ما سر الخطوات البطيئة لتبني التجارة الإلكترونية في تونس | آمنة جبران
تونس- تختبر جائحة كورونا قدرة الحكومة التونسية على ترسيخ التجارة الإلكترونية كبديل دائم يسهل الخدمات والمعاملات اليومية، دون الاكتفاء بالالتجاء إليها كحل ظرفي وإجباري يفرضه الوباء أمام تواصل التدابير الوقائية وحالة الطوارئ الصحية.
وفيما لاحظ المراقبون انتعاشة للخدمات الإلكترونية أعقاب ظهور الوباء، إلا أن هذا القطاع يعاني تحديات وصعوبات جمة، بسبب تأخر الأفراد والحكومة في تبني التكنولوجيا الرقمية من جهة، ولوجود عوائق قانونية ولوجيستية تحول دون تطور المنظومة الرقمية في البلد من جهة ثانية.
والتجارة الإلكترونية هي عمليات بيع وشراء عبر الإنترنت وتعتمد على مجموعة من الأساليب، منها ترك رقم للاتصال بالبائع أو المشتري مع ترك المعلومات الخاصة. أو تتم المعاملة بشكل كامل عبر الإنترنت من خلال إدخال الزبون بياناته المصرفية بالسعر المقابل للشيء الذي سيشتريه، سواء كان بضاعة؛ ملابس وأجهزة إلكترونية وغيرها أو خدمة، تذاكر السفر وفواتير الماء والكهرباء مثلا وتحويل الأموال، أو لتعبئة خدمة الهاتف واستئجار سيارة وغيرها من الخدمات اليومية.
وظهرت هذه الخدمة مع مطلع الألفية الثانية وازدهرت في العقد الثاني منها، وأصبحت تستحوذ على قدر كبير من المعاملات المصرفية والتجارية إلى حد أصبحت معه تهدد المحال التجارية التقليدية، لكن الوباء سرع من وتيرة الخدمات التجارية الإلكترونية بعد أن أجبر دول العالم على واقع جديد تدور جل أنشطته في العالم الرقمي والافتراضي.
انتعاشة في زمن كورونا
خباب الحذري: الجائحة ساهمت إيجابيا في تطور التجارة الإلكترونية في تونس
بعد انتشار الفايروس، بدأ الإقبال على طلب المشتريات عبر الإنترنت يتزايد بشكل لافت في تونس حسب أرقام محلية، حيث زادت مبيعات التجارة الإلكترونية أمام توقعات بتحقيقها أرباحا مضاعفة في العام المقبل.
وعلى رغم تداعيات الوباء الوخيمة الاقتصاد، إلا أنه حسب خبراء الاقتصاد فإن الانتعاشة التي حققتها التجارة الإلكترونية بمثابة نقطة مضيئة. واستعانت حكومة إلياس الفخفاخ آنذاك في بداية الأزمة الصحية بالحلول الرقمية والتقليص من التداول النقدي.
وقدم خبّاب الحذري مدير تنمية التجارة الإلكترونية والاقتصاد اللامادي في وزارة التجارة لـ”العرب” أبرز الأرقام الحكومية المتعلقة بالمعاملات الرقمية في تونس قبل ظهور الوباء وبعده. وأشار الحذري إلى أن “جائحة كورونا قد ساهمت، على غرار جميع دول العالم، بصفة إيجابية في تطوّر وتنامي التجارة الإلكترونية في تونس”.
وأوضح أن “التدابير الوقائية لمجابهة الوباء (الحجر الصحي الشامل) قد أدّت إلى تنامي عديد العروض التجارية على الخط هو ما يفيد وعي أغلب المؤسسات الاقتصادية بأهمية العالم الافتراضي كقناة بديلة أو مكملة للنشاط التقليدي لاستقطاب المزيد من الحرفاء وترويج المنتجات والخدمات على مواقع الواب والمنصات التجارية الافتراضية”.
وحسب رأيه يجب تحفيز المؤسسات في اعتماد استراتيجية تسويقية رقمية في المجال.
ومنذ بروز الوباء انكبّت الحكومة الحالية والتي سبقتها إلى مواصلة عديد البرامج الخاصّة بالرقمنة ولعلّ من أهمها برنامج الإدارة الإلكترونية الذي يهدف إلى رقمنة المرفق العام وتوفيره لخدمات عن بعد سواء لفائدة المواطن أو المؤسسة.
وحسب مؤشرات المعاملات التجارية الإلكترونية خلال النصف الأول من السنة الجارية، فقد بلغ عدد مواقع الواب التجارية 2066 موقع واب تجاريا وخدماتيا منخرطة في منظومتي الدفع الإلكتروني مسجلا زيادة بنسبة 11 في المئة مقارنة بنفس الفترة من سنة 2019.
تبعا لذلك، تمّ تسجيل تطّور بنسبة 54 في المئة من حيث العدد و31 في المئة من حيث القيمة مقارنة بنفس الفترة من سنة 2019، ما يعكس الإقبال المتزايد على مواقع التجارة الإلكترونية والخدمات الإدارية على الخط مثل استخلاص فواتير استهلاك الماء وكهرباء والغاز وخدمات الاتصال والإنترانت.
رضا شكندالي: كورونا أجبر الحكومة على الاستعانة بالرقمنة
وبمقارنة عدد وقيمة معاملات الدفع الإلكترونية المسجّلة خلال الثلاثي الثاني من سنة 2020 (خلال فترة الحجر الصحي العام والموجّه) ومقارنتها بالثلاثي الأول فقد تمّ تسجيل نسبة تطوّر بـ34 في المئة من حيث العدد و9 في المئة من حيث القيمة.
ويعزى تطوّر عدد المعاملات خلال هذه الفترة أساسا إلى تنامي النفاذ إلى الخدمات الإدارية على الخط (خلاص فواتير الكهرباء والغاز) وبالخصوص خدمات الاتصالات والتي تكون قيمتها غير مرتفعة.
كما لاحظت وزارة التجارة تطوّرا هاما في تنوّع العروض التجارية خاصّة عبر صفحات التواصل خلال فترة الحجر الصحي، والتي تعتمد على طريقة الدفع عند التسليم من خلال مزودي خدمات اللوجستية وهو ما يفسّر أن قيمة مبادلات الدفع الإلكتروني عبر منظومتي الدفع لم تتطوّر إلا بنسبة 9 في المئة خلال فترة الحجر الصحي.
كما تنامى خلال هذه الفترة عدد المؤسسات المختصّة في اللوجيستية وإرسال الطرود، وتعتمد أغلب هذه الشركات طريقة الدفع عند التسليم حيث يتمّ الخلاص نقدا عبر مزودي خدمات اللوجيستية، ويعكس ذلك عدم الثقة في آلية الدفع الإلكتروني.
وحسب مدير تنمية التجارة الإلكترونية، يستوجب ذلك “إيجاد الآليات المناسبة لتنظيم هذا النشاط من طرف الهياكل المشرفة على قطاع النقل واللوجيستيك في تونس حتى يتسنى مزيد حصر عدد وقيمة المعاملات التي تتمّ عبرها”.
خطوة متأخرة
مع ذلك تبقى خطوات تونس متأخرة في هذا مجال، نظرا لغياب استراتيجية حكومية واضحة للتسريع في طريق الرقمنة والضغوط الاقتصادية التي تكبل الحكومة، كما أن شريحة هامة من المواطنين ما زالت لم تبد ثقة كبيرة في التسوق الإلكتروني وما زالت لديها شكوك قوية في صدقية ونجاعة المعاملات الرقمية.
وعلى الرغم من الأرقام الإيجابية التي سجلتها الحكومة في مجال الرقمنة، إلا أن البلاد ما زالت في صفوف الدول المتأخرة في هذا المجال.
الصادق جبنون: يجب تخفيض كلفة الدفع الإلكتروني حتى تكون متاحة للجميع
ويلاحظ خبراء الاقتصاد أن الالتجاء إلى المعاملات الرقمية فرضته ظروف الأزمة الصحية وما نجم عنها من تشديد قيود على التنقل والحركة الاقتصادية المعتادة.
ويشير رضا الشكندالي، أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية لـ”العرب” إلى أن “كورونا أجبرت الحكومة على الاستعانة بالرقمنة”.
وكانت الحكومة قد أعلنت حزمة مساعدات مالية بقيمة 850 مليون دولار تشمل الطبقات الفقيرة والشركات المتضررة جراء الوباء. ويتطلب ذلك صياغة قاعدة بيانات لإيصال المساعدات للعائلات المعوزة والمهمشة. ويرى الشكندالي أن الرقمنة ساهمت في تسهيل توزيع المساعدات الاجتماعية”.
وعلى الرغم أن الحكومة قطعت أشواطا هامة في هذا المضمار، لكن لم يقع مواصلة هذا المشروع بسبب أزمة الحكومة آنذاك (حكومة إلياس الفخفاخ) وتغييرها بحكومة أخرى، حسب ما لاحظه الشكندالي.
ولاحظ الشكندالي أن “الحكومة ارتأت مع عودة النشاط الاقتصادي إلى أنه ليس ضروريا اللجوء إلى الرقمنة ومن الممكن التنقل بشكل مباشر لإيصال المساعدات”.
ويعتقد أن الالتجاء إلى الرقمنة لم يكن اختياريا بل اضطرارا لإيصال المساعدات. ويستنج أن تعثر تطوير هذا المجال ناجم عن غياب رؤية حكومة واضحة. وتابع “الحكومة التي تشتغل تحت الاضطرار ليست لها رؤية وليس لها مشروع”.
وتساهم التجارة الإلكترونية في تحريك عجلة الاقتصاد واستيعاب جزء من الشباب العاطل عن العمل، لكنها ما زالت تعاني من نقائص بسبب محدودية الإمكانيات والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي ازدادت سوءا مع الوباء.
وفيما يقر الخبير الاقتصادي صادق جبنون في حديثه لـ”العرب” بارتفاع ملحوظ لوسائل الدفع الإلكترونية لكنها “تبقى محدودة نظرا لعدم وجود تكنولوجيات متطورة في البلد”.
ويشير إلى أن الدفع عبر الهاتف والمحفظة الإلكترونية أو ما يخص “الدينار الإلكتروني” ما زالت مسائل معقدة. ويلفت إلى “أنه لا يوجد الدفع عن بعد إلا لبعض البنوك وبتكلفة مرتفعة بالنسبة للمواطن العادي”.
وتتطلب التجارة الإلكترونية ادخارا لدى الزبائن واشتراكات بنكية لديهم، وهذا ما لا يتوفر لدى شريحة واسعة من المواطنين التونسيين الذين بالكاد يجدون ما يسدون به قوت يومهم.
كما أن هذا النوع من التجارة يتطلب بنية تحتية قوية تتمثل في انتشار وسائل الاتصال (شبكة هواتف وإنترنت) ووسائل لإيصال البضاعة للزبون حيث يسكن أو يعمل (سيارات وشاحنات توصيل) وأنظمة تعامل بنكي إلكترونية محصنة ضد القراصنة، إضافة إلى جهاز للرقابة قادر على توفر معايير الجودة في المنتوجات المعروضة للبيع إلكترونيا وتطابقها مع ما يتسلمه الزبون ووجود ما يضمن حقه كمستهلك إذا ثبت أن ما بيع له ليس مطابقا لما كان ينتظره.
43 في المئة نسبة تطور معاملات الدفع الإلكترونية في تونس خلال النصف الأول من العام الجاري
ويرى جبنون أن تونس ما زالت متأخرة في المجال الرقمي مقارنة بالدول الأفريقية، وباتت أغلب دول أفريقيا تعتمد على وسائل الدفع الإلكترونية.
ومع ذلك يرصد بعض المحاولات من قبل مشغلي الهاتف لإحداث مؤسسة مشتركة للدفع الإلكتروني، غير أن “هذه المحاولات لم تر النور بعد بسبب القوانين المعرقلة والنظم الإدارية التي تعطل التوجه الإلكتروني في الظرف الحالي، حسب تقديره”.
ويؤكد أن المعاملات الرقمية دون المستوى المطلوب نظرا لوجود عراقيل لوجيستية وقانونية تحول دون تطورها. ولمواجهة هذه الصعوبات، يقترح جبنون تعديل القوانين والنظم وتخفيض كلفة وسائل الدفع الإلكتروني حتى تكون متاحة للمواطن العادي من ذوي الدخل المحدود، والسماح أيضا لمشغلي الهاتف بأن يقوموا بهذا الدور المالي بكلفة أقل.
وسبق أن كشفت بيانات نشرها صندوق النقد الدولي في تقرير بعنوان “الحلول الرقمية لمؤسسات الأعمال الصغيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” أن “تونس ما زالت مؤسسات الأعمال متأخرة فيها عن الأفراد والحكومة في تبني التكنولوجيا الرقمية”.
وبين التقرير أنه “في الوقت الذي تسيطر فيه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على مشهد العمل التجاري في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. حيث تمثل هذه المؤسسات أكثر من 90 في المئة من مجموع المؤسسات في المنطقة، وتساهم في بعض البلدان بنسبة تصل إلى 50 في المئة من توفير مواطن شغل و70 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. إلا أن هذا الصنف من المؤسسات يواجه معوقات أمام نموه”. وحسب تقرير صندوق النقد تتمثل أبرز العوائق في صعوبة الحصول على القروض، وبيئة الأعمال غير المواتية، وفجوات المهارات.
الالتجاء إلى المعاملات الرقمية فرضته ظروف الأزمة الصحية وما نجم عنها من تشديد قيود على التنقل والحركة الاقتصادية المعتادة
وعلى الرغم من الصعوبات والعراقيل، يؤكد خباب الحذري، مدير التنمية التجارة الإلكترونية، أن الوزارة تعمل على إنجاز جملة من المشاريع والبرامج التي تهدف إلى نشر ثقافة التجارة الإلكترونية لدى المؤسسات الاقتصادية، ومتابعة تطوّر التجارة الإلكترونية من خلال جمع إحصائيات الدفع الإلكتروني، وتنظيم نشاط التجارة الإلكترونية في تونس. لافتا إلى أن “ضعف انخراط المؤسسات التجارية في منظومة التجارة الإلكترونية، من أبرز العوائق التي تحول دون تطور المعاملات الرقمية في البلد”.
وكانت تونس قد قطعت شوطا مهما في مجال التجارة الإلكترونية حيث أنها احتلّت المرتبة 70 على المستوى العالمي من بين 152 دولة ضمن تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية لسنة 2019 الخاص بمؤشر التجارة الإلكترونية بين المؤسسة والمستهلك. والمتعلّق بتقييم استعداد البلدان لاعتماد التجارة الإلكترونية، وهي المرتبة الأولى مغاربيا، والثانية أفريقيا بعد جزر الموريس.