كأن تونس جديدة تتهيأ
يسود شعور عام لدى قطاعات واسعة في تونس بنهاية السياسة، وهناك حالة إحباط تتفشى مع حرارة الصيف ولا تؤذن بتجدد أي نشاط ذي صبغة عامة، ويبدو في المشهد فاعل وحيد يتقدم نحو مستقبل غامض بوسائل لا تحظى بأي إجماع فلا تثير أي حماس. ويطرح البعض أسئلة كثيرة عن الوجهة والمصير، وقليل من يجد إجابة تشفي الغليل.
منذ أن طرحت نسخة الدستور في السوق عبّرت غالبية واسعة عن رفضها له، ولكنها معارضات مشتتة تماما كما هي إزاء الانقلاب، لذلك لم نلمس موقفا موحدا من الاستفتاء عليه، ولا نرى في الأفق خروجا جماعيا ضده وتأجيلا للخلافات حول ما بعده حتى إسقاطه. أي أن الموقف من الدستور هو عين الموقف من الانقلاب، وهو للغرابة عين الموقف من الثورة، فكل عمل جماعي يجعل وجود إسلاميين جزءا من مشهد سياسي مستقر لا يمكن توقعه أو العمل عليه.
لكن في هذه اللوحة السوداء نرى بداية طريق، هذه المرحلة تجهز على دولة انتهت صلاحيتها وفقدت قدرتها على البقاء والتجدد، غير أن ما يعجزنا هو توقع الزمن الذي سيستغرقه ميلاد شيء جديد من هذا الركام.
الموقف من الدستور هو عين الموقف من الانقلاب، وهو للغرابة عين الموقف من الثورة، فكل عمل جماعي يجعل وجود إسلاميين جزءا من مشهد سياسي مستقر لا يمكن توقعه أو العمل عليه
زيف المجتمع المدني التونسي
لم يبلغنا خبر جميل منذ سنوات طويلة عن جمعية كروية تدار بشكل سليم وخال من الفساد (يقول التونسيون الميك ماك- mic mac)، ولم نسمع عن الجمعيات إلا صراعات التموقع وتدبير الرأس أو تهم التمول من الخارج، أما الأحزاب والجمعيات السياسية فهي أقرب في أذهان الناس إلى عصابات مفسدين يمارسون السياسة لتحصيل منافع للقيادة (صورة المعري القديمة، جلب الدنيا إلى الرؤساء)، أما النقابات فأوكار حقيقية للفساد والتخريب.
بوعي كامل بالاجتماع الإنساني لا نبحث عن مجتمع مثالي تديره ملائكة طاهرة، لكن نجزم بناء على ما نسمع ونعاين بأن حالة نفور عامة تفشت جعلت عموم الناس معرضين عن كل عمل ذي صبغة مدنية وسياسية فيها نفع عام. لذلك فإن المسارعة إلى الحلول الفردية وفي مقدمتها تدبر وسائل غير قانونية للهروب من البلد؛ تُسمع وتُرى في كل مكان. هناك قناعة بأنه لا يوجد مجتمع مدني تونسي حقيقي قادر على تأطير الرغبات العامة والطموحات الفردية، وصبها في قالب يدفع المجتمع إلى التطور والتغيير الذاتي.
لقد تفشى خطاب يمجد مجتمعا مدنيا تونسيا غير موجود فعلا، وكان من فضل الانقلاب أن فضح هذا الزيف فانكشف أن الخطاب مجرد غطاء صفيق تخفّى وراءه قوم لم يجسدوا إيمانهم بمدنية المجتمع والدولة، ومارسوا به الإقصاء والتفرقة الجهوية التي تمتد لعمق كرة القدم.
تقاطعات بين معارك كثيرة
المعارك الأشد وطأة مستمرة ولم تغير الثورة منها ومن قوة فاعليها، وأعني المعركة الطبقية. فطبقة رأس المال ظلت تعاند احتمالات العدالة التي ظهرت في مطالب الثورة، وخلقت أملا بعدالة اجتماعية بين الناس وبين الجهات. وحمل نص دستور 2014 بذرة ترسيخها بالميز الإيجابي وبكسر المركزية في إدارة الجهات. وحَمَلة هذا المطلب من السياسيين وخاصة منهم الإسلاميون؛ فشلوا في فرض هذه المطالب ووقعوا في فخ ترضية طبقة رأس المال، وهي طبقة فاسدة لا يُرجى صلاحها.
تفشى خطاب يمجد مجتمعا مدنيا تونسيا غير موجود فعلا، وكان من فضل الانقلاب أن فضح هذا الزيف فانكشف أن الخطاب مجرد غطاء صفيق تخفّى وراءه قوم لم يجسدوا إيمانهم بمدنية المجتمع والدولة، ومارسوا به الإقصاء والتفرقة الجهوية
لذلك نعاين أن هذه الطبقة تقف بقوة خلف الانقلاب دون أن تكشف وجها حزبيا أو نقابيا وتدفع دستوره إلى الأمام، ففي دستوره إنهاء لهذا الحلم بالعدالة. هذه الطبقة عاشت دوما تحت جلباب رئيس بسلطات مطلقة، تملي عليه فيخدمها فتحميه من السقوط وتبني مكانتها ونفوذها به. وهذا الدستور يعطيها ما تريد، فتفريق السلطات التنفيذية يضيق عليها عيشها ويجعلها تحت سيف المساءلة ولو بعد حين، ونحن نشاهدها تقطع الطرق على هذا الاحتمال، أي دستور 2014.
تتقاطع هذه الطبقة مع قوة التدخل الفرنسي في تونس عبر نفوذها الاقتصادي والسياسي والثقافي الذي ترسخ عبر عمر دولة الاستقلال أكثر مما ترسخ في زمن الاحتلال المباشر، وأكثر مكونات هذه الطبقة إما مناول مع مؤسسة فرنسية أو شريك (غطاء قانوني) لشركة فرنسية، فوجوده مرتهن للنفوذ الفرنسي وهو غير منفتح لمغامرة مكلفة بتغيير الشركاء والمغامرة الخطرة.
تتقاطع هذه الطبقة مع ما سمي بتيار التحديث، وهو تيار لا يرى التحديث إلا حربا على الإسلاميين القادمين من خارج الدولة (ليحتلوها)، وهم قوة غامضة ومخيفة لأنها يمكن أن تغير التوازنات القائمة وتحشر أنفها في عالم المال والأعمال فتكون منافسا شرسا، وقد تدخل شراكات جديدة (تركيا مثلا)، ولذلك فإن قطع الطريق السياسي عليها مقدم على كل حرب. واستباقا لهذا الاحتمال (الذي لا يزال افتراضيا) فإن مركزة السلطة في يد رئيس واحد (مفاوض وحيد) يمنع هؤلاء من أخذ جزء من السلطة، ولو في مقعد معارضة ضمن نظام ديمقراطي تعددي.
هذه التقاطعات تنهي الآن كل وعود دستور 2014 وتعيد الوضع إلى ما قبل الثورة، أي إلى لحظة الفشل التي أدت إلى الثورة. هل يملك البلد قدرة على العيش بوضع سبَقَ الإقرارُ بفشله؟
معركة أخيرة للحفاظ على وضع فاشل
المركب المالي الجهوي المتقاطع مع تيار التحديث الأيديولوجي والمتقاطع مع النفوذ الفرنسي المالي والثقافي؛ يعمل من خلال إسناد الانقلاب وإلغاء دستور 2014 على العودة بالبلد إلى ما قبل الثورة، أي زمن ابن علي. عام الانقلاب سمح برؤية واضحة لهذه القوة المحافظة، لكن هل يمكنها النجاح في هذه العودة؟
دفع الانقلاب البلد إلى وضع اقتصادي هش ورفع احتمالات الاحتجاج الاجتماعي، حتى أن المقارنة بوضع تونس تحت ابن علي لم تعد ممكنة، فالدولة عاجزة عن الدفع
لقد دفع الانقلاب البلد إلى وضع اقتصادي هش ورفع احتمالات الاحتجاج الاجتماعي، حتى أن المقارنة بوضع تونس تحت ابن علي لم تعد ممكنة، فالدولة عاجزة عن الدفع (هذه مرحلة لم يصلها ابن علي).
يستكمل المنقلب الآن شكليات ترسيخ دستور (وإنهاء الوضع الاستثنائي)، ونظنه يستكمل انتخابات بمن حضر ويؤلف برلمانا على هواه. ونظنه يفكر في بقاء أبدي، ولكن كلما طال بقاؤه استفحلت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، فالرجل جاهل بسبل إدارة دولة وهو لا يستعين بأحد من أهل الخبرة، وقد أهان كل من تعاون معه حتى خلق نفورا عاما لدى عارضي الخدمات على السلطة وهم كثر. لكن كيف سيواجه من يستلم بعده هذا الوضع الكارثي؟ هنا تبدأ قصة بلد جديد.
في تجارب كثيرة واجهت الحكومات أوضاعا كارثية بالعنف وأخضعت الناس بالقهر، ولكن حلول العنف أدت إلى مزيد التعفن بما ضاعف قوة الانفجارات اللاحقة. من يخطط الآن سرا أو جهرا لاستلام البلد بعد الانقلاب (سواء حافظ على الرئيس الحالي كواجهة مدنية أو استبدله بنفس قانونه الانتخابي) سيواجه معضلات اقتصادية متراكمة، مع عجز فاضح على تقديم الترضيات الاجتماعية المؤقتة التي كان ابن علي يقدمها لإخماد الشارع. سيختلق تلك المعارك الجانبية، مثل حرب على الإسلاميين، من أجل حرف الأنظار عن الأزمة الحقيقية بتعليق أسباب الفشل على ظهورهم، لكن هذه أيضا معركة منتهية ولو ذهبت بكل الإسلاميين إلى السجون والمنافي. لقد واجه ابن علي معركة مماثلة ببيع مؤسسات قطاع عام صرف ثمنها على الترضيات لكن لم تعد هناك مؤسسات تباع.
تونس أخرى تتهيأ في الغيب وتولد من رحم هذا الخراب الكبير، شكلها وأدواتها ليست واضحة بعد، لكن لا نرى دولة تعود بهذه النخب ولا بهذه الأجهزة. يمكننا بدء حساب كلفتها الدامية، ونتوقع أنها ستستغرق زمنها الطبيعي (ولا يمكننا حسابه)، لكن جيلا قادما سيقطع مشيمته بيده ويخرج من تحت هذا الركام متحررا من كل أوهام المجتمع المدني التونسي العبقري ومن براعة رأس المال المناول، ومتحررا بالخصوص من وهم التحديث الاستئصالي هذه المرحلة ستحمل غثاء كثيرا وسيصفو النهر.
نحتاج جملة أخيرة: من الشرف فسح المجال لهذا الجيل لينظف المجرى.. الأستذة على هذا الجيل من فعل الفواحش.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
#كأن #تونس #جديدة #تتهيأ
تابعوا Tunisactus على Google News