مخبر علمي بتونس عن “الظاهرة الدينية” في الإسلام والديانات الأخرى – عربي21
الحوارات انطلقت في ندوة كبرى افتتحها الأستاذ المنصف التائب عميد كلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة غربي العاصمة تونس تحت عنوان: “الخطاب الديني أشكاله ووظائفه” وشارك فيها باحثون وخبراء من كل جامعات البلاد ومراكز الدراسات الاجتماعية والسياسية من اختصاصات مختلفة، بينهم المفكر احميدة النيفر رئيس قسم الدراسات الإسلامية في المجمع التونسي للعلوم والآدب والفنون بقرطاج “بيت الحكمة”، والأكاديمي محمد بن الطيب رئيس هذا “المخبر العلمي الجامعي” والذي يشرف منذ سنوات على ندوات وأبحاث وطنية كبرى حول “الظاهرة الدينية” في تونس وفي المنطقة بأبعادها الفكرية والسياسية والاجتماعية..
وقد أوضح الأستاذ محمد بن الطيب رئيس هذا المخبر العلمي لـ “عربي21” أن وثيقة هذا المشروع العملاق نصت بوضوح أن كل الأبحاث المقدمة تشترط تقديم “دراسات علمية بعيدا عن النزعات الإيمانية والخلفيات الاعتقادية والتوجهات الإيديولوجية” للباحثين، بغاية فهم الظاهرة الدينية المعاصرة وفسيفساء خطابها الثقافي والسياسي الاجتماعي الجديد “واستجلاء خصائصها ومقوماتها واستكشاف أبعادها وغاياتها وتحديد أشكالها ووظائفها والوقوف على مرجعياتها وعلاقاتها وآليات اشتغالها “.
4 محاور
لذلك وقع تقسيم أشغال الندوة التي استمرت يومين كاملين إلى أربعة جلسات علمية تناولت أربعة محاور:
أولها ـ في مفهوم الخطاب الديني ومناهجه وعلاقته بالخطابات الأخرى
وثانيها ـ في الخطاب الديني والسياسة والمجتمع
وثالثها ـ في أشكال الخطاب الديني المعاصر وقضاياه
ورابعها ـ قراءات في الخطاب الديني
وقد نوه رئيس قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة “بيت الحكمة” بقرطاج احميدة النيفر بالمستوى العلمي وضوح المنهجية في أغلب الورقات المقدمة من قبل عشرات المشاركين والمشاركات في هذا “المحفل العلمي”، بمن فيهم نخبة من كبار الباحثين في جامعة الزيتونة وكليات الآداب والعلوم الإنسانية والحقوق والاقتصاد مراكز البحث الجامعي المستقلة مثل محمد الحاج سالم والحبيب النهدي والحسني الغابري و بثينة الجلاصي وصادق السلامي ورفيعة عطية..
وتوقع الأستاذ كمال الساكري مؤلف دراسة “الظاهرة السلفية في الوطن العربي” في تصريح لـ “عربي21” أن تمهد هذه الندوة الكبرى في تحقيق الأهداف الطموحة التي رسمها المشرفون عليها وعلى المشوار البحثي لـ “مخبر الظاهرة الدينية” ومن بينها نشر كتب معمقة تتضمن دراسات محكمة (بضم الميم وفتح الكاف) تساعد المعنيين بها من جامعيين ومثقفين وسياسيين وصناع رأي عام .
العيش المشترك.. وعقلنة الوعي الجمعي
في نفس السياق أورد رئيس هذه السلسلة من الورشات العلمية محمد بن الطيب في تصريح لـ “عربي21” أنه وفريق الباحثين يهدفون إلى التوصل إلى تحقيق نتائج عديدة من بينها “الدراسة العميقة للجماعات الدينية باعتبارها ظواهر اجتماعية حية ومزيد فهمها فهما علميا واستجلاء العلاقات بين الإسلام والأديان الأخرى.”
ومن بين الأهداف الأخرى لهذا المشروع العلمي الثقافي السياسي الطموح حسب وثيقته التأسيسية التي صاغها فريق لجانه العلمية والتنظيمية: “عقلنة الوعي الجمعي وتكريس مبدأ العيش المشترك وتفكيك ثقافة التنافي وتجاوزها و نشر روح النقد الذاتي.”
محمد بن الطيب.. جامعي تونسي
كما أكدت كلمات المشاركين فتحي القاسمي ومحمد الحاج سالم وبثينة الجلاصي وناجي الحجلاوي وسامي ابراهم على أن من بين أهداف مشروعهم “تجنب الأحكام المسبقة في تقويم الظاهرة الدينية والاحتكام في فهمها إلى البرهنة العلمية بعيدا عن كل تأويل مذهبي أو إيديولوجي.”
أديان العالم.. والإسلام
ولعل أحد أبرز نقاط القوة في هذه الندوة وفي المشروع البحثي الكبير إعدادها دراسات مقارنة بين الفكر الإسلامي المعاصر وأديان العالم الحديث من جهة وبين الظواهر الدينية المعاصرة في المجتمعات الإسلامية ونظيرتها دوليا .
في هذا السياق قدمت الأستاذة نجا قرفال الباحثة في جامعة قابس جنوبي تونس ورقة علمية مهمة عن “الخطاب الديني عند الفيلسوف الأمريكي هوستن سميث” صاحب كتاب “أديان العالم”، الذي وقع بيع أكثر من 3 ملايين نسخة منه .
وخصص الباحث في علم الاجتماع في مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية سامي ابراهم مداخلته لـ “بيان المجمع الفاتيكاني الثاني حول الأديان عموما والإسلام خاصة” وانعكاساته على تشجيع الحوار بين الأديان والثقافات والشعوب التي لديها عقائد مختلفة .
وعني الأكاديمي في جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية سمير الزغبي بـ “فكر المقاومة في الخطاب الديني لدى المطران جورج كابوتشي”.
ونفذت بعض المداخلات إلى إشكاليات السياسة والدين ومسارات الإصلاح الفكري في علاقة بالمرجعيات الثقافية والدينية .
في هذا السياق أيضا جاءت مداخلة الباحث في مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية ـ سيريس ـ كمال الصيد عن ” المسألة الاجتماعية في الخطاب الديني بين البابا ليون الثالث عشر والشيخ الطاهر بن عاشور”.
واعتبر كمال الصيد في تصريح لـ “عربي21” أنه اهتم بمسيرة هذا البابا لأن من بين نقاط قوته أنه قدم منذ القرن الـ 19 مراجعات فكرية مهدت لتأسيس “أحزاب ديمقراطية مسيحية” ولتوظيف المرجعيات الدينية في الدفاع عن المطالب الاجتماعية للشعوب .
واعتبر كمال الصيد في ورقته العلمية في الندوة أن مؤلفات الشيخ الطاهر بن عاشور وعدد من معاصريه في جامعة الزيتونة والحركة الوطنية الثقافية والسياسية مثل الشيخ الطاهر الحداد أنها عنيت كذلك بالأبعاد الاجتماعية والسياسية للفكر الديني ومقاصد التشريع الإسلامي. لكن الصيد استطرد واستنتج خلال مداخلته أن “تأسيس أحزاب إسلامية ديمقراطية على غرار الأحزاب المسيحية الديمقراطية تأخر في العالم الإسلامي إلى مرحلة ما بعد الاستقلال وبناء” الدولة الحديثة”، على غرار ما حصل في تونس عام 1981 عند تأسيس “حزب حركة الاتجاه الإسلامي”، الذي تطور لاحقا إلى حزب النهضة .
عياض بن عاشور والشيرازي
ومن بين إضافات هذا المشروع البحثي العلمي الطموح تقديم بعض المحاضرين ورقات تميزت بجرأتها مثل تلك التي قدمها الباحث غفران الحسايني عن “نقد الخطاب الديني” للفيلسوف والمفكر الإيراني في القرن الـ 16 نصر الدين الشيرازي، ومؤلفه “رؤوس الشيطان في علاقة الفقيه بالسلطان”.
وبرز الجرأة أيضا في ورقة الأكاديمي أبوبكر المباركي عن مؤلفات العلامة عياض بن عاشور نجل الشيخ والمصلح الوطني الفاضل بن عاشور وحفيد العلامة الطاهر بن عاشور .
ولئن وجه كثير من النشطاء السياسيين والجامعيين التقليديين عياض بن عاشور “علمانيا” و”حداثيا فرنكفونيا قطع مع الفكر الإسلامي”، فإن المباركي حاول أن يبرهن عن العكس، من خلال قراءة مقارنة لأدبياته و مقارنتها بمرجعيات جده المصلح الطاهر بن عاشور وآخرين .
واعتبر أبو بكر المباركي في تصريح لـ “عربي21” أن الكتب الفكرية لعياض بن عاشور تميزت بجرأة كبيرة في تناول المواضيع الفكرية”.
واعتبر المباركي أن من بين إضافات بن عاشور الجمع بين اختصاصات القانون والتشريع والعمق الفلسفي والدراية بفلسفة الاخلاق ونظريات القيم وفسلفة الدين، بين فسلفة كانط والمرجعيات الفقهية والتشريع الإسلامي، فتجح حيث فشل غيره في تفكيك بين اللغز بين الذنب دينيا والجريمة قانونيا. كما فشلت منظومة الفقه التقليدية في صنع فكر حديث وفلسفة جديدة للفقه. فبقي يالفقه تقليدا مهشما وممارسة فيها اجترار .
في المقابل نجح عياض بن عاشور في أن يستوعب التراث برؤية جديدة، لكن عديد مؤلفاته لم تدرس، وآراؤه على جدتها تمر دون ان تجد من يناقشها بعمق من قبل علماء العلوم الإسلامية وفقهاء القانون والقانون الدستور، بالرغم من كونه طرح “ثورة فكرية سياسية” عند إشرافه عام 2011 على الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة .
الظاهرة الدينية عربيا وعالميا
ونوه عدد من المشاركين في هذه الندوة وفي كامل المشروع البحثي الذي دشنته بمثل هذه الإضافات وبتخصيص اليوم الأخير من الملتقى لتقديم قراءات في الخطاب الديني المعاصر في تونس وعربيا وإسلاميا وعالميا .
وقدمت بالمناسبة مداخلتان طريفتان عن “خصائص الخطاب الديني عند احميدة النيفر” في مرحلة 1978 ـ 1990، من خلال شهادة قدمها النيفر وورقة علمية أعدها الاكاديمي ناجي الحجلاوي بعد قراءة لمجموعة من أشرطة صوتية تضمنت تسجيلات لخطب النيفر في جامع أي محمد بجهة باب سويقة في العاصمة التونسية .
احميدة النيفر ومحمد الطاهر ماجول وإقبال العبيدي في ندوة الخطاب الديني
واعتبر النيفر في تصريح لـ “عربي21” أن من بين “عناصر التجديد” في ذلك الخطاب الديني الذي انتشر بين شباب الظاهرة الدينية في السبعينات والثماتينات مع خطباء بارزين كان من بينهم مع عبد الفتاح مورو وراشد الغنوشي وحسن الغضبان وصلاح الدين الجورشي، استبدال خطب “التخويف باسم الدين” و”الوعد والوعيد” بخطاب سعى إلى تقديم الإسلام في صورة دين جاءت مقاصد تشريعه لخدمة مصالح الناس وتحسين ظروف حياتهم وأحوالهم .
ملف استراتيجي له أبعاد دولية
إجمالا أكدت هذه الندوة العلمية وورقات المشاركين في هذا المخبر الجامعي عن الظاهرة الدينية كـ “ملف استراتيجي له أبعاد دولية” ما ورد في مداخلة رئيس فريقه الأكاديمي محمد بن الطيب الذي أورد أن “للخطاب الديني سلطة مضاعفة يستمدّها من سلطة المقدّس ومرجعيّة الدين، ولذلك كان محلّ تجاذب، لأنه مانح سلطة، وواهب مشروعية، تتنازعهما الفواعل الاجتماعية، على اختلاف مشاربهم وخلفيّاتهم، ومواقعهم وغاياتهم. ولذلك اتّخذ الخطاب الدّينيّ أشكالا متنوّعة وتعبيرات مختلفة.”
وأكد محمد بن الطيب أن السّنوات الماضية أكدت “تصدّر المسألة الدّينيّة مواضيع الجدل الفكريّ وقضايا الصّراع السّياسيّ.” وفي خضمّ هذا الصّراع وذاك الجدل، لا يستأثر الخطاب الديني بالاهتمام من المشتغلين بالشأن الديني والمعنيين به من التيارات ذات المرجعية الدينية فحسب، بل من سائر التيارات الفكرية والسياسية التي تسعى إلى الحدّ من المجالات التي يختص بها ومن السلطات التي يحاول احتكارها.”
إذن فإن الخطاب على وجه العموم والخطاب الديني بأبعاده الثقافية السياسية الاجتماعية على وجه الخصوص “مصدر من مصادر السلطة”. لذلك فإن كل سلطة سياسية أو ثقافية أو مجتمعية أو دينية تسعى إلى فرض رؤاها وتصوّراتها على المجتمع من خلال إنتاج خطاب يستجمع لها شروط السيادة عليه مع توظيف مرجعيات عديدة بعضها فلسفي وبعضها الاخر ثقافي مجتمعي سياسي أو ديني .
ولعل من أبرز رسائل ندوة “الخطاب الديني” الكشف عن تعدد مرجعيات صناع القرار السياسي والاجتماعي داخل مؤسسات الحكم والمعارضة والمجتمع المدني والمؤسسات العلمية والتعليمي: كل طرف يريد تأسيس مشروعية، ونيل سيادة. فتتعدّد الخطابات، وتتنوّع وظائفها، وتتلوّن طرائق تشكّلها، وتتباين خططها واستراتيجياتها لتحقيق أهدافها، فتوظّف ما في الخطاب من إمكانات الإقناع بيانا وبرهانا وحجاجا، أو تمويها وتلبيسا ومغالطة ومخاتلة (…) من أجل تشكيل الوعي الجمعي وكسب المشروعية والتحكم في قوانين اللعبة مؤسسات صنع القرار.
#مخبر #علمي #بتونس #عن #الظاهرة #الدينية #في #الإسلام #والديانات #الأخرى #عربي21
تابعوا Tunisactus على Google News