مراكز الاحتفاظ… عنف أمني من دون عقاب في تونس
محتجة تواجه قوات الأمن في العاصمة السبت الماضي (فتحي بلعيد/ فرانس برس)يتصاعد التنديد المجتمعي في تونس بالعنف الأمني إزاء المحتجين والموقوفين على ذمة التحقيق، وسط إدانة واسعة للانتهاكات التي يتعرض لها تونسيون داخل مراكز الاحتفاظ (التوقيف) في الفترة الأخيرة
بالتزامن مع توسع الاحتجاجات المطلبية في تونس، وتصادم المحتجين مع قوات الأمن، ترصد المنظمات الحقوقية وناشطون في المجتمع المدني، يومياً، حالات عدة لأشخاص تعرضوا للتعنيف والانتهاكات الجسدية والمعنوية أثناء توقيفهم أو استجوابهم في المراكز الأمنية، ومراكز الاحتفاظ (نظارات ومراكز احتجاز ما قبل العرض على النيابة العامة). وتنشر الجمعيات المناهضة للعنف وحقوقيون ومواطنون مقاطع فيديو توثّق ما يتعرض له موقوفون من اعتداءات.في هذا الإطار، قالت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان إنّ هذه التجاوزات تمهّد لعودة الدولة البوليسية في البلاد. في المقابل، رفعت النقابات الأمنية سقف مطالبها، داعية إلى إصدار قانون لحماية عناصر الأمن، المودع في البرلمان، والذي يلاقي معارضة كبرى من منظمات حقوقية.
يقول الكاتب العام لرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، بسام الطريفي، إنّ الرابطة تسجل تصاعداً غير مسبوق في الاعتداءات الأمنية على المواطنين، لا سيما الموقوفين في مراكز الاحتفاظ، وصلت إلى حدّ التعذيب الممنهج عبر الضرب المبرح وحلق الرأس وانتزاع الملابس. يؤكد الطريفي لـ”العربي الجديد” أنّ الرابطة رصدت تجاوزات “خطيرة” ارتكبها بعض عناصر الأمن على خلفية الاحتجاجات الأخيرة، وصلت إلى حدّ التعذيب وسوء المعاملة وانتزاع الاعترافات بالقوة، ومداهمة المنازل من دون إذن قضائي وتوجيه اتهامات سياسية كيدية ضد موقوفين، من بينهم قصّر وتلاميذ مدارس وطلّاب جامعات. يفيد الطريفي بأنّ ما يمارس على الموقوفين يرتقي إلى مستوى الجريمة والانتتهاك الصارخ لحقوق الإنسان ودستور البلاد، فضلاً عن حرمانهم من حقوقهم التي تضمن لهم حضور المحامين أثناء عمليات الاستنطاق (الاستجواب)، معتبراً أنّ العنف ضد الموقوفين يقود البلاد إلى منعرج خطير في انتهاك حقوق الإنسان. ويؤكد الطريفي أنّ الرابطة رصدت عشرات المحاضر التي استنسخت الاتهامات الخطيرة نفسها، لأجل الوصول إلى أحكام قضائية قاسية في حق المحتجين.كذلك كشفت الرابطة في تقرير لها عن وصول شكاوى عدة إلى فروعها تتعلق بالتبليغ عن تعذيب وسوء معاملة للموقوفين في مراكز التوقيف وفي السيارات الأمنية؛ من ذلك تجريد بعض القصّر الموقوفين من ملابسهم وتهديدهم بالاغتصاب وسكب الماء عليهم وضربهم بالعصيّ والاعتداء بالعنف الشديد ضد موقوفين، ما تسبب في أضرار جسيمة، فضلاً عن الاعتداء على نحو 80 في المائة من أولياء أمور القصّر الموقوفين خلال مداهمة المنازل أو في مراكز التوقيف، وفق التقرير.
بدوره، كشف المحامي الهادي الصدام، الخميس 5 فبراير/ شباط الجاري، تعرّض موكله للاعتداء بالعنف من خلال قسم أمن الأبحاث في منطقة الحرس، بمحافظة المنستير، ما أدى إلى تعرضه لنزيف حاد استوجب تدخلاً جراحياً. وأوضح الصدام في تصريح إذاعي أنّ عناصر أمن مارسوا في مركز الاحتفاظ أشكالاً مختلفة من التعذيب في حق موكله، من ركل وضرب وكيّ بالنار في مناطق حساسة من جسده، قبل إيداعه السجن. أضاف أنّ طبيب السجن عاين وقوع أضرار بدنية كبيرة لموكله، فجرى توجيهه إلى المستشفى الجامعي “سهلول” في سوسة، حيث خضع لعملية جراحية.تضاف الانتهاكات الأمنية لحقوق الموقوفين التي رصدتها المنظمات الحقوقية خلال موجة الاحتجاجات الأخيرة إلى سجلّ طويل من الانتهاكات، إذ لا تخلو التقارير الشهرية للمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب من توثيق لانتهاكات حقوق مواطنين في مراكز الاحتفاظ، كاشفة عن اعتداءات أمنية على مواطنين في أوضاع لا تتطلّب استعمال القوة. كذلك، توثّق التقارير الشهرية للمنظمة صوراً للإفلات من العقاب، لأشخاص مارسوا العنف على مواطنين جرى الاحتفاظ بهم في مراكز أمنية، وسط تصاعد مخاوف المنظمات الحقوقية من تنامي حالات العنف والاعتداءات في مراكز الاحتفاظ التي غالباً ما تكون مراكز للشرطة. والسبب في المخاوف هذه فشل مواطنين في تحصيل حقوقهم أو في الملاحقة القضائية لمن مارسوا عليهم الاعتداءات بالعنف في أقسام الشرطة، ما يكرّس واقع الإفلات من العقاب.
في هذا الإطار، يقول الكاتب العام لهيئة مكافحة التعذيب، ضياء الدين مورو، إنّ الهيئة لا تملك بيانات حول حجم الانتهاكات التي يتعرَّض لها تونسيون في مراكز الاحتفاظ، لكنّه يشير إلى أنّ نسبة العنف ضد المواطنين في ارتفاع كبير في السنوات الخمس الأخيرة، بعدما تراجع منسوبها في السنوات الثلاث الأولى التي تلت ثورة يناير/ كانون الثاني 2011. ويؤكد مورو لـ”العربي الجديد” أنّ مواطنين يبلغون فروع هيئة مكافحة التعذيب عن الانتهاكات التي يتعرّضون لها في مراكز الاحتفاظ من قبل عناصر أمن، سواء لانتزاع اعترافات منهم أو لدواعٍ أخرى، معبّراً عن مخاوفه من تواصل هذه الانتهاكات التي تمسّ الحريات العامة وحقوق المواطنين. يضيف مورو أنّ القضاء التونسي لم يصدر أحكاماً ضد أمنيين اتهموا بالاعتداء على مواطنين في أقسام الشرطة، مشيراً إلى أنّ القضايا التي تنشر في هذا الإطار تبقى سنوات طويلة على بساط التحقيق من دون أن يحصّل الضحايا حقوقهم، واصفاً هذا الأمر بالخطير.يوم 31 ديسمبر/ كانون الأول الماضي أصدرت 3 هيئات تونسية (الهيئة الوطنيّة لحماية المعطيات الشخصية، والهيئة العليا لحقوق الإنسان والحرّيات الأساسية، والهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب) بياناً مشتركاً أدانت فيه تكرر انتهاك المعطيات الشخصية لعدد لا يستهان به من المواطنين ممّن تعلقت بهم شبهة خرق القانون، من قبل موظفين مكلفين بإنفاذ القانون، وذلك بنشر بيانات هويتهم كاملة وروابط صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، في إشارة إلى النقابات الأمنية. وقالت الهيئات إنّ كلّ المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة عادلة، والأبحاث الجزائية (التحقيقات) تجرى تحت إشراف وبأمر من السلطة القضائية التي تظلّ مسؤولة عن حماية سرية التحقيقات وضامنة لعدم خرقها من قبل كلّ من اطلع عليها بصفته القانونية، فما بالك بمن لا صفة قانونية له؟ وفق البيان.
ويرى المحامي ياسين عزازة أنّ الاختلالات الإجرائية للسلطات الأمنية في تونس متعددة، مؤكداً ضرورة احترام الشرطة القانون الذي صادق عليه البرلمان عام 2016 المتعلّق بضمانات المتهم، ومنها عرض المتهم على الفحص الطبي وتمكينه من حضور محامٍ والاتصال بعائلته. ويقول عزازة لـ”العربي الجديد” إنّ كلّ الضمانات التي وضعها المشرّع التونسي عام 2016 “منتهكة” من قبل عناصر الأمن، معتبراً أنّ العقلية البوليسية التونسية لم تستوعب مجمل هذه الضمانات التي تكفل حقوق المتهمين. ويحمّل عزازة وزارة الداخلية مسؤولية انتهاك عناصر الأمن القوانين، لأنّها لم تدرب موظفيها على احترام التشريعات الجديدة، لا سيما المكلفين من بينهم بالتحقيقات الأولية، داعياً إلى ضرورة إخراج جهاز البحث (التحقيق) من وزارة الداخلية ووضعه تحت إشراف وزارة العدل. ويطالب عزازة بإنشاء جهاز للشرطة القضائية يختص في حماية المحاكم والتحقيق في القضايا، تشرف عليه النيابة العامة. ويشير إلى أنّ النقابات الأمنية التي يتورّط عناصرها في ممارسة العنف ضد مواطنين تسلّط ضغوطاً على القضاة، وهو ما يفسّر عدم إصدار القضاء أيّ أحكام في قضايا انتهاكات حقوق الموقوفين، بل يكرّس الإفلات من العقاب، وفق قوله. ويعتبر عزازة أنّ المنظومة الحالية تضع عنصر الأمن في موقع الخصم والحكم، وهو ما يوقع الظلم على الطرف الأضعف، أي المواطن.وسبق لنقابات أمنية أن حاصرت، في ثلاث مناسبات، مباني المحاكم لمنع مثول عناصر أمن أمام القضاء، كما تنشر النقابات الأمنية عبر صفحاتها صوراً لموقوفين في مراكز الأمن في وضعيات مهينة تُثير استنكار الحقوقيين والنشطاء ممن يطالبون بحفظ كرامة المواطنين حتى وإن تورطوا في قضايا إجرامية.
في المقابل تقول وزارة الداخلية إنّها تبذل جهوداً لاحترام القوانين التي تمكّن الموقوفين من كلّ الضمانات القانونية، مشيرة إلى أنّ الوزارة تنظر في جميع الدعاوى التي تصل إلى إداراتها حول الانتهاكات في مقار الأمن والاحتفاظ، سواء من قبل منظمات حقوقية أو من المواطنين. ويؤكّد الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية، خالد الحيّوني، لـ”العربي الجديد”، أنّ مصالح (أجهزة) الداخلية تحقق في جميع الشكاوى ضد عناصر الأمن، وتسلّط عقوبات إدارية ضد من تثبت إدانتهم. يضيف أنّ القضاء يواصل التعهّد بالقضايا المنشورة أمامه وإصدار الأحكام اللازمة في شأن عناصر الأمن الذين يثبت تورطهم في الاعتداء على مواطنين أو موقوفين في مراكز الاحتفاظ.في بيانها الأخير بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، أعربت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان عن قلقها الشديد حول أوضاع حقوق الإنسان في تونس، محذّرة من المخاطر التي باتت تهدّد المكاسب التي تحقّقت حتى اليوم، بعد تسجيل بوادر تراجع في مجال الحريات العامة والفردية.
تابعوا Tunisactus على Google News