قراءة في مذكّرات بن خدة عن اتفاقيات إيفيان
لا تزال اتفاقيات إيفيان تستهوي محترفي السياسة الذين ينظرون إليها على أنها “استقلالٌ ممنوح”، جادت به فرنسا على الجزائريين، وهذه مغالطة كبرى؛ فاتفاقيات إيفيان ليست حلقة منفصلة عن النضال الجزائري، بل هي مظهر من مظاهره ونتيجة من نتائجه، فما كان لفرنسا أن تجلس إلى طاولة المفاوضات لولا اقتناعها بأن المفاوضات هي المخرج من أزماتها الداخلية التي تفاقمت في فترة شارل ديغول، وبأن الشعب الجزائري متمسك بقضيته ومتشبث بأرضه ومصرٌّ على حريته.
لم تكن فرنسا تملك في ذلك الوقت إلا خيارا واحدا لا ثاني له وهو المفاوضات، لأن الاستمرار في اضطهاد شعب يتنفس الحرية كما يتنفس الهواء، هو مغامرة غير مأمونة العواقب ومقامرة تشبه مصارعة طواحين الهواء.
هناك تأويلٌ مغرض لاتفاقيات إيفيان يغذيه الفكر الاستعماري الذي يؤمن بفرنسا الأسطورة التي جاءت لإخراج الشعب الجزائري من الظلمات إلى النور، تأويلٌ مغرض يقرأ من يتولون كبره التاريخَ قراءة عجيبة تمجّد الجلاد.
لقد أبان بن يوسف بن خدة في مذكراته “نهاية حرب التحرير في الجزائر: اتفاقيات إيفيان” كثيرا من الحقائق التي طمسها المغرضون وحرفها المحرّفون والتي أفرزت فكرا عقيما وانبطاحيا بخلفية استعمارية مستعلية لا ترى الجزائر إلا قطعة من فرنسا.
إن مذكرات بن خدة في مجملها شهادة تاريخية على قدر كبير من الأهمية وذلك لسببين اثنين: أولهما أن كاتبها كان ضمن الوفد الجزائري المفاوض إلى إيفيان، وثانيهما أنه كان رئيسا للحكومة الجزائرية المؤقتة، وهما عاملان أساسيان من شأنهما أن يجعلا لهذه المذكرات قوة سندية واحتجاجية لا يمكن إنكارُها بأي حال من الأحوال.
لقد ذهب المفاوضون الجزائريون إلى “إيفيان” وهم مشبَّعون بقيم الثورة وعبق نوفمبر، ولم يذهبوا إليها -كما يدعي المغرضون- مهزومين مهطعين ومقنعي رؤوسهم، يقول بن خدة: “لقد بذلت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الساهرة على سيادة الشعب الجزائري كل ما وسعها لتحقيق الأهداف الأساسية التي حددها إعلان الفاتح من نوفمبر 1954 ولإرسائها على مائدة المفاوضات، حتى تكون نتائج “إيفيان” في نهاية الأمر مساوية لتضحيات شعب بأكمله وتكون قد استجابت لأمانيه الغالية”.
لقد خاب سعي المغرضين الذين راموا تحريف الحقائق وتزييف التاريخ وتصوير الوفد الجزائري في هذه المفاوضات بأنه حضر إلى “إيفيان” للتوقيع فقط لأنه لا يملك إرادة مستقلة، فكل الإرادات مجتمعة في خصمه الذي هو الخصم والحكم، توقيع في نظرهم يشبه التوقيع على وثيقة الاستسلام. يقول بن خدة في هذا الصدد: “إن الانتقادات المغرضة والتهجمات الصادرة من بعض محترفي السياسة، التي كانت هذه الاتفاقيات غرضا لها ووسيلة إليها في آن واحد، لم تكن لتفلح في تحريف الحقائق، فليس في هذه النصوص أي شيىء يعتبر من الناحية القانونية تنازلا لا رجوع عنه أو مشكلا عالقا لا حلّ له، ما دامت المبادئ سليمة، فكل ما بني يؤول إلى قضية مبادرة وديناميكية ثورية. إن قوة الثورة الجزائرية لا تتمثل في إرغام الفرنسيين على التفاوض وحسب، بل في أنها أبدعت على مرِّ السنين روحا وسلوكا خاصين بها كان أساس انتصار إيفيان”.
ينبغي للمؤرخين الجزائريين أن لا يقرأوا اتفاقيات إيفيان بعقلية “لاكوست” أو “بيجار” ولا بعقلية أنصاف المؤرخين الذين لا ترى في كتاباتهم شية من إنصاف ولا أمارة من اعتراف بحقائق ساطعة لا تنكرها إلا العيون الكليلة التي ترى –كما قال إيليا أبو ماضي- الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقها الندى إكليلا. يجب على المؤرخين الجزائريين أن يقرأوا اتفاقيات إيفيان بعقلية مستقلة تضع المفاوضات في إطارها ولا تُخرجها عن سياقها ولا تجعل منها وسيلة للتشكيك في الثورة وقذف رموزها زورا وبهتانا ولا تتنكر لآهات الضحية إرضاء للجلاد وطمعا فيما عنده من عرض زائل لا يتطلع إليه إلا من باعوا ضمائرهم وخانوا وطنهم وقبلوا أن يكونوا قطيعا تسوقهم الأعادي وتتحكم فيهم الأيادي الوسخة التي خاضت في أعراض الجزائريين وسطت على حقوقهم وصادرت حرياتهم وداست على كرامتهم.
يقول بن خدة: “.. وقد أدرك ديغول الخطر الذي سبّبته حرب الجزائر على نظامه وبلده وانقسمت فرنسا إلى شقين: أنصار التفاوض ومعارضيه، ومن ثمّة أرغِم ديغول على حل الأزمة؛ لأنه إذا لم ينهِ حرب الجزائر فإنها ستقضي عليه وتُدخل الأمة الفرنسية في غمار حرب أهلية”.
لقد كانت قضية الصحراء حاضرة وبقوة في صلب المحادثات في “إيفيان” فقد رفض الوفد الجزائري المفاوض مقترحات “بومبيدو” بشأن تأجيل التفاوض حول قضية الصحراء الجزائرية إلى ما بعد تقرير المصير، وتمسك الوفدُ بمبدأ القضية الواحدة والأرض الواحدة لأن أي قبول بما يخالف ذلك–كما أضاف بن يوسف بن خدة- “يشكل خطرا كبيرا على مستقبل الدولة الجزائرية إذ يحتمل نشوب حرب من أجل إعادة توحيد ترابها مع احتمال حدوث مناورات من طرف القوات المحتلة من أجل كسب تأييد الدول المجاورة للصحراء، لاسيما وأن إخواننا المغاربة كانوا يضغطون علينا بمطالبهم الترابية، فمحمد الخامس كان يطالب بتندوف ومنطقتها، كما طالب ابنُه الحسن الثاني بهما فيما بعد، وطالب بورقيبة بعلامة الكيلومتر رقم 233”.
لقد رفض الوفد الجزائري المفاوض-كما قال بن خدة- رفضا قاطعا فكرة “جزائر مبتورة عن صحرائها كما رفض مقترح حضور عسكري فرنسي يحمي الامتيازات الاقتصادية لفرنسا وللأقلية الفرنسية”. إن موافقة الوفد الجزائري المفاوض فيما بعد على مقترح إبقاء المناقشات حول الصحراء مفتوحة لا يشكل تخليا عن قضية الصحراء، كما أن الموافقة الجزائرية على هذا المقترح لم تكن موافقة مجانية، بل كانت مقابل اعتراف الطرف الفرنسي “أن تكون جبهة التحرير الوطني الممثل الشرعي والوحيد للشعب الجزائري”، وهو المقترح الذي قبله المفاوضون الفرنسيون أثناء الاتصالات السرية بسويسرا، وفي ضوئه قبِل الوفد الجزائري الدخول في مفاوضات رسمية مع الوفد الفرنسي.
لقد كشفت مفاوضات إيفيان بأن وقع الثورة الجزائرية على القادة الفرنسيين كان كبيرا؛ فقد اتسعت دائرة الخلاف الداخلي بين المكونات السياسية والعسكرية في فرنسا وكادت تؤدي إلى حرب دموية لولا فشل الانقلاب على شارل ديغول الذي قاده رافضون للمفاوضات ومتمسكون بـ”حق” فرنسا في الاحتفاظ بمستعمراتها. يقول بن خدة: “.. وقد أدرك ديغول الخطر الذي سبّبته حرب الجزائر على نظامه وبلده وانقسمت فرنسا إلى شقين: أنصار التفاوض ومعارضيه، ومن ثمّة أرغِم ديغول على حل الأزمة؛ لأنه إذا لم ينهِ حرب الجزائر فإنها ستقضي عليه وتُدخل الأمة الفرنسية في غمار حرب أهلية”.
إن تمسُّك الوفد الجزائري المفاوض بجبهة التحرير الوطني ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الجزائري ليس الهدف منه إقصاء التيارات الوطنية الأخرى أو إنكار جهودها في النضال الوطني، بل الهدف منه توحيد القيادة والذهاب إلى المفاوضات بقيادة جزائرية واحدة تعبِّر عن اهتمامات وطموحات كل التيارات والمكوِّنات الجزائرية، وقد كان هذا الموقفُ على قدر كبير من العقلانية وإحساس عميق بمآلات القضية حتى لا يتفرق الصف الوطني وحتى لا تتخذ فرنسا من حركة بعينها مطية لزرع الشقاق بين الرفاق أو تتخذ بعض الحركات وسيلة لإثارة الفتنة بين الجزائريين أو لإشعال فتيل حرب أهلية لا قدر الله.
ومن الانتقادات التي توجَّه إلى بن يوسف بن خدة اقتراحه يوم 24 أكتوبر 1961 بتونس التخلي عن فكرة تقرير المصير وإعلان الاستقلال من طرف فرنسا وبالمقابل وقف إطلاق النار فورا وإرجاء المسائل العالقة المتمثلة في: وضع الأقلية وجلاء القوات الفرنسية والتعاون الاقتصادي والتقني والثقافي لبحثها وحلها مع الحكومة الجزائرية المستقلة. هذا الاقتراح في اعتقادي لا يشكل طريقة مثلى لحلّ القضية الجزائرية بشكل حاسم ونهائي كما هو مأمول لأنه يتضمّن تنازلاتٍ لا تفضي إلى إنهاء الاستعمار بل تعطيه مهلة إضافية للبقاء على قيد الحياة واستمرار المعاناة الجزائرية، كما أنّ في فكرة إرجاء حل القضايا العالقة بين الجزائر وفرنسا إلى ما بعد تقرير المصير وتشكيل حكومة جزائرية مستقلة ما يشبه فكرة الاستقلال على مراحل، والاستقلال إما أن يكون تاما أو لا يكون.
ترتبط ذكرى عيد النصر بوقف إطلاق النار الذي أسفرت عنه اتفاقيات إيفيان التي شكّلت نصرا دبلوماسيا للقضية الجزائرية، وأغتنم هذه الذكرى لكي أذكر بالمبادئ الآتية:
1- إنّ الاستقلال الوطني مكسبٌ كبير تحقَّق بفضل نضال الحركة الوطنية بكل مكوّناتها وليس من العدل نسبة ذلك إلى مكوِّنٍ دون آخر، وكما نجح المفاوضون الجزائريون في إيفيان في إحراز النصر بتمسُّكهم بالوحدة الوطنية، فإنّ علينا نحن جيل الاستقلال وما بعد الاستقلال أن نحذو حذوهم ونجعل الوطن قضية جامعة لا قضية جماعة.
2- إن رفض المفاوضين الجزائريين في إيفيان فصل الصحراء عن الجزائر ورفض مناقشتها كقضية مستقلة يحتم علينا اليوم نهج العقيدة ذاتها؛ فالجزائر واحدة موحدة غير قابلة للقسمة، وكل نظرة مخالفة لذلك فهي في اعتقادنا نظرة انفصالية متطرفة ينبغي التصدي لها ومحاربتها من دون هوادة.
3- إن قوة الدبلوماسية أمرٌ بالغ الأهمية، فقد كان للدبلوماسية دورٌ حاسم في مفاوضات إيفيان، وعليه ينبغي علينا أن نسير في الاتجاه نفسه، وبالآليات الجديدة التي يفرضها العصر، فمن كسب الدبلوماسية كسب الحرب.
#قراءة #في #مذكرات #بن #خدة #عن #اتفاقيات #إيفيان
تابعوا Tunisactus على Google News