مصر فى لحظة الحقيقة – مصطفى كامل السيد
نشر فى :
الأحد 17 يوليه 2022 – 8:35 م
| آخر تحديث :
الإثنين 18 يوليه 2022 – 11:47 ص
تواجه كل الدول عبر مسيرة تاريخها لحظات حاسمة عندما تحيط بها تحديات جسيمة، يتعين عليها فيها أن تعيد النظر فى مؤسساتها وسياساتها لكى تحدد دور هذه المؤسسات والسياسات فى توليد هذه التحديات، ويدور السؤال حول ما يمكن عمله للمواجهة الناجحة لهذه التحديات. وليس هناك ما يضمن أن تكون نتيجة التساؤل هى الوصول إلى الإجابة الصحيحة، فقد تدفع المكابرة صناع القرار فيها إلى الجزم بأن تلك التحديات ما هى إلا عوارض طارئة، وأنه ليس ثمة خلل لا فى المؤسسات ولا فى السياسات، فيكفى الصمود مؤقتا حتى تمر العاصفة، وتستمر الأمور على ما كانت عليه، أو يركنون إلى الاعتقاد بأن أسوأ النتائج لم تظهر بعد، ويتركون عبء التعامل معها عندما تتفاقم لأجيال قادمة من الحاكمين والمحكومين. ولكن الشعوب الرشيدة هى التى تدرك أن الحاضر هو فى جانب كبير منه وليد الماضى القريب، وأنه إذا كانت المؤسسات والسياسات التى اقترنت بظهور التحديات مسئولة ولو جزئيا، عن النتائج السلبية التى تعانيها، فلا يمكن أن يكون المخرج الصحيح هو استمرار نفس هذه المؤسسات والسياسات.
مصر تواجه فى اللحظة الراهنة فى صيف 2022 موقفا مماثلا، فلا يملك مراقب منصف لأوضاعنا الراهنة إلا أن يقر بخطورة التحديات التى تواجهها مصر شعبا ودولة على أصعدة الاقتصاد والسياسة والعلاقات الخارجية، من مديونية داخلية وخارجية مرتفعة، ومن ضيق فى المجال العام ومركزية هائلة فى صنع القرار، ومن حيرة فى اكتشاف الطريق للتعامل مع الأخطار التى تهدد الأمن القومى، ومع ذلك تغيب هذه التحديات عن النقاش العام الذى يستحى أن يكشف عن أعراضها، أو أن يذهب إلى جذورها. وسوف يستعرض هذا المقال بعض جوانب هذه التحديات على أن يكون ذلك فاتحة لنقاش عام أوسع حولها.
من الاقتصاد الريعى إلى اقتصاد متنوع
أهم هذه التحديات هو بلا شك التحدى الذى يواجهنا فى المجال الاقتصادى، وأعراضه معروفة من مديونية داخلية تتمثل فى عجز الميزانية وفقا للأرقام الرسمية، ومن مديونية خارجية لا تتوقف عن التصاعد وقد بلغت حدودا غير مألوفة لم يعرفها تاريخ الدولة المستقلة فى مصر. خطورة هذا التحدى أن أسلوب الحكومة فى مواجهته هو المزيد من الاستدانة لتمويل العجز فى بعديه وليس للخروج من فخ الدين. نتائجه فادحة على صعيد قدرة الحكومة على النهوض بالأوضاع الهشة للغالبية الساحقة من المواطنين الذين يعانى قسم كبير منهم من الفقر ويعانون جميعا من تدهور أوضاع التعليم والوصول إلى الخدمات الصحية وارتفاع نفقات الخدمات العامة الأخرى، كما أن مخاطره كامنة فى انصراف المواطنين عن المشاركة، وهو البيئة الخصبة التى تغذيها هذه الأوضاع للقوى السياسية الرافضة لكل أوضاعنا الراهنة، مما يفتح الباب أمام عدم الاستقرار الاجتماعى والسياسى، وهو الأمر الذى نجد مثيلا له فيما يجرى فى دول مجاورة لنا وأخرى بعيدة عنا، منها سريلانكا والأرجنتين.
سوف يكون من الخطأ البالغ فصل هذه الأوضاع عن نمط السياسات الاقتصادية خلال السنوات القريبة الماضية. لا يمكن أن ينكر أحد أن تقدما ملموسا جرى فى توفير بنية أساسية مناسبة فى مجال الكهرباء والماء والطرق وخصوصا فى العاصمة وفيما بين المحافظات. ولكن لم يقتصر الإنفاق العام على هذه المشروعات الحيوية للاقتصاد، ومن ناحية أخرى فإن كل هذا الإنفاق العام الذى يتفاخر المسئولون بأحجامه لم يسفر عن تغيير الطبيعة الريعية المتزايدة للاقتصاد المصرى، فمساهمة الصناعة التحويلية فى الناتج المحلى الإجمالى لا تتجاوز 11%، والهدف الطموح لوزارة الصناعة هو الارتفاع بها إلى نسبة 15% بحسب تصريحاتها المنشورة، وصادراتنا السلعية لا تصل إلى 40% من حجم وارداتنا، والمصادر الأساسية للعملة الصعبة هى تحويلات العاملين بالخارج، وتليها من بعيد إيرادات قناة السويس التى تصل بالكاد إلى ربع هذه التحويلات، ثم السياحة ومساهمة متواضعة من جانب صادرات النفط والغاز الطبيعى. نحن مازلنا رغم كل هذا الإنفاق العام فى رحمة الطبيعة والأوضاع الدولية والإقليمية بما فيها الأوضاع الصحية، ومشروعات الطرق لدينا فى الدلتا خصوصا تساهم فى تآكل المساحات الخضراء الباقية للزراعة التى تمر عليها.
استمرار نمط الإنفاق العام الذى جرى خلال السنوات القليلة الماضية لا يمكن أن يؤدى إلى نتيجة مختلفة عما نعانيه بالفعل. وليس من الصحيح ونحن نبحث عن نمط بديل للنمو أن نصدق أنه لا يوجد فى مصر سوى رمال وصخور. مصر غنية بالموارد الطبيعية من زراعية ومعدنية وسياحية فيما لو أحسن استغلالها بالطرق العلمية وبالسياسات الصحيحة. وعلينا ألا ننسى أن بعض الدول التى حققت إنجازات مبهرة على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتى أصبحت أعضاء فى نوادى الدول المتقدمة تفتقر إلى الموارد الطبيعية، وأقصد تحديدا ثلاثة من نمور آسيا الأوائل وهم كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان. وكان طريق هذه الدول للقفز فى مسار التنمية هو الاهتمام بالبشر من خلال رفع مستوى التعليم لكافة المواطنين، ولذلك أصبحت مدارسها نموذجا فى إجادة النشء للرياضيات والفيزياء واللغات، وهى العناصر الأساسية لامتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا المتقدمة فى عصر انفجار المعرفة، وتتفوق فى ذلك على مدارس الدول الاستعمارية الجديدة والقديمة فى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. أين نحن من ذلك وتدهور مستويات التعليم لدينا لا يحتاج إلى إثبات. وأقول ذلك من موقعى كأستاذ جامعى.
نحن محتاجون إلى استراتيجية فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية عمادها الاهتمام بالبشر وغايتها اقتصاد متنوع قطاعاته الأساسية هى الصناعة والزراعة والخدمات الإنتاجية، وهو فقط الذى يمكن أن يوفر العمالة اللائقة لمن هم فى سن العمل والدخل الكريم لكل العاملين، وهو الذى يولد الموارد التى تغنينا عن ودائع الأصدقاء.
علاقات جديدة بين سلطات الدولة وفتح المجال العام
تشهد التجربة التاريخية لبعض الشعوب أن المركزية الهائلة فى توزيع السلطات داخل جهاز الدولة قد تكون ضرورة فى اللحظات التى يتهدد فيها الأمن الوطنى من قوى داخلية أو خارجية. ينطبق ذلك بكل تأكيد على مصر، ولكن استمرار هذا النمط المفرط فى مركزيته بعد أن يتلاشى الخطر يصبح عبئا على عملية صنع القرار، وعلى السياسة والاقتصاد والمجتمع. والمركزية فى مصر تاريخها طويل، وربما أصبحت إحدى قيم الثقافة المصرية. وقد اجتازت مصر لحسن الحظ مرحلة الخطر هذه التى تمثلت فى مواجهات مسلحة وأعمال إرهابية تعرض لها ممثلو الدولة وأقسام متعددة من المواطنين مسلمين ومسيحيين، وفى أنحاء متفرقة من الوطن. ومن ناحية أخرى فإن التحولات الجارية فى إقليمنا وفى العالم تقتضى التخفيف من الأعباء التى تلقى على عاتق رئيس الجمهورية لكى يتفرغ أساسا لشئون السياسة الخارجية والدفاع والأمن الوطنى بصفة عامة، وتساعده فى ذلك حكومة قادرة تتمتع بصلاحيات كاملة فى صنع السياسات الداخلية وخصوصا فى المجال الاقتصادى مع المجالات الأخرى الاجتماعية والصحية والتعليمية والإدارية. طبعا الرئيس يرسم التوجهات العامة لهذه السياسات، ولكن ترجمة هذه السياسات إلى مشروعات هى مهمة تنفرد بها الحكومة.
وإذا كانت الأخطار التى هددت الأمن الوطنى قد أدت إلى توسع فى الأدوار التى تقوم بها القوات المسلحة وأجهزة وزارة الداخلية، فإن تلاشى هذه الأخطار مع التقلبات فى الأوضاع الدولية يقتضى تركيز القوات المسلحة وكذلك أجهزة الشرطة على مهامها الأساسية فى صيانة الأمن الوطنى، وتترك المجالات التى توسعت فيها لمؤسسات الدولة المدنية ومعها قطاع خاص أثبت قدرته على المشاركة فى القيام بمشروعات ضخمة بل وانفرد تماما ببعضها خارج مصر.
هذا التوضيح على قاعدة القوانين والممارسة العملية لأدوار سلطات الدولة والعلاقات فيما بينها سوف يمثل بداية صحيحة وواعدة لفتح المجال العام فى مصر بالتفعيل لنصوص الدستور فيما يتعلق بالحريات الشخصية وحريات التعبير والتنظيم والمشاركة السياسية، والتى هى حقوق أساسية للمواطنات والمواطنين فى مصر فضلا عن أنها تخفف من أعباء الحكومة بما تؤدى ممارستها إلى ظهور بدائل للسياسات العامة، وإظهار أسباب التعثر فى تنفيذ بعض هذه السياسات، وإلى إقبال المواطنين على المشاركة فى شئون وطنهم، وإلى تعزيز لروح الانتماء إلى الوطن، وتدعيم للاستقرار السياسى. وبطبيعة الحال فإن فتح المجال العام على هذا النحو هو المناخ الطبيعى الذى يؤدى إلى إزدهار الثقافة والفنون والتى هى القوة الناعمة لمصر والتى تضاءلت فى السنوات الأخيرة.
إعادة تعريف دور مصر على الصعيدين الإقليمى والدولى
لا يغيب عن الأذهان أن السياسة الخارجية الناجحة هى التى تستند إلى اقتصاد يتمتع بدرجة من التنوع فى الموارد والقدرة على التوليد الذاتى للنمو مما يجعله أقل تبعية للقوى الإقليمية والدولية. كما أن النظام السياسى المستقر والذى يستند إلى شرعية مؤكدة بالقبول الطوعى من جانب المواطنين هو الذى يسمح بمساحة أوسع لصناع القرار للاهتمام بالسياسة الخارجية والإبداع فى اكتشاف البدائل التى تمكنهم من التكيف والتعامل مع أوضاع إقليمية ودولية متغيرة. وهناك على هذا الصعيد أسئلة يستلزم الأمر أن تكون لها إجابة واضحة: هل تكتفى مصر على الصعيد العربى بعلاقات وثيقة مع دائنيها أم أنها يجب أن تقوم بدور الشقيق الكبير لكل الدول العربية؟ هل تكون سياساتها تجاه الأطراف الإقليمية غير العربية هى بالتوافق مع توجهات دائنيها أم أنها يجب أن تكون جسورها مفتوحة مع كل هذه القوى على النحو الذى يخدم مصالحها ومصالح أشقائها العرب فى نفس الوقت؟ وهل تستمر مصر فى تقديم الهدايا المجانية لإسرائيل بصرف النظر عما تقوم به حكومتها تجاه الفلسطينيين، أم أن مصلحة مصر هى فى أن تقتضى من إسرائيل ثمنا مقابلا لما قد تقدمه لها من مزايا؟ وأخيرا هل من صالح مصر فى ظل أوضاع دولية غير مستقرة أن تلتزم بعلاقات أوثق مع إحدى القوى الكبرى على حساب علاقاتها بالقوى الكبرى الأخرى أم أن المرونة فى كثافة ومجالات العلاقات مع القوى الكبرى القديمة والبازغة هى عين الحكمة فى هذه الظروف؟
هذه بعض الأسئلة الكبرى التى يتعين علينا حسمها، وإجابتها سوف تحدد ما إذا كنا سنصبح دولة مستقرة فاعلة على صعيدها الإقليمى ومسموعة الكلمة على الصعيد العالمى أو لا نكون.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
#مصر #فى #لحظة #الحقيقة #مصطفى #كامل #السيد
تابعوا Tunisactus على Google News