشـروعى الأدبى الذى كرَّست له حياتى
فن النـَّميم نشأ لدى القبائل العربية فى جنوب مصر والتى جاءت من شبه الجزيرة العربية مع فتوحات عمرو بن العاص لمصر عام 620 م، ومن هذه القبائل: الجعافـرة، العقيلات، الأنصـار، العبـابدة. هذا التراث وجد فيه الشاعر فيصل الموصلى كنوزا وعجز على جمعه بروح الشاعر العاشق للتراث العربى والنوبى هو هنا فى حوار خاص عن فن النميم.
ما سر اهتمـــــامك بالتراث النوبى؟
جاء اهتمامى بهذا الفن لأنه تراث أهلى وناسى، وهذه المنطقة تحديداً لم يتم تدوين تراثها حتى الآن، وبصفتى كواحد من أبناء هذه القبائل العربية التى نشأ بينها هذا الفن، أردت أن أظهره للوسط الثقافى، ليس على المستوى المصرى فقط بل والعربى أيضاً، فقد قمت بعدة لقاءات دول عربية منها: العراق، الإمارات، البحرين، ليبيا.. بعضها كان بطريقة (الفيديو كونفرانس)، وشاركت بأبحاث فى أكاديمية الفنون ومعهد الشارقة للتراث وغيرها.
متى بدأت
التوثيق وما هدف مشروعك الفكرى؟
منذ ذلك الزمان البعيد، سبعينيات القرن الماضى، وأنا فى مرحلة الصبا الباكر، كنت أستمع لفن النـَّميم بمنزل عمى الزاكى أبوسكين، عليه رحمة الله، وكنت أحفظه وأخزِّنه فى ذاكرتى. صلتى بفن النميم قديمة ترجع إلى أكثر من أربعين عاماً، استهوانى هذا الفن كما لم يستهونى سائر الشعر، وبعد هذه الحقبة من الزمن أعددت العدة على أن أدون هذا الموروث الشيق فى العديد من الأبحاث، بدأ شغفى يزداد يوماً بعد يوم لهذا الفن، بدأت فى كتابته من أفواه الرواة فى قصاقيص صغيرة أحتفظ بها لنفسى، بعد ذلك اتسعت دائرة اهتمامى وجمعت الكثير من الألبومات التى تحتوى على هذا الفن بأصوات منشديه.. ففتحت أمامى آفاقاً واسعة من التفكير. ودفعنى إلى أن أنظر فى هذا الشعر نظرة المتسائل عن قيمته الفنية الأصيلة. وصرت كلما قطعت شوطاً فى تحليلى له أستبين جوانب جديدة من قيمته، واتضح أن فى هذا الفن قيماً فنية لم يحظ بها مثله من الفنون القولية من قبل. ففيه خصب الشعور ورهافة الحس وصدق الفن وصفاء التعبير وأصالة الطبع، كما وجدت أنه موروث تاريخى، من الخسارة غض الطرف عنه. بدأت أكتب أبحاثا فى هذا الفن كى تكون هناك إفادة للباحث والدارس لهذا المجال، وحتى نلقى الضوء على تراث مصر العريق الضارب فى أطناب الأرض، وأصبح هو مشروعى الأدبى الذى كرَّست له حياتى، وبدأت السعى جاهداً لوضع هذا التراث الحى فى قائمة التراث العالمى بمنظمة اليونيسكو.
ما هو فن
النميم؟ عرفنا عليه.
فن النـَّميم نشأ لدى القبائل العربية فى جنوب مصر، والتى جاءت من شبه الجزيرة العربية، مع فتوحات عمرو بن العاص لمصر عام
وفن النميم فى جنوب مصر له رواده المعروفون أمثال: شحات عثمان العقيلى، عبده أبوحديدة، محمد أبوحسن العقباوى، أبوسليم، عبدالحميد العونى، عمر أبودياب، مكى أبوغندور، الزاواتى، أحمد أبوالأمين، الليثى أبومحمود، فتح الله حامد، جادو النور محمد عيد… إلخ، أما جيل الشباب ممن حملوا لواء هذا الفن فيأتى فى المقدمة الشاعر زين ألعابدين النجار العقيلى، عزت حسين موسى، ود العونى، محمد أحمد العبادى، أيمن أبوظهرون، عبدالله الدنقلاوى، علاء أبوعائشة، رشدى رشدى، وغيرهم الكثير. أغلبهم من القبائل العربية بأسوان خاصة الجعافرة والعقيلات.
ما أهم القبائل
التى وثقت فيها هذا الفن؟
اشتغلت فى البداية على الرواة من أهلى وناسى، من قبائل “عرب العقيلات”، ثم وسعت دائرة اهتمامى إلى القبائل الأخرى التى تحتفظ بهذا الفن فى الذاكرة الجمعية مثل “الجعافرة والعبابدة والأنصار” وغيرهم، بالإضافة إلى أننى كنت أحتفظ بالعديد من التسجيلات فى ألبومات عديدة، وبعد ذلك قمت بتفريغها على الورق وتحليل النصوص وفك مغاليق المفردات التى تصعب على المتلقى. أو حتى المتخصصين فى الأدب الشعبى، ولذلك دائما أردد المقولة الشهيرة “أهل مكة أدرى بشعابها”، خاصة فى مجال التراث، يجب على كل مثقف وباحث أن يخرج تراث أهله، لأنه هو من يعرف مفردات بيئته، أما إن كان من غير أبناء البيئة الحاضنة لهذا التراث فستصبح كتاباته عبثا، وبالتأكيد سيعتريها الكثير من الأخطاء الفادحة التى تشوه هذا التراث.
ما النصوص التى
تحققها؟
أحتفظ بالكثير من النصوص فى مكتبتى، منها ما هو مكتوب ومنها ما هو مسجل كاسيت، وأعمل على تحليل النصوص وتدوينها وفك رموزها، التى قد تكون عصيـَّة على القارئ، وتقديمها له حتى يتعرف على تراث مصر العظيم، ومكتبتى مليئة بالعديد من النصوص حول هذا الإرث الثقافى الذى لا يعرفه الكثيرون.
حدثنا عن كتابك
عن الروائى إدريس على.. وما سره؟
تربطنى علاقة صداقة وطيدة بالروائى المبدع إدريس على منذ زمن بعيد، وهو أحد فرسان النصف الأول من القرن المنصرم، وكثيراً ما أحن إلى ذلك الزمن الجميل المحلق فى ساحة الأدب والإبداع بكل ألوانه. ومن المؤكد أن الإبداع اختلف وتطورت مفاهيمه واختلفت أبعاده عن الزمن الذى مضى. إن قصص وروايات الأديب الكبير إدريس على بها فصاحة العرب وهدير الرعد فى أفريقيا، فقد أعطانا نكهة خاصة للثقافة الجنوبية. وأكسبها بُـعداً إنسانياً فريداً فى عصرنا، فعندما أقرأ له أشعر أننى أجلس إلى جَـدّى، نستظل بشجرة جميز وارفة الظلال، نتبادل الحكايا فى الشلال قبل التهجير. قبلى الخور. بحرى الخور. آل محمود. الحوش الكبير.. الشيخ حسن. نجع القرايا… إلخ.
وكتابات إدريس تجعلنى أستنشق عبق الماضى لأرى شموخ الأجداد العظماء، فقد كان ينقل بصدق جارح بعض أوجاعه وأوجاع قومه. وهذه هى رسالة الأديب أن يكون لسان حال أهله، لم يغب الضمير عند هذا الروائى الذى كان أحد أهل الفكر وحاملى شعلة الأدب، وفى الذكرى الأولى لرحيله قدمنا ندوة عن مجمل أعماله وتمت طباعة كتابى “إدريس على.. عبقرى الرواية النوبية” بالمجلس الأعلى للثقافة وتم توزيعه على الحاضرين.
“نعناع
الجنينة”.. ماذا عن مشروعك عنها؟
أغلبنا استمع لأغنية منير الشهيرة (فى عشق البنات) التى اصطلح على تسميتها بـ “نعناع الجنينة” هذه الأغنية تحديداً مأخوذة من فن النميم، وكانت تتغنى بها قبائل الجعافرة منذ زمن بعيد، وبها العديد من الأبيات، وقد جمعت منها آلاف الأبيات قضيت فيها سنوات طويلة من عمرى، حتى أصبح عندى أرشيفا كاملا لها، وأعكف الآن على كتاب أجمع فيه كل ما حصلته من هذا التراث العريق، لتقديمه للمكتبة العربية، وليكون مرجعا للباحثين والدارسين.
ما أهم النصوص
التى أنقذتها؟
أثناء مرحلة الجمع الميدانى لاحظت أن فن النميم خاض فى كل أغراض الشعر العربى من مدح، ورثاء، وهجاء، وفخر وحماسة، ولكنه ليس فناً غزلياً فقط، بل إنه يؤرخ لأحداث الوطن، فمثلاً: عندما أرسل الضباط الأحرار خطاباً للمك فاروق يخبره فيه بأن يتنازل عن العرش لولى العهد ويغادر القاهرة فى تمام الساعة السادسة من مساء يوم 26 يوليو، هذا ما قاله شاعر فن النميم حول هذه الواقعة:
فـاروق يـوم طَـغى الكـان فى السـرايـا الفاخرة
ومثـَّل نَـسـَبـُه لى أهـل القلـوب الطاهرة
لمـا جـالـُه “أبو نجيب” أبوقلب زى الصخرة
قـالـُه الساعة سِتـَّه قَـوام تغـادر القاهرة
فـاروق المـلك قـال حُب مصـر كتلنـى
و”على ماهر” يقـول لُه الثورة ليك باعتنـّى
انت تمضى على التنازل كلمة أوعى تتنـّى
“المحروسة” واقفـة على الرصيف مسـتنـّى
ومن هنا يتضح أن الفن الشعبى يُعد وعاء للموروث الثقافى، هكذا تؤرخ الفنون لأحداث الوطن وخاصة فنوننا الشعبية، وأتمنى من مؤسساتنا الثقافية أن تدعم هذه الفنون لأنها تحفظ تراث الوطن.
كيف كانت بدايتك
مع الكتابة وطفولتك مع القراءة؟
منذ أن كنت صغيراً فى المرحلة الابتدائية، وأنا أهوى مطالعة الأشعار فى الكتب المدرسية، وكنت أحفظ النصوص الشعرية حتى قبل أن يشرحها لنا المُدرِّس، وكنت أكتب فى قصاقيص من الورق كنت أظنها فى ذلك الوقت شِعراً، ومرت السنوات حتى تعمقت فى القراءات العديدة، وامتلأت رفوف مكتبتى بأمهات الكتب، وبدأت أجد لنفسى مكانا بين شعراء مصر، بعد أن أصدرت ديوانى الأول عام
من أهم الشعراء
الذين أثروا فى رحلتك؟
تأثرت كثيرا بالشعراء: فؤاد حداد وصلاح جاهين ونزار قبانى، ثم قرأت للمتنبى وعنترة وعمرو بن أبى ربيعة وغيرهم من شعراء الجاهلية، ثم بعد ذلك حددت اتجاهى نحو التراث الثقافى غير المادى، وبدأت أكتب أبحاثى حول فن النميم، وأخذت على عاتقى إظهار هذا الفن للثقافة العربية.
ما أهم دواوينك
وإنتاجك الشعرى؟
صدر لى عن الهيئة العامة لقصور الثقافة أول ديوان بعنوان “حَبـابـُه عَشـَره” عام 2000، ووقتها كنت فزت بالمركز الأول فى شعر العامية وقررت الهيئة مكافأة الفائزين بإصدار دواوين لهم، وجمعت كل ما كتبته فى بداياتى وقدمته للهيئة، وساعدنى فى ذلك الدكتور يسرى العزب – عليه رحمة الله – والذى كان يرأس لجنة التحكيم فى ذلك الوقت، ثم صدر لى كتاب عن المجلس الأعلى للثقافة، وهو عن حياة وأعمال صديقى الأديب إدريس على.
ما الذى اكتشفته
وأنت تحقق فى فن النميم؟
اكتشفت أن هذا الفن هو تاريخ مصر الضارب فى جذورها، ورأيت من الخسارة غض الطرف عنه، لأنه يحمل موروثا ثقافياً عظيما لهذا الوطن، يحتاج إليه الباحثون والدارسون وعلماء الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وغيرهم. وإذا كان هذا النوع من فنوننا الشعبية قد غطاه تراب الإهمال والنسيان، فيجب على مؤسساتنا الثقافية أن ترعى هذا الفن.
ما أهم قواعد فن
النميم؟
هو أحد الفنون الشعبية فى جنوب مصر، وهو فن قولى شفاهى، ويتكون المقطع الشعرى للنميم من أربع شطرات متحدة القافية، وتأتى فى صورة جناس ناقص أو جناس تام. ويفرض الغرض -الذى يتم تناوله أثناء الأداء – المضمون الذى يتشكل ففى وزن شعرى يشبه الرجز العربى.
هذا الفن لا يخضع لقواعد العَروض المعروفة للخليل بن أحمد الفراهيدى، وأظن أن شعراء هذا الفن استحدثوا بحرا دون بحور الخليل، وينقسم إلى رباعيات، كل رباعية تتألف من أربعة أشطر تحمل كلها قافية واحدة، وهذه الأشطر الأربعة تؤلف بيتين اثنين، وهو ذلك الفن الذى أخذ منه محمد منير رائعته “فى عشق البنات” فى ألبوم صدر عام 2000، بنفس الاسم.
#فيصـل #الموصـلى #فن #النـميم #مشـروعى #الأدبى #الذى #كرست #له #حياتى
تابعوا Tunisactus على Google News