- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

في مساوئ الدستور وفضائل العقد الاجتماعي | علي قاسم

- الإعلانات -

رحل الاستعمار عن البلاد العربية ولم يرحل عن العقول، وتحوّلت المواجهة التي كانت يوما مع المستعمر إلى مواجهة مع الحاكم، الذي تحوّل بدوره إلى مستعمر جديد.

شعار الحرية، وهو أكثر الشعارات تردادا، تحول إلى عبارة خالية من المعنى. في السابق كان توقا لنيل الاستقلال، ثم تحول إلى توق للتحرر من استبداد الحاكم. والمطالبة بحريات لم نصل إلى اتفاق حولها بعد قرن ونصف قرن من الاختلاف.

حرية المرأة، حرية العقيدة، حرية الأديان، حرية العلاقات المتعددة، حرية الميول الجنسية.. والقائمة تطول.

هل تم الاتفاق يوما على واحدة من هذه القضايا؟

حتى هذه اللحظة لم تتحقق المساواة بين الرجل والمرأة في الأجر والميراث وتبوّؤ المناصب العامة، فما بالك بالحرية.

◙ بينما تشهد الدول العربية اضطرابات وتعاني شعوبها من أزمات اقتصادية واجتماعية خطيرة، يدور الصراع فيها حول الدستور

الدول العربية التي لا تعاني اليوم من ولاءات قبلية تعاني من نزعات جهوية. ناهيك عن صراعات طائفية وعرقية. والدستور في كل هذا ليس أكثر من مسكن تحفظ الوصفات بين دفتيه.

ما هي الحرية، في غياب دخل شهري يضمن للمواطن، حتى وإن كان عاطلا عن العمل، سكن يتوفر على شروط صحية، ويحفظ حقه بتناول غذاء صحي، ويتكفل بتعليم صغاره ورعايتهم صحيا؟ هل قدمت الدساتير، جميعها، بدءا من شريعة حمورابي، حلولا لمثل هذه القضايا؟

عاشت البشرية دون دستور مكتوب حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر. حيث صدرت أولى الدساتير في ظل نظريات فلسفية اجتماعية مناهضة للحكم المطلق، وكانت على شكل عقد بين الحاكم والمحكوم.

تاريخيا، كانت كل من فرنسا والولايات المتحدة وبولندا سباقة في هذا المجال.

كانت تلك الدول حينها تشهد انقسامات اجتماعية عميقة، وأزمات مالية، وتهديدات دولية خطيرة. ما دفع قادتها إلى محاولة إعادة تشكيل مؤسسات بلادهم السياسية، لجعلها أكثر فعالية وقدرة على الصمود أمام التحديات عبر قرارات دستورية.

لكن الفشل كان من نصيب التجارب الثلاث؛ فبولندا اختفت عن خارطة أوروبا طيلة قرن كامل. والدستور الأميركي في صيغته الأولى لم يحل مشكلة العبودية بالطرق السلمية والسياسية، وأدّى ذلك إلى حرب أهلية. وفرنسا نجت ولكن، بعد أن تخلت عن بعض مبادئها الجمهورية.

في الشرق، واجهت حكومات تونس وإسطنبول والقاهرة أزمات مشابهة للأزمات التي واجهها الأميركيون، وواجهتها كل من باريس ووارسو عام 1791.

وكانت تونس سباقة في تبني إصلاحات دستورية. الحركة الإصلاحية التي دشـّنها الباي أحمد ملغيا العبودية، تطورت على يد الباي محمد الصادق، الذي أصدر عام 1861 أول قوانين دستورية في العالم العربي (وثيقة عهد الأمان). ولكن، التجربة الدستورية في تونس لم تعمر طويلا لتنتهي مع قدوم الاحتلال الفرنسي عام 1881.

وفي هذه الأثناء، كانت تولد في مصر وبقية المشرق العربي حقبة ليبرالية، تتمحور حول القيم الدستورية استمرت إلى ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بفترة قصيرة.

كان “الدستور” الكلمة السحرية التي رأى فيها المثقف والمفكر العربي الحل الشافي لكل أمراض المجتمع. إلى أن سقطت الدول العربية، واحدة تلو الأخرى، تحت الاحتلال الأوروبي.

أكثر من مليار ونصف مليار إنسان يعانون من مختلف أشكال سوء التغذية

التجربة البريطانية وحدها تميزت. ببساطة، لأن البريطانيين لم يقعوا ضحية أوهام الدستور. والقانون البريطاني لم يصدر عن جهة برلمانية منتخبة، ولم تتم صياغته في تشريع. القوانين المعمول بها تكونت بتراكم الأحكام السابقة، وتراكم القرارات والاتفاقيات والأحلاف، التي احتفظ بها النظام والشعب في وجدانه، ولم تصدر في تشريع محدد. إنها نوع من العقد الاجتماعي المتفق عليه.

اليوم، لم يعد طغيان الدولة هو المشكلة في العالم، هناك طغيان آخر تمارسه الشركات العملاقة. كما لم تعد المشكلة في شح الموارد.

قد يكون مفيدا أن نذكر هنا ما قاله الكاتب المسرحي والناشط السياسي الأيرلندي الساخر جورج برناردشو عندما سأله صحافي عن تعريف الرأسمالية، وكان برناردشو ذا نزعة اشتراكية. احتار شو قليلا (وكان نحيفا أصلع الرأس وذا لحية كثّة طويلة)، ثمّ أجاب قائلا (بعد أن مرّ بيده على لحيته ثم على رأسه) الرأسمالية غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع! هذا التوصيف، إن كان يصح، فهو يصح الآن أكثر من أيّ وقت مضى.

العالم لا يعيش اليوم في عالم الندرة. الثورة الصناعية حرّرتنا من “الندرة الاقتصادية”، وأزالت التناقض بين تزايد عدد السكان، وبين توافر الغذاء لإطعام الأعداد المتزايدة منهم. وبات الاقتصاد العالمي قادرًا على إنتاج كميات من السلع والغذاء تكفي لتأمين الحاجات الأولية لجميع سكان العالم، وإبعاد خطر المجاعة عنهم. وذلك على عكس ما سوّق له الاقتصادي الانجليزي توماس مالتوس الذي اعتبر أن عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية بينما يزيد الإِنتاج الزراعي وفق متوالية حسابية، وهذا سيؤدي حتماً إلى نقص الغذاء والسكن.

المشكلة، لا تقع في دائرة الإنتاج، بل في التوزيع المتفاوت للموارد والثروات والإمكانات. وهذا ما تؤكده اليوم معطيات الأمم المتحدة التي تقول إن 10 في المئة فقط من ثروات حفنة من أصحاب المليارات في العالم، تكفي لسد حاجات مليار فقير من الغذاء والدواء.

أكثر من مليار ونصف مليار إنسان يعانون من مختلف أشكال سوء التغذية، بما في ذلك ما يسمى “الجوع الخفي”، أي عندما تؤمّن وجبات التغذية التقليدية الكمية الكافية من السعرات الحرارية ولكنها لا تتضمّن الحد الأدنى الضروري من البروتين والدهنيات ذات المصدر الحيواني خصوصًا، وكذلك العناصر المعدنية والفيتامينات. وثمة تقديرات تفيد بأن ربع أطفال البلدان النامية يعانون في الوقت الراهن من “سوء تغذية غير مرئي”.

في النصف الثاني من القرن العشرين توفيت بسبب الجوع أعداد تزيد عن كل الذين هلكوا خلال المئة والخمسين السنة السابقة بسبب الحروب والقلاقل الاجتماعية. بينما مستوى تطوّر القوى المنتجة والتطوّرات العلمية والتكنولوجية المستخدمة في الإنتاج الزراعي، تجعل الإنتاج العالمي من المواد الغذائية قادرًا على تلبية الحاجات الغذائية لسكان العالم.

لا يكفي أن تنتج الدول مستعينة بالتكنولوجيا الحديثة المواد الغذائية بكميات وفيرة حتى يزول الجوع فيها. الأهم أن تكون هذه المواد الغذائية متاحة للجميع وضمن قدرتهم الشرائية. وهذا يتطلب توافر فرص عمل. بلغة أوضح، يتطلب حلولا اجتماعية.

وبعد هذا مازلنا مشغولين بالحديث عن دستور ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم.

لننسى طغيان الحاكم. دساتير العالم لم ولن تحل هذه المشكلة. لذلك تتجه دول العالم إلى مفهوم العقد الاجتماعي لمواجهة طغيان الشركات العملاقة.

التكنولوجيا وجائحة كورونا ثنائي غيّر العالم، والتغيير يهدد من بين أشياء كثيرة قدسية دساتير الشعوب، هناك اليوم عودة إلى مفهوم العقد الاجتماعي وفق منظور جديد.

لا يمكن أن تستمر المجتمعات على أساس الإغراق في التمايز المجتمعي والمادي والنفسي. العقد الاجتماعي ليس صلحا مع طغيان الدولة، بل هو صلح مع أيّ نوع من الطغيان، وخصوصا المادي منه متمثلا في الشركات الكبرى والأثرياء. حتى الشركات العملاقة نفسها بدأت تعي مقدار الحاجة إلى حل اجتماعي من هذا القبيل.

◙ حتى هذه اللحظة لم تتحقق المساواة بين الرجل والمرأة في الأجر والميراث وتبوّؤ المناصب العامة، فما بالك بالحرية

هكذا ينظر العالم للمسألة. فكيف ينظر العرب إليها.

الدستور تحول في الدول العربية إلى لعبة يلهي بها الحكام شعوبهم، وشماعة يعلقون عليها أخطاءهم. والدستور، الذي كان الهدف منه نيل الحرية، أصبح مجرد وسيلة لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

وبينما تشهد الدول العربية اضطرابات وتعاني شعوبها من أزمات اقتصادية واجتماعية خطيرة، يدور الصراع فيها حول الدستور. المعارضة أصبحت غاية في ذاتها، وميزة للتفاخر والتباهي.

أنا معارض إذن  أنا موجود.

انتهت الأحزاب المعارضة إلى كيانات ترفع شعارات ولا تقدم برامج ولا حلولا، بعد أن حولت الدستور إلى كتاب مقدس، تدافع عنه دون أن تدري ما بين دفتيه.

لقد كانت تونس سباقة في الإصلاحات الدستورية وسباقة في تحرير العبيد، وسباقة أيضا في تفجير الربيع العربي، الذي انطلق ليس دفاعا عن كتاب مقدس اسمه الدستور بل عن الحق في العيش بكرامة، فهل يكون لها اليوم شرف إرساء أول تجربة لعقد اجتماعي تنسج على منوالها باقي الشعوب العربية؟

#في #مساوئ #الدستور #وفضائل #العقد #الاجتماعي #علي #قاسم

تابعوا Tunisactus على Google News

- الإعلانات -

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد