لماذا اعتماد اقتصاد الأزمة في تونس ضرورة ملحّة؟
في كل مرة تطالعنا فيها التقارير الدولية أو الإقليمية ذات المنبت الدولي بأحاديثها العجائبية عن الاقتصاد التونسي لابد من التوقف ملياً، فالمتابع لتقارير تلك الجهات يجد فيها الكثير من المبالغة لدرجة تغليب الطابع السياسي على الجانب الاقتصادي والاجتماعي وبشكل مقصود، والكثير مما يقرأ في طيات تلك التقارير يكون مدسوساً، القصد منه توجيه رسائل جديدة لرئيس الجمهورية “قيس سعيد”، وذلك لخدمة أهداف وغايات سياسية لجهات معينة باتت معروفة للعالم أجمع. وقد يكون من السذاجة بمكان التعامل مع الظروف الاقتصادية التي يعيشها المواطن التونسي منذ تجميد البرلمان والإطاحة بالغنوشي… بتراخٍ مصحوب بالتعامي عن الحقائق التي تشهد عليها فصول الضغوط التي تتعرض لها القطاعات الإنتاجية والخدمية المترافقة مع مناخات معيشية مؤرقة وخانقة، تظهر فصولها في الضربات القاضية التي تعرضت لها الشركات والمؤسسات وكل ما له علاقة بعالم الأعمال والبزنس، حتى بلغت الخسائر المباشرة حداً أثر في القدرات الاقتصادية للبلد… لكن يجب أن نكون منصفين فالكل يعرف أنّ السياسة العامة المتبعة في تونس، بعد الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، لم تكن فيها تجاه الملفات والأجندات الاقتصادية بتلك الموضوعية المأمولة التي تخدم الواقع التونسي أكثر من أذيته، بل كان التعتيم مسيطراً على ذهنية الحكومات المتعاقبة التي طالما أشاعت مفهوم عدم نشر الغسيل الوسخ ضماناً وأماناً في تشبيك غير مفهوم بين الأداء الحكومي والإنتاجي والبعد السياسي لصورة القطاع العام وحتى الخاص أمام الرأي العام التونسي، ومحاولة تجنب الشماتة من الأطراف التي تضمر وتعلن العداوة لمقدرات تونس، كما يصر الخبثاء على النعت والتوصيف تهكماً لعقلية موروثة تخوّن كل من يشير بالنقد البنّاء إلى مواضع الخلل والفساد وسوء استخدام السلطة والمنصب الحكومي.
إن الأزمة الاقتصادية لم تضرب بنية الاقتصاد التونسي، إنما أظهرت نقاط ضعفه وأبرزتها، وعلى الرغم من وجود الكثير من القضايا التي تدخل في ملفات الفساد، إلا أن أحداً لم يتجرأ على رفع أصابع الاتهام في وجه حكومات ما بعد ثورة 2011 وبخاصة أولئك المنظرين المصطفين في صف النقاد والمحللين، الذين لم يقلبوا في صفحات أخرى غير صفحات الدولة ومؤسساتها، وتفنن هؤلاء بعرض الصفحات البيضاء للجهات التي يمثلونها… لقد صمتوا على مدار سنوات طويلة دون الإشارة إلى وجود أي خلل أو مرض في بنية الحكومات التي كانت تسير بنظام ريموت كنترول جماعة إخوان تونس والأحزاب التابعة لها. وسبق أن قلنا مرّةً: لا يجوز لأحد (أو لفئة)، مهما كان وأنّى كان موقعه، أن يُقنع نفسه باحتكار الصواب أو الحقيقة، إلاّ بمقدار ما يُتيح للآخر من مساحة في الحوار، لأنّ الحوار هو اللقاح النموذجي الواقي من النكوص والانزلاقات الخطرة، وهو الذي يؤسّس لكيفية طرح الأسئلة وكيفية تقديم الإجابات الواضحة عنها. ذلكم هو المدخل الحقيقي الصائب للحديث عن الآثار الاقتصادية للأزمة التونسية التي تُلقي بحمولتها الثقيلة على تونس منذ الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ليس من أجل تبيان المخاطر أو كشف الشياطين المختبئة في طيّاتها وحسب، وإنّما (وهذا الأهمّ) لكي تكون المؤشّرات والأفكار المطروحة في سياقات الأزمة حجر الأساس في إعادة إنتاج هيكلة جديدة لأولويّات الاقتصاد التونسي خلال المرحلة القادمة.
الثابت اليوم، أنه ليس الخوف من المجهول هاجساً حقيقياً بالنسبة لحكومة “نجلاء بودن”، وليس المستقبل كابوساً أبداً، ذلك أن الصورة والرؤية والأسلوب والغاية والهدف النهائي أمور واضحة وجلية بالنسبة لرئيس الجمهورية “قيس سعيد”، وهو يدرك أن حكومة “نجلاء بودن” قادرة على تجاوز كل التحديات وما يرافقها من أحداث سياسية أو أمنية أو تخريبية، أو تدخلات خارجية كثيرة تجهد للتأثير في عضد الدولة والشعب… لكن في المحصلة تأثيراتها لم تترك تأثيراً حقيقياً على المستوى الشعبي أو الرسمي لأكثر من سبب أولها أن تونس دولة مؤسسات على الرغم من كل الانتقادات التي توجه إلى تلك المؤسسات، وثانيها أن كل تلك المحاولات تبقى في حدود المواقف الفردية التي لا يترتب عليها نتائج ذات تأثير يذكر وغيرها أن بعض الأحداث والعمليات التي كانت تستهدف الفت من عضد الدولة انقلبت آثارها سلباً على منفذيها، بل وزادت من الخلافات المتأصلة بين الشخصيات التي نصبت نفسها ناطقة باسم الشعب التونسي تحت عنوان المعارضة، واتخذت من قنوات الفتنة منبراً لزيادة حالة التوتر بين أبناء الشعب الواحد.
اليوم دعونا نتفق جدلاً على أن في الأزمة الاقتصادية التونسية إيجابية ما، ولو أن الكثيرين لن يتفقوا معنا على هذه الفكرة التي نؤكد جدليتها، وبناء على ذلك فإن خيط الإيجاب هذا يتعلق بصفعة مؤلمة توقظ المجتمع الاقتصادي التونسي من خدر الخطأ والخطيئة، وتنشد التغيير المتجدد الذي يلغي أزمان التخفي خلف الإصبع، ومن هذه الجدلية يقفز سؤال، ما الحل إذاً وما هي الآلية الأقل ضرراً للتعاطي الاقتصادي وفصله – قدر المستطاع ـ عن السياسة وإبعاده عن آثارها؟! قد يكون من المحال فصل الاقتصاد عمّا يجري، ليس لأنه الوجه الآخر للسياسة فحسب، بل لأنه الهدف المعتمد ـ كما أسلفنا ـ لإنهاك تونس، ولعل ما جرى ويجري من استهداف الاقتصاد إنما يؤكد مرامي المخططين، بيد أن ثمة إجراءات اقتصادية مازالت ممكنة الأخذ والتطبيق، وقد تؤتي من الأدوار ما يؤخّر إنهاك الاقتصاد التونسي، ولمواجهة كل تحد قائم يصبح العمل بأعلى مستوى من الجدية لتقوية الاقتصاد والصناعة المحلية هو المطلوب اليوم من أجل زيادة قدرة الصناعة على المواجهة أو على الأقل التقليص من حجم المنعكسات السلبية التي يمكن أن تصيب الصناعة التونسية جرّاء التحديات الاقتصادية المفروضة على الشعب وعلى الاقتصاد الوطني والصناعي.
وأمام هذا الواقع لابد من إجراءات وخطوات إيجابية يجب اعتمادها لحماية الإنتاج واستمرار سير العملية الإنتاجية وهي خطوات كثيرة وجميعها تفضي إلى نتائج إيجابية، فيجب دعم الصناعة الوطنية، وهذا الدعم هو واجب وطني على الجميع من أجل استمرار العملية الإنتاجية بكل قوة، كما يجب الانتهاء بصورة حاسمة ونهائية من الإنفاق غير الرشيد والقضاء على الهدر وعلى الاستخدام غير الصحيح للموارد المتاحة وللطاقات الإنتاجية، والمحافظة على الدور الهام للقطاع العام في الاقتصاد الوطني بل وتقوية هذا الدور والعمل في آن واحد على تحسين أدائه ورفع إنتاجية العمل فيه، فالموقع القوي للقطاع العام في كل اقتصاديات العالم يمثل عاملاً ضابطاً لهذا الاقتصاد يحميه من الظروف الصعبة، ويحافظ على استقراره وتجنيبه الأزمات غير المرغوبة، وأكثر من ذلك فإن قوة القطاع العام تمثل بالنسبة للشعب التونسي عامل دعم وضمان لنشاط القطاع الخاص والقطاعات الاجتماعية الأخرى، وإن التعددية الاقتصادية لا تعني على الإطلاق تواجد عدد من القطاعات الاجتماعية العاملة في آن واحد كالقطاع العام والخاص والمشترك والتعاوني وإنما تعني تعظيم دور كل من هذه القطاعات بصورة متكاملة وفعّالة، وعليه فإن رفع مستوى أداء كل من هذه القطاعات يمثل مهمة على درجة عالية من الأهمية، كما نعتقد أن جهود رئيسة الحكومة ”نجلاء بودن” للنفاذ إلى أسواق بديلة استيراداً وتصديراً مازالت محدودة للغاية، وهذا يتطلب مضاعفة هذه الجهود لفتح الأسواق والآفاق أمام العالم والدول الصديقة بشكل خاص.
خلاصة الكلام: في تقديرنا الشخصي، يجب الإسراع في اعتماد اقتصاد الأزمة التونسية، فهو ضرورة ملحّة ولا ينضوي تحت “يخشى أن يقال” لأن ما يمكن أن يحدث إن استمرت الأزمة أبلغ وأصعب من كل ما يمكن أن يقال، ولا ننكر أن هناك حراكاً حكومياً تقوده رئيسة الحكومة “نجلاء بودن”، بكل الاتجاهات، هذا الحراك لا بد أن ينتج عنه فعلاً مطبقاً على الأرض… بمعنى أننا نأمل خيراً من الأيام القادمة ستحمل إلى الشعب التونسي بشائر تطمئنه عن الاقتصاد التونسي، ولا سيما أن الأزمة التي يعيشها المواطن التونسي قد كشفت الكثير من مكامن الضعف الذي كان يعتريه خلال سنوات ما بعد ثورة2011.
كاتب صحفي من المغرب.
#لماذا #اعتماد #اقتصاد #الأزمة #في #تونس #ضرورة #ملحة
تابعوا Tunisactus على Google News