- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

ماذا حدث لشعب تونس؟

- الإعلانات -

سؤال يطرحه كثير من الملاحظين وهم يرون بتعجب وحيرة صمت الشعب التونسي وسكونه أمام الانقلاب الغادر وهو الشعب نفسه الذي أطلق شرارة ربيع الشعوب ودشّن واحدا من أعظم أطوار الأمة طلبا للحرية ورفضا للظلم والاستبداد. فكيف لهذا الشعب الثائر أن يصمت أمام آلة الانقلاب الغادر وهي تصفّي أثمن مكاسبه وانتصاراته التي خطها بدماء الشهداء وتضحيات الأحرار؟

يبدو هذا المبحث مبحثا على قدر من الدقّة والخطورة في محاولة تبيّن العوامل التي تحدد حركة الجماهير واستكشاف الأسباب الكامنة خلف كمون الجموع واستكانتها رغم بشاعة آلة العسف والتنكيل ومصادرة الحريات. لكنه من جهة ثانية يصطدم بتداخل العوامل التحليلية وتنوعها زمانا ومكانا وخصائص ومرجعيات فمنها الاجتماعي ومنها الفردي ومنها الاقتصادي والسياسي الداخلي والخارجي إضافة إلى عوامل وفواعل أخرى كثيرة تدخل في تحديد طبيعة الحركة والسكون أسبابا وأبعادا.

أين الشعب؟

حين تستبدّ بالمرء حالات اليأس والشعور بالإحباط والألم ينطلق لسانه كحال الكثيرين بتخوين الشعوب العربية ووسمها بالجبن والفساد والانحطاط فيتهمها بأنها سبب ما فيه الأمة من تخلف وانهيار. قد يبدو في هذا الحكم على قساوته بعض من الصواب لأنّ انتشار الفساد وتحوّله إلى ثقافة اجتماعية بما في ذلك الرضى بالاستبداد ما كان له أن يكون لولا التواطؤ الجمعي سواء كان ذلك عن قصد أو عن غفلة لا واعية. لكن من جهة ثانية لا يستقيم أمر هذا الحكم تحليليا لأن حالة السكون الجماهيري ليست فطرة شعبية بقدر ما هي محصّلة ونتيجة موضوعية لتراكمات سياسية واجتماعية واقتصادية وتاريخية ونفسية متشابكة.
  
ثم إنّ “الشعب” مصطلح زئبقي غامض مُغالط لا يعني في الحقيقة شيئا فالشعب هو كل شيء لكنه من جهة ثانية لا شيء. فهل نقصد بالشعب كل المساحة والفواعل التي تقع خارج السلطة السياسية؟ أم نقصد به الطبقات الفقيرة والمتوسطة من المجتمع ؟ هل الرئيس مثلا وحكومته جزء من الشعب أم لا؟ هل يمكن الفصل بين الشعب ونخبه مثلا أم لا؟

منذ الانقلاب المُعلن في 25 يوليو الماضي سادت الشارع التونسي حالة من اللامبالاة وانعدام ردّ الفعل الذي نجم عن أسباب عديدة متداخلة قادرة على فكّ شفرة حالة الموت الجماعي الجاثمة على صدر المجتمع أمام مذبحة الديمقراطية الناشئة.

للشعب إذن ألف تعريف وتعريف لكننا لن نظفر له بمفهوم جامع مانع قادر على فصله عن باقي مكونات البلد أو الأمة أو الدولة فنفصله مثلا عن مفهوم المواطن هذا إن وجد مفهوم المواطن في بلاد العرب أصلا. الكلّ يتحدث باسم الشعب فهذا “التيار الشعبي” وهناك “حزب حركة الشعب” ومن هنا “حزب الجبهة الشعبية” ومن هنالك “تجمع القوى الشعبية” وصولا إلى “الحشد الشعبي” أو حتى “البنك الشعبي”.. فأين الشعب إذن؟

الشعب في الحقيقة كتلة متنافرة متجانسة في آن تنقسم طبقيا واقتصاديا وجهويا وقبليا وعقائديا وسياسيا وفكريا.. إنها في الواقع كلّ شيء لكنها في اللفظ لا شيء. خذْ مثلا شعار “الشعب يريد” الذي يتبناه ويتاجر به كل السماسرة في تونس! هذا الشعب الذي يريد كان في الحقيقة قلّة قليلة من الأحرار التي خرجت إلى الشوارع تطالب برحيل الطاغية حتى أسقطته أماّ الأغلبية الساحقة فقد كانت خارج مسار الأحداث وهكذا هو حال كل التغيرات الاجتماعية الكبرى التي تصنعها أقلية قليلة.

السكون الأوّل والحركة الأولى 

كانت النقطة الانفجارية التي تلت لحظة إحراق الشهيد محمد البوعزيزي جسده إعلانا فرديا وجماعيا عن انتهاء حالة السكون الشعبي التي دامت عقودا طويلة منذ ما سمّي زورا استقلال تونس. اتسعت حركة الاحتجاجات انطلاقا من المدينة الرمز سيدي بوزيد لتنتشر في الجوار المباشر مثل مدينة تالة والقصرين ثم وصلت الحركة إلى قلب مدينة صفاقس لتنتهي أمام وزارة الداخلية التونسية يوم 14 من أول شهور سنة 2011 الذي توافق مع لحظة هروب رأس النظام إلى السعودية.

تاريخيا لم تتوقف المظاهر الاحتجاجية والتحركات الشعبية منذ استيلاء بورقيبة على السلطة في 1956 وشروعه في تصفية خصومه التاريخيين لتخلوَ له البلاد وينصّب نفسه زعيما أوحدا ومجاهدا أكبر هو الدولة وهو الشعب وهو التاريخ وهو كل شيء. انتفاضة الخبز الشهيرة وأحداث قفصة الدامية وانتفاضة الحوض المنجمي وغيرها من التحركات الشعبية التي واجهها النظام ببشاعة مطلقة وقمع غير مسبوق كانت علامة على حيوية النبض الشعبي الرافض للاستبداد بالسلطة. لكنها جميعا لم تنجح في تكوين موجة شعبية قادرة على إسقاط النظام مثلما حدث في 2011 وهو الأمر الذي جعل هذه الحركة ترتقي إلى مطاف الثورات لأنها أسقطت رأس النظام وكانت سببا قويا في فتح المجال لقوى التغيير حتى تؤسس لطور سياسي واجتماعي جديد.

صحيح أيضا أنّ البنية الفردية والجماعية لشعب تونس تتميّز بنزوع تاريخي ظاهر إلى الفعل السلمي وإلى نفور جماعي من كل فعل عنيف أو عمل مسلح في التعبير عن المطالب الاحتجاجية كما هو الحال في كل تاريخ الحركة الطلابية أو الاحتجاجات العمالية التي لم تتوقف منذ “الاستقلال”. بل إن تحركات التيار الإسلامي منذ نشأته وصولا إلى فترة القمع الدموي التي وُوجِه بها في بداية التسعينيات مع بن علي أو في الثمانينيات تحت حكم بورقيبة لم تنزع إلى العنف أو إلى العمل المسلّح في مواجهة النظام كما هو الحال في أقطار عربية أخرى رغم كل أكاذيب النظام ومحاولته ربط العنف بالتيارات الإسلامية.
 
السكون الثاني 

منذ الانقلاب المُعلن في 25 يوليو الماضي سادت الشارع التونسي حالة من اللامبالاة وانعدام ردّ الفعل الذي نجم عن أسباب عديدة متداخلة قادرة على فكّ شفرة حالة الموت الجماعي الجاثمة على صدر المجتمع أمام مذبحة الديمقراطية الناشئة.
 
نجحت القوى المعادية للثورة وهي الخاسر الأكبر من المنجز الشعبي الذي ضرب مصالحها في شيطنة الفعل السياسي بعد الثورة مركّزة كل طلقاتها على برلمان الشعب في قصف مزدوج من الداخل ومن الخارج. فتحْتَ قبّة البرلمان نشطت الكتل البرلمانية المرتبطة بالنظام القديم في إحلال حالة من الفوضى والتهريج خلال عرض ومناقشة مشاريع القوانين مما حوّل المشهد البرلماني إلى سرك مفتوح. نشطت في هذا السياق كتلة الدستوري الحرّ والكتلة الديمقراطية بمكوناتها القومية واليسارية واستبسلت في تعطيل عمل المجلس النيابي مما خلق لدى الجماهير المتابعة لأشغال المجلس حالة من التبرّم واليأس من جدوى العمل البرلماني.

كان حصاد عشر سنوات من المسار الديمقراطي حصادا مُرّا أطاح بآخر معاقل الاستقرار بعد أن استُنزفت خزينة الدولة إثر تغوّل النفقات الحكومية وانهيار نسق الانتاج وتعطّل المرافق الانتاجية الحيوية التي أتت الجائحة على آخر مصادرها.

في الخارج تمكّنت الأذرع الإعلامية للنظام القديم من رسم صورة قاتمة عن العمل السياسي عبر اتهام السياسيين والبرلمانيين بالفساد والفشل وحتى بالإرهاب خدمة لأجندات إقليمية وضعت الإطاحة بالتجربة الديمقراطية التونسية صوب أعينها. تحالفت معها القوى النقابية التي تدّعي زورا تمثيل الطبقة الشغيلة في حين راكم قياديوها الثروات والمنافع من عرق العمّال ومن قوت الشغالين فكان الاتحاد العام التونسي للشغل أو المركزية النقابية كتيبة أساسية من جيش الحرب على الثورة وعلى المسار الانتقالي. خلقت موجة الاضطرابات والاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات حالة من الشلل الاقتصادي الذي فاقم المعاناة الاجتماعية للطبقات المتوسطة والفقيرة وضاعف من الشعور بالخيبة والنقمة على الطبقة السياسية وعلى الثورة نفسها.
 
في الجهة المقابلة كشفت الأحزاب المحسوبة على الثورة عن عجز قاتل في الأداء السياسي والاقتصادي وأبانت عن قصر نظر فضيع في الملفات الاجتماعية الحارقة وخاصة منها ما تعلّق بالقدرة الشرائية للمواطن الفقير. أمعن السياسيون في تصعيد الخطاب العدائي بين بعضهم البعض وانتشرت تهم الفساد والخيانة بين الحلفاء أنفسهم ولم تنجح الطبقة السياسية في تفعيل القوانين القادرة على الحسم في ملفات الفساد المتراكمة بل إنها سكتت عجزا أو تواطؤا مع العصابات الكبيرة التي تفتك بالاقتصاد والمجتمع.
 
كان حصاد عشر سنوات من المسار الديمقراطي حصادا مُرّا أطاح بآخر معاقل الاستقرار بعد أن استُنزفت خزينة الدولة إثر تغوّل النفقات الحكومية وانهيار نسق الانتاج وتعطّل المرافق الانتاجية الحيوية التي أتت الجائحة على آخر مصادرها.

شكّلت هذه الحصيلة حالة من الخيبة الشعبية العميقة في قدرة السياسيين والنخب على تحقيق القدر الأدنى من الاستقرار الاجتماعي الذي يتأسس أولا وقبل كل شيء على ضمان الحدّ الأدنى من القدرة الشرائية ومن ضمان توفر كتلة الأجور اللازمة لسداد رواتب العمال والموظفين.

فقرُ الوعي بعمق الاستبداد 

من السهل على النخب التونسية التي كانت السبب الأساسي في الانقلاب وفي انهيار المسار الانتقالي أن تتهم الشعب بالسكون والعجز في مواجهة الدكتاتورية الناشئة. لذا نسمع اليوم كثيرا من “المناضلين” يتهمون الشعب التونسي بالعجز والجبن والرضى بالموت تحت نعل الطاغية الجديد وعصابته لكنهم لا يطرحون السؤال القاتل: ما الذي دفع هذا الشعب الثائر إلى الرضى بالأذى والصمت أمام جرائم الانقلاب ؟ ما الذي حوّل الكتلة الثائرة إلى حطام من البشر؟

من المُعيب تحليليا ومن الظلم أخلاقيا اتهام الشعب بأنه ساكن أمام الانقلاب فردّة الفعل الشعبية ليست في الحقيقة سوى محصّلة طبيعية وموضوعية لسلسلة من الخيبات العميقة التي قتلت داخله كل أمل في التغيير. لقد ارتكبت النخب المحسوبة على الثورة أخطاء كارثية بسبب تكالبها على كعكة السلطة وأغفلت طوال سنوات قلب المعركة مع بقايا الدولة العميقة يوم رضيت بالحوار مع جلادي الأمس وجلست إلى طاولة التفاوض مع أشرس أعداء الشعب وخيّرت التصالح مع الجلادين يوم كان الشعب يُطالب بالقصاص من دولة العصابات وأركانها ورجالاتها.

الشعب إذن هو الخاسر الأوّل من انهيار التجربة الانتقالية وهو الشعب الذي سيعيد بناء وعي جديد بعجز نخبه السياسية وفشلها مما سيجعل من الفشل الكبير اليوم مرحلة ضرورية تؤسَّسُ عليها بقية المسارات القادمة والتي ستكون أوّل شروطها الحسم دون رحمة مع النخب التي كانت وراء عودة الاستبداد.

صحيح أيضا أنّ الثورة التونسية التي أطاحت بالطاغية بن علي كانت في بداياتها حركة قلّة قليلة من الأحرار ثم توّسعت لتكوّن موجة هائلة أجبرت الطاغية على الهرب. أي أنّ الثورة لم تكن فعلا نخبويا أو حزبيا أو سياسيا بل كانت انفجارا لمخزون الغضب الشعبي المتراكم منذ عقود طويلة. لكنه ليس من مسؤولية ولا من وظيفة الشعب صياغة المسار الانتقالي وإنجاح مطالب الثورة بل هي أولا وأساسا مسؤولية النخب السياسية التي تسلمت زمام السلطة.

الشعب إذن هو الخاسر الأوّل من انهيار التجربة الانتقالية وهو الشعب الذي سيعيد بناء وعي جديد بعجز نخبه السياسية وفشلها مما سيجعل من الفشل الكبير اليوم مرحلة ضرورية تؤسَّسُ عليها بقية المسارات القادمة والتي ستكون أوّل شروطها الحسم دون رحمة مع النخب التي كانت وراء عودة الاستبداد.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “عربي21”

#ماذا #حدث #لشعب #تونس

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد