معركة تكسير العظام.. صراع حمدوك والبرهان وحميدتي على ثروات السودان
كان صعود رئيس الحكومة السوداني، “عبد الله حمدوك”، إلى رأس السلطة، عقب الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم البشير في إبريل/نيسان عام 2019، تتويجا لتوافق نادر على شخصه بين المُكوِّنين المدني والعسكري للسياسة في السودان، ليصبح الرجل القادم من ولايات الجنوب الفقيرة والمُهمَّشة، والعضو السابق في الحزب الشيوعي السوداني، محطَّ أنظار الجميع، لا سيما وقد تعهَّد بتبني سياسة اقتصادية ليبرالية تعالج قضايا الفقر والعدالة الاجتماعية، وتتحرَّر فيها البلاد من هيمنة اقتصاد الدولة، وتُعيد هيكلة المؤسسات المدنية والعسكرية، وهي أفكار ظل “الشيوعي الجنوبي” مدفوعا بها لعقود طيلة شبابه.
لكن حمدوك صار أكثر براغماتية عمّا كان عليه في صباه، حين قرَّر ترك الحزب الشيوعي، وعدم انتقاد نظام البشير أثناء تقلُّده عدة مناصب دولية بارزة في الخارج، حتى إنه بمجرد وصوله إلى السلطة تخلَّى عن أفكاره الشيوعية القديمة، وآثر الوصول إلى تفاهمات مع الجيش، بعدما كرَّست الوثيقة الدستورية هيمنة العسكريين على الفترة الانتقالية بشكل أو بآخر كما يقول معارضون. وشملت التحوُّلات التي اعتنقها حمدوك تبني سياسة ليبرالية اقتصادية بُغية رفع يد الدولة عن الاقتصاد، وكذلك استدانة ملايين الدولارات من المؤسسات الدولية، مقابل تنفيذ شروطها المُجحِفة، إلى جانب رفع الدعم عن السلع الأساسية، وتحرير سعر الصرف. بيد أن أيًّا من ذلك لم يُسهم في خلق علاقة متوازنة مع المُكوِّن العسكري، الذي انتقد علانية الوضع الاقتصادي المأزوم، وهي تصريحات فُهِمت بوصفها تحضيرا لانقلاب وشيك لمنع الانتقال السلِس للسلطة، الذي يُعَدُّ الهدف الأساسي لحكومة حمدوك.
شيوعي انقلب على أفكاره
خلافا للتوقُّعات، ودَّع حمدوك الشيوعية أثناء أشهره الأولى برئاسة الوزراء، رغم أنه وصل إلى السلطة محمولا على أكتاف قادة الاحتجاجات (تجمع المهنيين) الذين رشَّحوه لرئاسة الوزراء بسبب براغماتيته وعدم انحيازه للجنرالات، وعدم تقيُّده بإرث السياسات الإقليمية في علاقة السودان بمصر والدول الخليجية، إلى جانب كونه ثائرا قديما، وخبيرا اقتصاديا سابقا لدى الأمم المتحدة. ولكن رُغم الاحتفاء الذي قوبل به، والآمال الكبيرة التي عُلِّقت عليه، فإن حمدوك كان يواجه مهمة مستحيلة في إيجاد حلول لإنقاذ الاقتصاد السوداني المتردي، ومعالجة البنية التحتية المتهالكة، وإرضاء جموع السودانيين الغاضبة والرافضة لسياسات التقشف التي طالما حاصرهم بها البشير. علاوة على ذلك، واجه الرجل ملفات النزاعات الداخلية المستمرة، والعقوبات الأميركية، والسلطات الضخمة التي وُضِعت في يد رئيس المجلس السيادي، الفريق أول “عبد الفتاح البرهان”، الذي يملك إقالته بموجب الصلاحيات الممنوحة له في الوثيقة الدستورية.
بدا لحمدوك في ظل تلك المُعطيات الجديدة أن نظامه البراغماتي لن يكون بمقدوره الاستمرار دون التحرُّر من السياسات الأيديولوجية، خاصة في بلد طالما ارتبط بالانقلابات العسكرية، والصراعات الأيديولوجية بين الجيش والأحزاب المدنية والمتمردين، ما دفعه إلى التخلي عن أفكاره القديمة، مُعَرِّضا نفسه بالتبعية إلى هجوم شديد من اللجنة الاقتصادية التابعة لـ”تجمع المهنيين السودانيين”؛ بسبب ما وصفته بالتسبُّب في تدهور الأزمة الاقتصادية، وخرق “الاتفاق القديم” مع قوى الثورة بألا يرفع الدعم أو يُخفِّض قيمة العملة أو يزيد سعر الدولار الجمركي.
بعيدا عن تعقيدات السياسة، استلم حمدوك البلاد بخزينة خاوية، وديون خارجية قاربت حاجز 60 مليار دولار، ونسبة تضخم تقترب من 70%، وانهيار لسعر العملة وصل معه سعر الدولار إلى 47 جنيها سودانيا، مع عجز في موازنة عام 2019 بلغ 3.7%. وبالنظر إلى الخسارة التي لحقت بالسودان عقب انفصال الجنوب ومعه 70% من عائدات النفط (نصف إيرادات الموازنة حينئذ)، وطبقا للخطة الاقتصادية التي اقترحها رئيس الوزراء لإنقاذ السودان، فإن البلاد بحاجة إلى إنهاء العُزلة الدولية لرفع العقوبات والديون المتراكمة، وخفض الإنفاق العسكري الذي يستهلك نحو 80% من الموازنة، لكن هذا لم يكن كافيا في ظل أوضاع مأزومة دفعت السياسي “الشيوعي” لتوديع أفكاره القديمة.
مضى حمدوك قُدما في سياسة اقتصادية مُخالِفة لمعتقداته، فأعلن في البداية حاجة السودان إلى نحو 10 مليارات دولار لإعادة بناء الاقتصاد، بعد الاضطرابات السياسية التي لحقت به إثر صراع السلطة الذي نشب بين المُكوِّن المدني والعسكري، ثم تفاوض مع صندوق النقد والبنك الدولي على قروض بمليارات الدولارات مقابل برنامج إصلاح يشمل رفع الدعم وتحرير سعر الصرف، وتكريس هيمنة الحكومة على قطاع المؤسسات العامة، وتصفية وخصخصة عدد من الشركات المملوكة للحكومة البالغ عددها 650، وفرض المزيد من الضرائب لدعم استقرار الاقتصاد.
في خضم موجة من الغضب الشعبي الذي قوبلت به سياسات حمدوك الاقتصادية، وعلى رأسها معارضة الحزب الشيوعي نفسه لأحد أبنائه القدامى ومطالبته بإسقاط الحكومة، حصد رئيس الوزراء السوداني نتاج خُطواته بانتزاع موافقة البنك الدولي على إعفاء بلاده من 23.5 مليار دولار من ديونها البالغة 60 مليار دولار، ويتطلَّع السودان لإلغاء بقية المبلغ بحلول نهاية العام الجاري.
تبع تلك التحوُّلات في الأفكار الاقتصادية لحمدوك تحوُّلات دبلوماسية، فقد أعلن رئيس الوزراء عن حاجة بلاده إلى حلفاء إقليميين لدعمه بمليارَيْ دولار كاحتياطي نقدي في البنك المركزي؛ للمساعدة في إيقاف تدهور سعر صرف الجنيه السوداني، ما جذب إليه أنظار السعودية والإمارات اللتين تعهَّدتا بتقديم مساعدات قيمتها 3 مليارات دولار. لم يكتفِ حمدوك بذلك، بل إنه لم يُبدِ اعتراضا على خطوات التطبيع السوداني مع إسرائيل، إذ رحَّب باللقاء الذي جمع رئيس المجلس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو في أوغندا، وهي خطوات نُظر لها فعليا على أنها السبب الرئيسي في رفع اسم السودان من على قوائم الإرهاب الأميركية.
ورغم كل هذا القدر من البراغماتية، فإن طريق حمدوك في السلطة لم يكن مفروشا بالورود، حيث يُشير الأداء الاقتصادي للحكومة بعد عامين من الثورة إلى أزمة تكشفها الأرقام الرسمية؛ فقد ارتفع التضخم من 69% في عهد البشير وصولا إلى أرقام فلكية بلغت 422%، بينما واصلت العملة الانهيار إلى عُشر قيمتها السابقة تقريبا من 47 جنيها مقابل الدولار الواحد قبل الثورة إلى 441 جنيها مقابل الدولار اليوم.
وبينما يقول مؤيدو الحكومة إن حمدوك استلم البلاد في وضع مُزرٍ وظروف اقتصادية فاقمتها الفيضانات وجائحة كورونا وعدم الاستقرار السياسي، فإن معارضيه يُعدِّدون ما يرونه أخطاء ارتكبها الرجل في مسيرة الإصلاح الاقتصادي، أبرزها تعويم الجنيه، ومحفظة السلع الإستراتيجية التي شكَّلتها الحكومة للاستيراد ودفعت رجال الأعمال إلى شراء الدولار بكميات كبيرة من السوق الموازي ما قاد العملة إلى الانهيار، إلى جانب عجزه حتى اللحظة عن إخضاع شركات الجيش لوزارة المالية، وعجزه كذلك عن فرض سيطرة الدولة على مبيعات الذهب التي يحتكرها قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول “محمد حمدان دقلو”، الذي يعده البعض أقوى رجل في السودان.
جيش احتكاري.. وحكومة رأسمالية
بالتزامن مع ذلك، بدأ الجيش السوداني رسميا، عقب عزل البشير وتولي البرهان رئاسة المجلس السيادي، إعادة هندسة إمبراطوريته الاقتصادية، وحماية سلطاته القديمة ضمن خطة تستهدف السيطرة على الموارد الحيوية للدولة، وتحجيم أي حكومة قادمة تستهدف الإطاحة به من المشهد، وهي خطة يسعى حمدوك سعيا حثيثا لعرقلتها، كونها ستدفعه في النهاية إلى الرضوخ لمطالب العسكريين، الذين يمتلكون مفاتيح القرار السياسي والاقتصادي والعسكري حتى اللحظة، وهو ما يراه رئيس الوزراء السوداني خطرا يُهدِّد منصبه وخطته الاقتصادية، ويُهدِّد أيضا موعد تسليم السلطة الانتقالية، المُقرَّر عام 2024. وسبق وانتقد حمدوك علنا دور الجيش في الاقتصاد، ودعا القوات المسلحة لتحويل استثماراتها إلى شركات مساهمة عامة تخضع لإشراف مباشر من الحكومة، بينما دافع البرهان عنها ورفض المساس بها، وعرض أن تدفع تلك الشركات الضرائب للحكومة دون أن تصبح ملكيتها حكومية، في تجلٍّ واضح للصراع المُحتدِم بين القوى المدنية والعسكرية على مفاتيح الاقتصاد.
هكذا تتبدَّى إذن اختلافات وجهات النظر بين حمدوك والبرهان، ففي حين أن الأول يستهدف في خطته للإصلاح الاقتصادي خفض الإنفاق العسكري، وتخفيف مزاحمة شركات الجيش للقطاع الخاص، والاستفادة من أرباحها، وذلك بهدف تقليل عجز الموازنة العامة، ومنح الثقة للاستثمارات الأجنبية، وتقليص قدرات الجيش بما يسمح بعملية انتقال السلطة، يُخطِّط الثاني على الجهة الأخرى للحفاظ على إمبراطورية الجيش الاقتصادية باعتبارها ورقة مهمة للتفاوض داخليا وخارجيا، ويمنحها حصانة تامة؛ بحيث لا تخضع أرباح الشركات للضرائب أو المراجعة أو تُدرَج في موازنة الدولة. هذا وتُشير تقارير إلى أن عدد الشركات المملوكة للجيش والأجهزة الأمنية تُقدَّر بنحو 250 شركة تُدر أرباحا سنوية قيمتها 110 مليار جنيه سوداني (ما يعادل مليارَيْ دولار أميركي بأسعار إبريل/نيسان الماضي).
المؤشر المهم على تعاظم تلك الإمبراطورية وتمدُّد أذرعها الاقتصادية هو تبرع المؤسسة العسكرية عام 2019 بمليار دولار أميركي للبنك المركزي بهدف دعم استيراد السلع الحيوية، وهو رقم يعكس حجم الاحتياطي النقدي الضخم الذي تحتفظ به، في وقت بلغت فيه الموازنة العامة للحكومة نحو 3.4 مليار دولار. وتفتخر الحكومة حاليا بأن الاحتياطي النقدي لديها ارتفع إلى 234 مليون دولار، بينما لا يُعرَف على وجه الدقة حجم الأموال التي تمتلكها المؤسسة العسكرية، لا سيما قوات الدعم السريع الذين يظهر أفرادهم بسيارات فارهة وأسلحة حديثة متطورة، في حين يشتكي حمدوك من أن 80% من شركاتها خارج إطار المراقبة المالية الحكومية تماما.
تلعب الشركات المملوكة للجيش أدوارا رئيسة في قطاعات اقتصادية تعتبرها الدولة المصدر الأساسي لدخلها القومي، مثل التعدين والزراعة، لكن السياسة الاقتصادية للجيش عقب الإطاحة بالبشير تمثَّلت في الاتجاه إلى احتكار صناعات بعينها، والتوغُّل بقوة في قطاعات الذهب التي يحتكرها قائد قوات الدعم السريع عبر شركة الجنيد (وتُقدَّر مبيعاتها بنحو 390 مليون دولار سنويا). ويسيطر الجيش كذلك على قطاعات المعادن والمواشي والسمسم والجلود والقمح والطيران والاتصالات، وعقب تولي البرهان رئاسة المجلس العسكري، عمد القائد الجديد إلى تعيين رؤساء جدد على رأس الشركات المملوكة للجيش، بدلا من الضباط المحسوبين على النظام القديم، وذلك لحماية تلك الإمبراطورية المالية من انشقاقات مُحتمَلة أو تدخُّل حكومي.
تمثَّلت أبرز تلك التعيينات في اختيار البرهان لصديقه القديم، الفريق أول “ميرغني إدريس”، مديرا عاما لمنظومة الصناعات الدفاعية، الذراع الاستثمارية للجيش، التي توجد تحت مظلتها عشرات الشركات وتُدر ملايين الدولارات. ويحق لتلك الشركات طبقا لقانون أقرَّه البرلمان عام 2017 أن تستثمر أموالها وتبرم العقود وتقوم بإجراءاتها المالية دون الخضوع لأي رقابة. علاوة على ذلك، قام البرهان بسلسلة أخرى من التعيينات والتوسُّعات عزَّزت سيطرة الجيش على الاقتصاد السوداني.
حمدوك أم البرهان.. مَن يربح معركة الاقتصاد؟
رغم ما قطعه حمدوك من أشواط للوصول إلى تسوية للخلافات مع المُكوِّن العسكري، عبر اتفاق أُبرم في مارس/آذار الماضي بشأن تبعية الإمبراطورية الاقتصادية المملوكة للجيش ينص على أن تظل الصناعات العسكرية تابعة للقوات المسلحة، في حين تؤول الصناعات ذات الطابع المدني إلى الحكومة المدنية تحت إدارة وزارتَيْ المالية والصناعة، فإنه ما من ضمان حتى الآن لتنفيذ المجلس العسكري اتفاقه مع الحكومة. وبالتزامن مع أزمة الثقة بين الطرفين، تعهَّد الجيش بدعم الحكومة بمليارَيْ دولار سنويا مقابل عدم المساس بالشركات التابعة له، كما تدخَّل المجلس العسكري على خط أزمة رفع السودان من قوائم الإرهاب، وقدَّم لحكومة حمدوك 70 مليون دولار لتغطية العجز المالي الناتج عن التسوية التي دفعتها الخرطوم لضحايا تفجير المدمرة الأميركية “يو إس إس كول” عام 2000، ما يُبرز إصرار الجيش على الهروب من الاتفاق مقابل دعم الحكومة ماليا بين الحين والآخر.
بالتزامن مع طلب حمدوك من الأمم المتحدة إنشاء بعثة سياسية تشمل أراضي السودان كاملة، ما عُدَّ تعبيرا عن مخاوفه حيال انقلاب عسكري مُحتمَل، دخلت واشنطن على خط الأزمة بعدما أقرَّ الكونغرس الأميركي مشروع قانون يدعم الانتقال الديمقراطي في السودان، ويُشدِّد الرقابة على أموال الجيش والأجهزة الأمنية والعسكرية، ويحُث على الكشف عن أسهمها في جميع الشركات العامة والخاصة، كما يشمل القانون إيقاف نشاطات الأجهزة الأمنية والعسكرية في بيع النفط والذهب، واسترجاع أي ممتلكات أو أرباح للدولة، ومراقبة الموارد المالية التي تباشرها قوى الأمن والاستخبارات خارج السودان.
يُعوِّل حمدوك على أن الضغط الأميركي سوف يُجبر البرهان على الرضوخ وطرح تلك الشركات للاكتتاب العام في السوق المالية، مقابل استمرار المساعدات الاقتصادية للسودان وعدم فرض عقوبات على شخصيات وكيانات سودانية حال مخالفتها القرار الأميركي. بيد أن تحرُّكات رئيس مجلس السيادة الأخيرة بإعادة هيكلة تلك الشركات، ووضع قيادات مُقرَّبة منه على رأسها، لا تشي بأنه سيرضخ للقوى المدنية بسهولة، خاصة أنه بدأ يفتعل الأزمات السياسية معها. على سبيل المثال، صرَّح البرهان بأن المؤسسة العسكرية حصرت نحو 220 شركة تابعة لوزارات وجهات حكومية (من أصل 650 شركة) تعمل خارج النظام المالي والمصرفي، وأنها طرحت تلك القضية أمام مجلس الوزراء، لكنه لم يستجب لها.
من غير المتوقَّع إذن أن يتخلَّى الجيش السوداني عن الإمبراطورية الاقتصادية التي أسَّسها ورعاها طيلة عقود، وأقصى ما يمكن أن يفعله هو تسليم الشركات الصغيرة فحسب امتثالا للضغط الأميركي، مع الاستئثار بإدارة الشركات ذات الأرباح الأكبر. لكن الأزمة الكبرى التي تواجه حكومة حمدوك هي الشركات التابعة لقوات الدعم السريع، التي يحتكم قائدها على أكبر ميزانية في السودان من خلال الذهب ونشاط المرتزقة المعتمد رسميا على شركات يديرها أقرباؤه جعلت قواته في النهاية قوة لا تقل ثقلا عن الجيش، بل وربما تضاهيه، كما منحته الاستقلال المالي عن الميزانية الحكومية.
طبقا لما أقرَّته الوثيقة الدستورية التي حدَّدت أسس الانتقال الديمقراطي في السودان بعد الثورة، فإن رئاسة المجلس السيادي تؤول إلى شخصية عسكرية (البرهان) لمدة 21 شهرا بدأت من تاريخ توقيع اتفاقية سلام جوبا مع الحركات المسلحة في أكتوبر/تشرين الأول 2020، على أن تنتقل رئاسة المجلس بعد ذلك إلى القوى المدنية لمدة 18 شهرا. ومع اقتراب نهاية المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية، يستعد المجلس العسكري لتسليم رئاسة المجلس السيادي إلى القوى المدنية في يونيو/حزيران 2022، في ظل الكثير من الملفات غير المحسومة، أبرزها وضع الشركات التابعة للجيش ورفضه تسليمها إلا لحكومة منتخبة، وهي بوادر انقسام عنيف بين المُكوِّن العسكري والمُكوِّن المدني داخل السلطة الانتقالية التي يتبادل طرفاها الآن الهجوم العلني، مع اتهامات للعسكريين بالرغبة في التراجع عن التحوُّل الديمقراطي والالتفاف على الوثيقة.
حتى اللحظة يجد رئيس الوزراء السوداني نفسه مكتوف الأيدي أمام الصلاحيات الواسعة لرئيس المجلس السيادي، وتدخُّل الجيش في ملفات الاقتصاد والسلام الداخلي والعلاقات الخارجية، مع تحميل القوى المدنية ما آلت إليه البلاد من ظروف اقتصادية ووضع سياسي وأمني مأزوم، وهو ما يضع السودان على مُفترَق طرق بين إمكانية وقوع انقلاب حقيقي يؤول بالحُكم في البلاد إلى الجيش حصرا، على غرار ما جرى في مصر، أو احتمالية قيام المجلس السيادي بمحاولة عرقلة عمل القوى المدنية والتشكيك في شرعيتها وتسليط الضوء على إخفاقاتها، على غرار ما يجري في تونس الآن، أو نجاح القوى المدنية في التوصُّل إلى اتفاق جديد يحفظ أسس الوثيقة ويُتيح لها استيعاب القوة الحالية للجيش رُغما عنها، على غرار ما يجري في الجزائر، وهي كلها سيناريوهات تعني أن مخاض الدولة السودانية الجديدة سيكون أصعب وأطول مما يعتقد الكثيرون.
المزيد من مقالة
#معركة #تكسير #العظام #صراع #حمدوك #والبرهان #وحميدتي #على #ثروات #السودان
تابعوا Tunisactus على Google News