مدينة جنزور الليبية القطب السياحي المكبل بتدهور الوضع الأمني
تونس ـ «القدس العربي»: تقع جنزور غرب ليبيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط غير بعيد عن العاصمة الليبية طرابلس، حيث يعتبرها البعض بوابة العاصمة الغربية وخاصة هي التي تفصل بين طرابلس وبين مدينة الزاوية. ويذهب البعض حتى إلى اعتبار جنزور ضاحية من ضواحي طرابلس وذلك مع التمدد العمراني الذي شهدته العاصمة الليبية خلال السنوات الماضية ما جعل المسافة تضيق بينها وبين جنزور.وتؤكد أغلب المصادر على أن كلمة جنزور جذورها أمازيغية خاصة وأن أول تجمع سكاني في تلك المنطقة شكله الأمازيغ من بني مجريس وبني تاسة. كما تقطن جنزور قبائل غريان ومسلاتة ومصراتة وترهونة وورفلة وكذلك بعض من العائلات من نفوسة وزناتة وغيرهم. كما يصر البعض على أن تسمية جنزور جذورها لاتينية رومانية وتعني الرقيب، وكانت تسمى أزاريا بحسب تأكيدات رحالة ومؤرخين غربيين، أكدوا أيضا على أن هذه المدينة الليبية الساحلية الجميلة كانت شديدة الأهمية في العهد الروماني.
ملتقى الحضارات
اختلط الفينيقيون القادمون من سواحل بلاد الشام في هجرات استمرت على مدة قرون، والذين أسسوا مرافئهم التجارية على طول سواحل أفريقيا الشمالية وكانوا سببا في بروز جمهورية قرطاج في شمال أفريقيا، بالقبائل الأمازيغية المتواجدة بجنزور وعموم الأراضي الليبية. ثم جاء العرب الذين قدموا إلى شمال أفريقيا خلال مرحلتي الفتح الإسلامي والغزو الهلالي واستقروا بدورهم في تلك الربوع واختلطوا مع السكان الأصليين وأثروا كثيرا فيهم من حيث العادات والتقاليد واللغة والثقافة والدين.وخضعت مدينة جنزور ومحيطها لدول عديدة على غرار قرطاج وروما التي ورثتها في الحوض المتوسطي، والبيزنطيين في القسطنطينية والأمويين في دمشق والعباسيين في بغداد والأغالبة في القيروان والفاطميين في المهدية والقيروان والقاهرة، وكذلك العثمانيين في اسطنبول والذين دعموا حكم العائلة القرمنلية التي ازدهرت في عهدها مدينة جنزور. فقد تحولت المدينة إلى ثكنة عسكرية كبرى تتجمع فيها الجيوش الليبية العثمانية من أجل خوض الحروب طويلة الأمد لهذه العائلة سواء تحت راية العثمانيين أو بصورة مستقلة. ومما يروى أن علي باشا القرمنلي قد عين أصغر أبنائه حاكما على جنزور رغبة في ضمان خضوعها لسلطته وهو ما يفسر أهميتها في ذلك الوقت وأهمية طرابلس والغرب الليبي عموما بالنسبة إلى العثمانيين الذين فصلوا نهائيا بينه وبين تونس.
كلمة جنزور جذورها أمازيغية
لقد كانت جنزور في العهد العثماني تسمى إداريا قضاء، وكان هذا القضاء يتبع سنجق مدينة طرابلس التابعة لإيالة طرابلس بحسب التقسيم الإداري للعثمانيين. وكانت مدينة طرابلس تحد قضاء جنزور من الشرق، فيما يحده من الغرب قضاء الزاوية، ومن الشمال البحر، ومن الجنوب غريان. وفي أواسط القرن التاسع عشر تم تقسيم قضاء جنزور إلى ناحية جنزور وناحية العزيزية وكانتا تتبعان قضاء طرابلس الغرب وذلك قبل أن تصبح العزيزية قضاء مستقلا مع بداية القرن العشرين.ويشار إلى أن جنزور سقطت بأيدي الإيطاليين بعد العاصمة طرابلس التي انطلقوا منها لإخضاع المدينة العصية التي رفضت الخضوع للغزاة. فدارت معارك عديدة في هذا الإطار منها معركة غوط السلوقي ومعركة سيدي عبد الجليل ومعركة سيدي بلال، وجمعيها حصلت في النصف الثاني من سنة 1912 وعجز خلالها الغزاة الإيطاليون عن السيطرة على المدينة بالكامل.ورغم ارتكاب الإيطاليين مجازر فظيعة في جنزور بحق المدنيين العزل من النساء والأطفال وكبار السن سنة 1917 انتقاما من صمود المدينة وبقائها عصية طيلة سنوات، إلا أنهم لم يتمكنوا من احتلالها بفعل صلابة المقاومة على الأرض وشدة بأسها. وقد برز في هذه المعارك الطاحنة أبطال كثر على غرار المناضل عمر المنصوري الذي لولا الخيانات من الداخل لتمكن من المحافظة على مدينة جنزور خالية من الغزاة الإيطاليين.ولم تسقط جنزور إلا سنة 1922 أي بعد عشر سنوات بالتمام والكمال من المحاولات الإيطالية للسيطرة عليها وتركيع أهلها الذين اضطر عدد كبير منهم إلى الهجرة إلى تونس خشية من تعرضهم لعمليات انتقام من الجيش الإيطالي الغازي بعد احتلاله للمدينة. ولم تتخلص جنزور من الاحتلال إلا بدحر الإيطاليين من قبل الجيش البريطاني الذي سيطر على المدينة خلال الحرب العالمية الثانية والتي انتهت بهزيمة بلدان المحور وخسارتهم لمستعمراتهم لصالح القوى المنتصرة.
معالم عديدة
تتميز جنزور بمفارقة عجيبة، فهي من جهة مدينة السياحة والترفيه والمنتجعات، ومعقل الدين والتدين والعلماء من جهة أخرى، كما أنها أيضا مدينة المساجد المهدمة على غرار مسجد عمرو بن عاص الذي يعد من أقدم المساجد في شمال أفريقيا والذي أمر ببنائه الصحابي عمرو بن العاص عند فتحه لطرابلس سنة 22 للهجرة. وقد أعيد بناء هذا المسجد في زمن الدولة الحفصية في القرن الثالث عشر للميلاد حين كان الغرب الليبي يشكل وحدة مع تونس، وتم هدمه في 30 أيلول/سبتمبر 2013 بسبب الحرب التي تلت انهيار نظام القذافي وخسرت المدينة أحد أهم معالمها وعنوانا رئيسيا من عناوين هويتها.
مساجدها هدمت مثل مسجد عمرو بن عاص من أقدم المساجد في شمال أفريقيا
ومن المساجد المهدمة في جنزور أيضا، جامع الخُطبة الذي بني في سنة 1055 هـ والذي تم هدمه في سنة 1964 وجامع المزائل الذي هدم في سنة 1980 وغيره. كما هدمت في جنزور معالم هامة على غرار القصر التركي وهو ما يبعث على التساؤل عن أسباب تخلي هذه المدينة عن ذاكرتها بطريقة غريبة ولا تخضع إلى المنطق. فإن كان مسجد عمرو بن العاص هدم في زمن الحرب الأهلية فماذا عن باقي المساجد والمعالم التي هدمت في أزمنة كان فيها الأمن مستتبا والسلطة المركزية قوية؟وتعتبر جنزور على غرار أغلب مدن ليبيا والبلاد المغاربية مدينة التصوف والمتصوفة وتضم زوايا قديمة يتم فيها تحفيظ القرآن وتدريس العلوم الشرعية وخصوصا المذهب المالكي السني الذي انتشر في البلاد المغاربية من مدينة القيروان التونسية انتشار النار في الهشيم، ومن هذه الزوايا زاوية عمورة المنسوبة إلى عمورة بن محمد فلمنك المملوك العثماني ذو الأصول الهولندية، وزاوية بن حسين وتعرف باسم زاوية العريفي وغيرها. وقد تتلمذ في هذه الزوايا المنسوبة للمتصوفة بعض علماء طرابلس وجنزور بعد أن ذاع صيتها في وقت ما وباتت قبلة لسكان الغرب الليبي من الباحثين عن الصفاء الروحي.ومن معالم جنزور الهامة أيضا متحفها الوطني الذي يضم آثارا قرطاجية بونية باعتبار تواجد المدينة في دائرة نفوذ القرطاجيين منذ القرن السابع قبل الميلاد، وتوجد فيها أيضا آثار رومانية وهي عبارة عن قبور وجرار وأوان ولوحات. كما توجد بهذا المتحف الذي يعتبر علامة مضيئة لحفظ الذاكرة في ليبيا ومن الاستثناءات في بلد عمر المختار الذي يهمل آثاره ولا يوليها العناية التي تستحق، رسومات إغريقية تتحدث عن مواضيع عديدة، منها مثلا ما يخلد أعمال هيريكليس التي كلفه بها ملك ميسينا وغيرها من المواضيع.
اقتصاد متنوع
يعتبر النشاط الزراعي الأساسي والأصلي في جنزور وذلك بسبب المناخ المتوسطي المعتدل المشجع على امتهان هذا النشاط وأيضا بسبب أهمية التساقطات على مدار العام. وتوجد في جنزور واحات نخيل باسق وغابات زيتون تنتج ألذ التمور وأجود أنواع زيت الزيتون. بالإضافة إلى أشجار مثمرة أخرى على غرار البرتقال واللوز والرمان والتفاح والتين، والتي عرفت بها منطقة شمال أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط.
تعتبر مدينة التصوف والمتصوفة وتضم زوايا قديمة
ويصف عبد الله التجاني 670-675 هـ (1272-1277 م) في أحد آثاره أشجار جنزور المثمرة وتطور النشاط الفلاحي فيها، وهو الذي زار أغلب مدن شمال أفريقيا في رحلته الشهيرة، قائلا: “ثم أصبحنا يوم الاربعاء الثامن والعشرين من هذا الشهر وهو شهر ربيع الأول فحللنا بمنزل جنزور، فرأيت غابة متسعة الأقطار ملتفة الأشجار وبها مياه عذبة وأكثر شجرها الزيتون وأكثره من الغرس القديم على نحو زيتون الساحل (يقصد منطقة الساحل التونسي المشهورة عالميا بغابات زياتينها ووفرة إنتاجها) وليس يعظم شجره في موضع من المواضع ما يعظم في هذه القرية، وبها مع ذلك نخل كثير ورطبه متناهي الطيب، وبها أيضا من شجر التفاح والرمان والعنب والتين كثير”.كما يتعاطى سكان جنزور النشاط السياحي وهو أمر نادر في ليبيا التي لا تولي اهتماما لهذا القطاع ويعتبر الاهتمام به في مدينة ما استثناء لم يعتده الليبيون. وتضم المدينة قرى سياحية ومنتجعات راقية يؤمها الليبيون للراحة والاستجمام صيفا لكنها لا تستقطب سياحا أجانب باعتبار أنه لم يقع الترويج لها كما يجب. ومن بين القرى السياحية الشهيرة في المدينة، قرية جنزور السياحية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وقرية أويا التي تأسست سنة 2008 وقرية المغرب العربي، وقرية الريقطا، وقرية النخيل أو بالم سيتي وغيرها والتي تشبه كثيرا في معمار فنادقها نظيرتها التونسية في عديد المدن السياحية الهامة.
جنزور اليوم
خلافا لأغلب المدن الليبية تتوفر في جنزور أماكن الترفيه والراحة مثل النوادي الرياضية التي يتعاطى مرتادوها أنشطة رياضية عديدة. ومن بين الأندية الشهيرة فيها نادي اليرموك الذي يضم اختصاصات رياضية متعددة، وكذلك نادي العاديات المتخصص في الفروسية التي تعتبر من تقاليد المدينة، وأيضا نادي جنزور المتخصص في الرياضات البحرية باعتبار وقوع المدينة على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.لكن جنزور اليوم، كما أغلب المدن الليبية تعاني من التهميش والاهمال في ظل الوضع الاستثنائي الذي تعيشه ليبيا والذي أثر سلبا على النشاطين الفلاحي والسياحي. وزادت الطين بلة الحرب الأخيرة التي شنت في الغرب من قبل اللواء خليفة حفتر من أجل السيطرة على طرابلس المحاذية لجنزور فقد عطلت كل أشكال الحياة في هذه المدينة والمدن القريبة منها.وترتع الميليشيات المسلحة اليوم في جنزور كما باقي المدن الليبية وتهدد أمن واستقرار المدينة وتمنع عنها التنمية وتدفق الاستثمارات الداخلية وحتى الخارجية وتجعلها رهينة لصراعاتهم. ويمثل نزع سلاح هذه الميليشيات ثم تفكيكها معضلة حقيقية تؤرق مضاجع أهالي جنزور كما سائر المدن الليبية وتحتاج تضحيات وجملة من الإجراءات الهامة في هذا الإطار وربما لن يحصل ذلك إلا في إطار الحل الشامل لعموم ليبيا.
متحفها الوطني يضم آثارا قرطاجية بونية
ولعل ما زاد من تهميش هذه المدينة الجميلة هو عدم اعتراف البعض بها كمدينة مستقلة بذاتها إداريا وذلك بعد التوسع العمراني الذي جعلها تتداخل مع طرابلس وتلتصق بها. حيث يعتبرها هؤلاء ضاحية من ضواحي مدينة طرابلس الغرب الحاضرة الهامة في منطقة شمال أفريقيا والبلاد المغاربية والتي لعبت أدوارا هامة في مراحل عديدة من تاريخ المنطقة وخصوصا خلال الحقبة العثمانية بعد أن تم الفصل بين تونس والغرب الليبي.ويذكر أن الولي الصالح عبد السلام الأسمر أو سيدي عبد السلام الذي يعتبر من أقطاب المتصوفة في بلاد المغرب الكبير قد أتى على ذكر جنزور في قصيدة له بالعامية الليبية وكأنه يتنبأ فيها بما سيعيشه الغرب الليبي اليوم من أزمات سياسية وكوارث وحروب أهلية.. إذ قال فيما معناه:“جاءك الخلاء يا زوارة، ويا زاوية أبشرك بالهموجنزور هي الإشارة يا طرابلس يا حفرة الدمغابت عليك الدبارة وقرب جرحك يلتئمومن زليتن تجيئك البشارةترهونة وورفلة ينزلوا لطرابلس جيوش جرارةونار في شرقها تعم.. يوم لا تنفعهم فزعة النصاره”.