مقامرة بالأرواح في تونس… القوارب الحديدية تفتك بأحلام المهاجرين
مقامرة بالأرواح في تونس… القوارب الحديدية تفتك بأحلام المهاجرين غير الشرعيين
بحثاً عن الأرخص، تصنع شبكات تهريب البشر الناشطة في تونس قوارب حديدية من أجل نقل المهاجرين غير الشرعيين عبرها إلى أوروبا بكلفة أقل، إذ تنفق مبالغ بسيطة على بنائها مقارنة بالخشبية وتقامر بأرواح تتكدس على متنها.
– تستعيد ذاكرة الصياد التونسي شمس الدين بوراسين باستمرار مشاهد جثث المهاجرين الطافية والقارب الحديدي الذي صادفه خلال عمله صباح 30 سبتمبر/ أيلول 2023، بعدما انطلق من شواطئ مدينة جرجيس الواقعة جنوب شرقي البلاد واقترب من السواحل الليبية، قائلاً: “نصادف قوارب حديدية غارقة مرتين أو ثلاث كل أسبوع”.
وتزايد اعتماد مهربي البشر على القوارب الحديدية في نهاية عام 2021، إذ لا تتجاوز كلفة صناعة القارب الواحد 3 آلاف دينار تونسي (964 دولاراً أميركياً)، فيما تصل كلفة صناعة القارب الخشبي إلى 50 ألف دينار (16082 دولار)، كما أوضح بوراسين، مضيفاً في حديث لـ”العربي الجديد”: “الشكل مشابه من الناحية الهندسية، لكن القوارب الحديدية تصنع من صفائح حديدية ولا تخضع للقياسات التي تمكنها من البقاء على سطح الماء”، وفق إفادة نبيل عمُري، الخبير في صناعة القوارب وعضو جمعية رياضة الغوص والبيئة ببنزرت (أهلية)، مؤكداً لـ”العربي الجديد”، أن الهيكل السطحي للقارب يجب أن يصمم بدقة تحقق التوازن ويكون له رأس بارز في المقدمة يمنع تلاعب الأمواج بالقارب، لكن غياب هذه القواعد والقياسات يجعل القارب عرضة للغرق أكثر من المصنوع من الخشب.
ويروي 10 ناجين استقلوا هذه القوارب بين الفترة من مارس/ آذار وإبريل/ نيسان 2022 خلال محاولتهم الوصول إلى أوروبا، أنها لا تصمد أمام الأمواج بسبب رداءة تصنيعها واستخدام لحام مخصص للنوافذ والأبواب الحديدية وحتى طريقة تثبيته ليست جيدة، فضلاً عن حملها أكثر من طاقتها الاستيعابية، إذ يخصص القارب لـ30 مهاجراً وأكثر من ذلك، بحسب إفادة المتحدث الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (مستقل)، رمضان بن عمر، لـ”العربي الجديد”.
وتعجز القوارب الحديدية عن الصمود أكثر من ساعتين في عرض البحر، على عكس القوارب الخشبية التي تصمد أكثر وربما تصل إلى 6 و7 ساعات، كما يقول مجدي الكرباعي، النائب البرلماني السابق عن حزب التيار الديمقراطي في دائرة إيطاليا، الذي أضاف متحدثاً لـ”العربي الجديد”: “تصعب عملية إنقاذ ركاب القوارب الحديدية، لأنها تفقد توازنها مع ارتفاع الأمواج على عكس الخشبية”.
صناعة عشوائية تتخفى عن أعين السلطات
تنتشر صناعة القوارب الحديدية في العامرة وجبنيانة بولاية صفاقس، وهي مناطق زراعية يسهل التخفي فيها عن أعين السلطات، كما يوضح عماد السلطاني، رئيس جمعية الأرض للجميع (أهلية تعنى بمتابعة الهجرة السرية)، مشيرا إلى أن تلك المناطق تشهد وجوداً كثيفاً لمهاجرين من جنوب الصحراء يعملون عادة في مجال الزراعة من أجل جمع المال للهجرة، وينتشر بينهم سماسرة شبكات تهريب البشر التي تشتري القوارب الحديدية لنقلهم.
ضبط 182 قارباً حديدياً في أربعة أشهر من عام 2023
وتقتضي صناعة القوارب نيل ترخيص من وزارة الفلاحة والصيد البحري وفق شروط محددة، وبالتالي من يصنعون القوارب الحديدية يعملون بشكل غير شرعي ودون تراخيص، كما يقول السلطاني، وهو أمر طبيعي، إذ تبحث شبكات تهريب البشر عن أكبر ربح من عملها والإفلات من الرقابة الأمنية، دون الاهتمام بسلامة المهاجرين، كما يقول بن عمر.
وأغرت سهولة تصنيع تلك القوارب والأرباح الكبيرة التونسي ريان محمد، كما طلب تعريفه للموافقة على الحديث، وأربعة من رفاقه الذين وصلت إليهم معدة التحقيق عبر مصدر من عائلتهم عايش قصتهم في منتصف أغسطس/ آب الماضي، إذ أنشأوا صفحة على موقع “الفيسبوك” لتنسيق جمع المال وشراء مكونات صناعة القارب (صفائح حديدية خفيفة) ودراسة الكيفية التي تمكنهم من الوصول إلى لامبيدوزا الإيطالية، كما يقول الثلاثيني محمد، والذي تولى رفيقه سلامة أحمد (اسم مستعار حتى لا تلاحقه السلطات)، صناعة القارب في منطقة غابية قرب شاطئ مدينة رأس الجبل بولاية بنزرت، شمال تونس، بعد استعانته ببحارة لديهم خبرة في تصنيع القوارب، إضافة إلى الاستفادة من نتائج محرك البحث غوغل حول كيفية صناعة القوارب، مؤكداً أن التحضير لعملية الهجرة استغرقت شهرين.
الحرس البحري التونسي يحتجز قاربا في ميناء بنزرت شمال تونس (العربي الجديد)
وفي غضون أسبوعين تمت صناعة القارب، حسب العشريني أحمد، الذي قال لـ”العربي الجديد”: “بعد تجهيز القارب الذي بلغ طوله 6 أمتار حصلنا على البنزين ومكثنا في غابة منطقة رأس الجبل في بنزرت منتظرين لحظة الانطلاق”.
وفي 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حاول محمد و20 مهاجراً، بينهم امرأة وطفلاها صعود القارب، لكنهم لاحظوا تمايله في الماء، وتوقعوا عدم قدرته على الصمود، مضيفاً أن محاولتهم انتهت بوصول عناصر من الشرطة أوقفت 5 أشخاص منهم ونقلتهم إلى مركز الأمن بمدينة بنزرت وحجزت القارب والبنزين، فيما تمكن هو من الفرار برفقة بعض المهاجرين.
البحث عن الأرخص
يخاطر المهاجرون بحياتهم على القوارب الحديدية غير الآمنة لأنها أرخص وأقل كلفة، إذ يدفع المهاجر لمهربي البشر ألف دينار (316 دولارا)، في مقابل الهجرة إلى أوروبا، فيما تراوح كلفة الهجرة بالقارب الخشبي بين 3 و5 آلاف دينار (964 و1608 دولارا)، حسب ما رصده الكرباعي ومصطفي عبد الكبير، رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان (مستقل)، مشيرين إلى أن عاملين من المرصد وثقا غرق قاربين حديديين قبالة سواحل إيطاليا في بداية أغسطس الماضي وعلى متنهما 76 مهاجراً، فُقد 50 منهم وانتشلت جثث 24 مهاجراً، فيما جرى إنقاذ شخصين، مضيفاً في حديث لـ”العربي الجديد”: “المرصد وثق خلال أسبوع واحد من شهر أغسطس الماضي، غرق 200 مهاجر من تونس وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في ثلاثة حوادث قوارب حديدية وخشبية قرب السواحل التونسية”.
و”يعتبر طريق الهجرة عبر البحر المتوسط انطلاقاً من السواحل التونسية والليبية أكثر طرق الهجرة فتكاً في العالم، إذ لقي 1800 شخص حتفهم أثناء محاولتهم عبور هذا الطريق خلال الفترة من يناير/ كانون الثاني وحتى أغسطس الماضي، ما يمثل زيادة بنحو 900 شخص عن العام الماضي. ويُنقل المهاجرون المتحدرون من جنوب الصحراء الكبرى إلى البحر في قوارب حديدية غير صالحة للإبحار، ومن السهل أن تتفكك وتغرق”، بحسب جمعية شرق غرب للحقوق والحريات (غير ربحية تنشط في قضايا الهجرة والاغتراب بألمانيا)، في أغسطس الماضي.
مهربو البشر يصنعون القوارب الحديدية في مناطق زراعية تخفيا من السلطات الأمنية (فيسبوك)
ضبط مهربين ومصادرة قوارب
خلال الفترة بين 12 مايو/ أيار و15 أكتوبر الماضي، ضبطت قوات الحرس الوطني التونسي 182 قارباً حديدياً تم إتلافها، و295 محركاً بحرياً، معظمها جرى تجهيزه بالمدن الساحلية، خاصة في ولاية صفاقس، بحكم تمركز أغلب مهاجري دول جنوب الصحراء فيها، حسب تأكيد الناطق الرسمي باسم الحرس الوطني حسام الجبابلي لـ”العربي الجديد”، مشيراً إلى مداهمة ورشتين لصناعة القوارب الحديدية وحجز 14 قارباً حديدياً وأعمدة حديدية ومعدات لحام، فضلاً عن مداهمة منزل وحجز محرك بحري ومعدات تستعمل في صناعة القوارب الحديدية، وضُبط في تلك الحملات 48 شخصاً من منظمي ووسطاء عمليات الاجتياز خلسة، وتم التحفظ على 32 شخصاً منهم، فيما أطلق الباقون، وفق الجبايلي.
غرق 1800 شخص أثناء محاولتهم العبور إلى جزيرة لامبيدوزا خلال هذا العام
وتوجه لمصنعي القوارب الحديدية في الورش والمنازل والمخازن غير الشرعية تهم تكوين وفاق يهدف إلى اجتياز الحدود البحرية خلسة، حسب تأكيد فريد جحا، الناطق الرسمي باسم محكمتي المنستير والمهدية، وسط تونس، والناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بصفاقس فوزي المصمودي.
و”يعاقب بالسجن لمدة أربعة أعوام وبغرامة قدرها عشرة آلاف دينار (3216 دولاراً)، كل من تولى إيواء الأشخاص الداخلين أو المغادرين للتراب التونسي خلسة أو مرتكبي الجرائم المنصوص عليها بهذا الباب أو خصص مكاناً لإيوائهم أو إخفائهم أو عمل على ضمان فرارهم أو عدم التوصل إلى الكشف عنهم أو عدم عقابهم، ويعاقب بالعقوبة نفسها المنصوص عليها بالفقرة المتقدمة كل من وفر وسيلة نقل مهما كان نوعها بهدف ارتكاب الجرائم المقررة بهذا الباب أو المساعدة على ارتكابها”، بحسب الفصل 39 من القانون رقم 40 لسنة 1975 والمتعلق بجوزات السفر ووثائق السفر. وينص الفصل 44 من القانون ذاته على أن “يكون العقاب بالسجن مدة عشرين عاماً وبخطية قدرها مائة ألف دينار (32.164 دولار)، إذا نتج موت عن الجريمة”، وفق تأكيد جحا لـ”العربي الجديد”.
سياسة ردعية غير فعالة
على الرغم من الحملات الأمنية للحد من صناعة القوارب الحديدية، إلا أن تشديد القبضة الأمنية غير كاف، بحسب السلطاني، الذي عاين وجود مائة قارب حديدي في جزيرة لامبيدوزا نجح أصحابها في الوصول بها من تونس، مشيراً إلى أن هذه القوارب ستظل تصنع طالما أن الطلب متزايد على الهجرة، ويطالب بإيجاد حلول جذرية للمهاجرين بعيداً عن السياسة الردعية للسلطات القائمة فقط على اعتراض القوارب وحجز بعضها، لأن هذا النهج لن يوقف نزيف الأرواح بسبب الهجرة السرية.
الحرس الوطني التونسي يضبط قوارب في ورش تصنيع بولاية صفاقس (فيسبوك)وحول الحلول الممكنة، يقول: “لا بد من تكوين لجنة من المجتمع المدني وممثلين عن الدولة للنظر في الأخطاء التي أدت إلى استخدام المهاجرين قوارب الموت تلك والبحث عن حلول تحترم المواثيق الدولية وحقوق الإنسان، وهذا لا يكون إلا من خلال الهجرة المنظمة عبر اتفاقيات وتشارك المسؤوليات”.
وبالإضافة إلى ما سبق، يشدد بن عمر على ضرورة تكثيف الرقابة وقطع وصول الإمدادات والمواد المستخدمة في صناعة القوارب الحديدية مثل صفائح الحديد الخفيف واللحام، كما شدد على أهمية توعية المهاجرين بخطورة هذه القوارب التي لا تصلح للإبحار، وبالتالي عليهم الامتناع عن المجازفة بأنفسهم وبأطفالهم ورفض الصعود فيها لأن مصيرهم الموت.
#مقامرة #بالأرواح #في #تونس.. #القوارب #الحديدية #تفتك #بأحلام #المهاجرين
تابعوا Tunisactus على Google News