من الحقول والجبال إلى تخوم المدينة.. لماذا يأتي الإسلاميون من الهامش؟
لم تكن آخر طائرة جوية لإجلاء الجنود الأميركيين عن أفغانستان قد أقلعت بعد، حين اجتاحت قوات طالبان المقاطعات الإدارية الصغيرة والمراكز الإقليمية ودخلت العاصمة “كابل” واستولت على مقاليد الحكم بعد 20 عاما من الاحتلال الأميركي. وقد تزامن هذا الصعود السريع لحركة طالبان، التي أعلنت إمارتها الإسلامية الأولى عام 1996، مع الهزيمة المدوية التي حاقت بحزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بسبتمبر/أيلول الماضي، إذ خسر الحزب ذو الخلفية الإسلامية والمحسوب على الإسلام السياسي جُلَّ مقاعده التي احتفظ بها عشر سنوات، وهبط من المرتبة الأولى إلى الثامنة فحاز 12 مقعدا فقط.
أتت هذه المفارقة في سياق تراجع تيار “الإسلام السياسي” ومحاصرته ونزع شرعيته، وانتصار الثورات المضادة في أغلب البلاد العربية. غير أن صعود طالبان الذي بدا استثناء بعيدا جغرافيا وخارج السياق العربي بالكامل ما هو في جوهره إلا حلقة جديدة من موجات صعود وأفول “الإسلاميين” في العالم الإسلامي كله منذ إعلان سقوط “الخلافة” وظهور التيارات الوطنية ذات المرجعية الإسلامية، حيث تتشابه أغلب حلقات وموجات صعود الإسلاميين في كونهم قد أتوا من خارج المدن، ومن خارج دوائر أعيانها ونُخبتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وحتى إن كان بعض “الإسلاميين” قد وجد لنفسه موضع قدم ثقافي أو اقتصادي بالمدينة، فإنه يظل خارج دوائر نُخبتها المرتبطة بالدولة. فما سبب هذه الحرب المشتعلة لما يزيد على قرن من الزمان بين الدولة وبين الإسلاميين؟ وهل يُعبِّر صعود الإسلاميين عن أزمة حضرية بالعالم الإسلامي؟
الجذور التاريخية للإسلام السياسي
في منتصف القرن التاسع عشر، وتحديدا عام 1857، وقع تمرُّد عسكري للجنود المسلمين في مدينة “ميروت” شمال الهند، وأدى التمرد إلى واحد من أهم الأحداث في تاريخ الهند الحديث، إذ اندلعت ثورة عارمة ضد السلطات البريطانية بعد أن انضمت حامية العاصمة دلهي إلى المتمردين واستولتْ عليها، وأعلن الجنود المتمردون ولاءَهم للشاه “بهادُر الثاني”، آخر سلاطين الهند من المغول. ثمَّ تمدَّدت الثورة وانضمَّ إليها الملايين من المسلمين والهندوس الذين عانوا من السيطرة البريطانية على مقدرات بلادهم، ومن “التغريب” الذي أجراه الإنجليز للمناهج التعليمية والعمران وشكل الحياة الذي عرفوه لمئات السنين، فضلا عن النشاط المكثَّف للجمعيات التبشيرية المسيحية المحمية بشكلٍ غير مباشر بالاحتلال الإنجليزي. (1)
شهدت الأسابيع الأولى انتصارات للثوار، وهزائم للحاميات الإنجليزية في البلاد، وهجمات مسلحة ضد الإنجليز وعملائهم والأجانب عامة، لكن ما لبثت الأمور أن انقلبت لصالح الإنجليز بفعل سوء تنظيم صفوف الثوار من جهة، ووصول الإمدادات البريطانية من جهة أخرى، فأعاد الإنجليز احتلال العاصمة دلهي في سبتمبر/أيلول 1857، وأجبروا الشاه “بهادُر الثاني” على التنحي مقابل الحفاظ على حياته، وبذلك انتهت رسميا إمبراطورية مغول الهند. وخلال العامين التاليين، كان الإنجليز قد أتمُّوا قمع الثورة، وأجروا محاكمات انتقامية راح ضحيتها الآلاف من المسلمين المشاركين والمتعاطفين مع الثورة، لا سيما في دلهي. (1)
لم تكد صفوف مسلمي الهند تستوعب الصدمة جراء فشل الثورة وما لحق بالثوار من إعدامات وتعذيب حتى أعلنت بريطانيا احتلالها المباشر للهند عام 1858 بعدما كان الاحتلال بالوكالة قبل ذلك عبر “شركة الهند الشرقية”. ولذا، اختار العديد من علماء الدين المسلمين بالهند، الذين شارك عدد منهم في القتال ضد الإنجليز خلال الثورة، تجنُّب الصدام المباشر مع القوات البريطانية، وانحازوا إلى خيار الاستعداد طويل المدى للحفاظ على الدين بنشر العلم الشرعي، لا سيما في صفوف الأجيال الجديدة، ومن هنا جاءت فكرة تأسيس مدرسة دار العلوم بمدينة “ديوبند” الصغيرة، الواقعة في ولاية “أوتاربرادِش” الهندية. (1)
كان من أهم البنود التي تضمَّنها ميثاق المدرسة/الجامعة ألا تأخذ أي مساعدة أو معاونة من الحكومة، سواء كانت الحكومة مسلمة أو غير مسلمة، وإنما اعتمدت على تبرعات المسلمين فقط. وبجانب تعليم العلوم الشرعية التقليدية، نشطت المدرسة وطلابها في عدد من الأعمال الاجتماعية والخيرية مثل بناء المستشفيات وإعانة الأرامل والمحتاجين وبناء المقابر. كما انبثق عن المدرسة الديوبندية مدرسة “ندوة العلماء” في “لَكنَو” بالهند، التي ينتسب إليها العالم الديني الشهير أبو الحسن الندوي صاحب كتاب “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟”.
وقد تزامن رحيل الاستعمار الإنجليزي مع أزمة سياسية بين شِقَّيْ الشعب الهندي: الهندوس والمسلمين، انشقت على إثره “باكستان” عام 1947. وقبل ذلك الانشقاق وظهور دولة “باكستان”، كانت المدرسة الديوبندية قد توجَّهت للتصدي للتيارات العلمانية الحديثة، مثل الشيوعية والماركسية والليبرالية. وفي تلك الأثناء، وتحديدا بين عامَيْ 1937-1941، برزت أفكار “أبو الأعلى المودودي” الذي تحدَّث في كتبه عن “الحكومة الإسلامية” و”منهاج الانقلاب الإسلامي”، والطريق الذي يجب أن يسلكه كل مسلم يشعر بالمرارة بعد أن أصبح “محاصرا” من جميع الجهات: فالحكم والسيادة بأيدي الإنجليز، والحكم المستقبلي ذاهب في طريقه للهندوس الوثنيين.
كان الحل الذي طرحه المودودي لمشكلة المسلمين بالهند هو أن يصبحوا مسلمين أفضل، وأن ينبذوا أي نفوذ هندي أو غربي أو علماني. وعزَّز ذلك الطرح حدث آخر زاد ذلك الشعور العميق بالمرارة، إذ كان تقسيم شبه القارة الهندية والهجرة إلى باكستان من الأحداث الصادمة للمسلمين، حيث اقتُلعت عائلات وأحياء كاملة من الهند ونُقلت إلى باكستان، فأضحى كل هؤلاء أغرابا وشبه لاجئين في الدولة الجديدة، ولم يجدوا حاضنات مجتمعية تواسيهم جراء ما عانوه سوى المدارس والجماعات الإسلامية. (2)
هاجر المئات من علماء وطلاب الديوبندية إلى باكستان الوليدة، وأنشأوا هناك العديد من المدارس الإسلامية على نمط المدرسة الأم نفسها، وإن لم يكن تحت إشرافها الإداري والمالي. وتمددت تلك المدارس إلى أفغانستان، حيث خرجت حركة “طالبان” من رحم المدارس الشرعية “الديوبندية”، لتحمل الإرث الثقافي المُعادي للنظم العلمانية نفسه، والهادف لإقامة حكم إسلامي.
على الجانب الآخر، كان كلٌّ من أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي معاصرين للشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر الذي تعرَّف أثناء الحج إلى أفكار المدرسة الديوبندية وروافدها وبعض تلاميذها، (3) وقد عرف أبو الحسن الندوي بنشاط حسن البنا، لكن لم تتسنَّ له مقابلته، ولم يزر الندوي مصر إلا عام 1950 بعد رحيل البنا، لكنه اتصل بتلاميذه اتصالا وثيقا كما كتب في مقدمته لكتاب “مذكرات الدعوة والداعية”. (4)
لكن تأثير أفكار المودودي والندوي لم يظهر بوضوح في المشرق العربي إلا مع المفكر الإسلامي الأبرز بعد وفاة البنا، وهو سيد قطب، الذي أعاد استخدام “حالة الحصار” التي استدعاها المودودي في كتاباته الأولى، ومفهوم “الحاكمية” المستمد تاريخيا من حركة الخوارج ونظريا من الشريعة الإسلامية. وجوهر مفهوم “الحاكمية” عند المودودي والندوي وقطب هو أن شرع الله وسيادته لا يمكن أن ينافسهما أي حاكم أو نظام دنيوي، وفي حالة سيادة أي نظام علماني دنيوي، يدخل العالم في حالة من “الجاهلية”، وبينما توخى المودودي الحذر في استخدام صفة “الجاهلية” وإسقاطها على المجتمعات المسلمة، أعاد الندوي ثم قطب المتأثر به استخدام المصطلح بتوسُّع. (5)
لم يكُن التشابه بين مسيرتَيْ التيار الإسلامي في شبه القارة الهندية والمشرق العربي تشابها في سياقات الظهور وظروف الاحتلال الإنجليزي فحسب، ولا حتى مجرد تشابه في الأفكار التي أنتجت طالبان هناك والتيار القطبي هُنا، بل إن التشابه أعمق من ذلك، فهو تشابه في البيئة والتكوين وحتى التشكُّلات الاجتماعية.
الجذور الاجتماعية للإسلام السياسي
في رحلته إلى أفغانستان بعد استيلاء طالبان على العاصمة كابل وإعلان الإمارة الإسلامية وقبل الغزو الأميركي، رصد الكاتب المصري فهمي هويدي حقائق مثيرة للانتباه عن طالبان، كان أهمها أن “نسبة غير قليلة من قيادات حركة طالبان والأغلبية الساحقة من قواعدها حديثة العهد بحياة المدينة، ومنهم مَن دخل كابل لأول مرة في حياته.. الأمر الذي يُجيز لنا أن نقول إن أغلب قياديي حركة طالبان انتقلوا من المدرسة في القرية إلى ميدان الجهاد، ومن الميدان إلى السلطة”. (6)
الملاحظة الثانية هي أن أغلب قادة حركة طالبان وقواعدها “جاءوا من ثلاث مقاطعات متجاورة في جنوب أفغانستان الملاصق للحدود الباكستانية. وهذه المقاطعات هي قندهار وزابول وأوروزجان، والمثلث برمته يُعَدُّ من المناطق الأفغانية المُتخلفة والبسيطة على المستويين العمراني والثقافي، والمقطوعة الصلة بالعالم الخارجي، الأمر الذي يعني أن أبناء هذه المناطق حينما ذهبوا إلى كابل محاربين وفاتحين أو حكاما، فإن القرية التي عاشوا فيها كانت النموذج المستقر في إدراكهم وأعماقهم”. (6)
أما الملاحظة الثالثة التي ذكرها هويدي فهي أن “من الأسباب التي أطلقت حركة طالبان، أن بعض قادة الفصائل الجهادية أساءوا التصرف بعد انسحاب القوات السوفيتية وانتهاء الحرب ضدها. ونسبت إليهم مفاسد عدة بعضها يمس الأخلاق والأعراض، ويبدو أن تلك المفاسد تجمعت وشاعت بدرجة أكبر في كابل، الأمر الذي أثار لغطا في أوساط المجتمع الأفغاني المحافظ بطبيعته، واستفز شرائح المتدينين بوجه أخص”. (6)
المثير للتأمل أن الملاحظات الثلاثة تنطبق على صعود الحركات الإسلامية في البلاد العربية بشكل أو بآخر، حيث قامت الحركات الإسلامية على تحالف فضفاض من فئات الطبقات الوسطى الجديدة بالمدن، خاصة طلبة الجامعات الذين شكَّلوا العمود الفقري لتلك الحركات، بجانب الموظفين الصغار والحرفيين، وقد زاد ظهور نشاطهم بشكل ملحوظ في سوريا وإيران التي قاد فيها موظفو الطبقة الوسطى والطبقة العاملة الإضرابات مثل إضراب عمال النفط في إيران عام 1978. (7)
عبَّر صعود الإسلاميين من قلب تلك الفئات من الطبقات الوسطى المدينية عن سعيهم لتأكيد هوية ثقافية مغايرة للدولة وتسعى للاستقلال عنها. وقد وضَّح “ليونارد بيندر”، عالِم السياسة الأميركي، هذه السيرورة بإيجاز قائلا: “إن صعود الإسلام بمعنى ما هو بُعد أيديولوجي لحركة تقييد سلطة الدولة، وهي حركة تشكَّلت من الفئات البرجوازية، وبعض الفلاحين الرأسماليين.. والأفراد الكادحين الذين يعملون في جهاز الدولة من البرجوازية الصغيرة، وعناصر المتعلمين العاطلين عن العمل، والطلاب.. رغم أن المنافع التي تعود على هذه الشرائح من إضعاف جهاز الدولة، أو من الحصول على حصة أكبر من النقود داخلها، ليست متوافقة”. (7)
لقد جسَّد صعود الحركات الإسلامية بالمدن أزمة اقتصادية وعمرانية وحضرية أعمق بالمجتمعات العربية، فمنذ بداية القرن التاسع عشر تعرَّض الفلاحون المصريون لأشكال من الاستغلال، كان أقساها سياسات الاحتكار التي فرضها محمد علي عام 1812، إذ منعت الدولة البيع المباشر للمحاصيل إلى التجار وصادرت إنتاج الحبوب، بما في ذلك المحاصيل المخصَّصة لاستهلاك الفلاحين الشخصي. كما زادت الضرائب من نحو 7 ملايين قرش خلال الحملة الفرنسية عام 1798 إلى 66 مليون قرش عام 1822، بجانب إجبار الفلاحين على العمل المجاني للدولة، فكان على الفلاح المصري أن يعمل شهرين كل سنة في المتوسط لحفر القنوات والأنهار وحراستها وتقويتها وتنظيف مياهها. (8)
ولأن حصة مالك الأرض كانت تتحدَّد مُقدَّما، جعل ذلك حصة أجور الفلاحين ثابتة ومتفقا عليها سلفا وتُقسم على عدد المشتغلين في المواسم الزراعية زادوا أو قلوا. فكلما زاد عدد العاملين بالأرض قلَّ أجرهم الذي هو أجر زهيد في الأساس، وغالبا ما كانت الأجور للفلاحين غير المقيمين بالأرض فقط، أما المقيمون فكانوا يعملون مقابل إقامتهم أو زراعة قطعة صغيرة من الأرض يأكلون محاصيلها. ومع بداية القرن العشرين كان “كل فلاحي المشرق عمليا يئنون من الديون الباهظة التي يجب تسديدها إلى مالك الأرض وبقال القرية وشتى أنواع المرابين”. ولم يكن الوضع أفضل حالا بالمدن، ففي عام 1810، أمر محمد علي كل عمال ومعلمي البناء والنجارين والعاملين في الأحجار بالعمل في مشاريع الدولة حصرا ومنع أي نشاط إنشائي خاص بهم، بما في ذلك أعمال الصيانة. (8)
وفي عام 1821 مُنِع الأفراد من ممارسة أي نشاطات حياكة، كما مُنِع الفلاحون من صناعة الأسرَّة من عيدان القصب، ومن ثم من صناعة السكر، فضلا عن جملة من النشاطات الأخرى، وقد بدأت الدولة في لعب دور أبوي تمثَّل في إنشاء مشروعات حكومية عملاقة، في حين اضطرت طوائف الحِرَف إلى شراء ما تحتاج إليه من المواد الخام من الدولة وبيع المنتجات لها. (8)
مرَّت المجتمعات العربية كافة بأوضاع مماثلة خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، إذ سادت أوضاع ريفية قاسية في مصر وشمال أفريقيا والشام. أما طوائف الحِرَف بالمدن فزاد ارتباطها بسلطة الدولة، وبالتجار الأجانب الذين حظوا بامتيازات قانونية وتجارية. ومع التحوُّل المتزايد للنشاط الزراعي نحو إنتاج محاصيل تجارية للسوق العالمية مثل القطن، صار مالكو الأراضي والمقاطعات يعتصرون كل ما أمكن أخذه من فائض الفلاحين، ولم يعد أمام الفلاحين مصدر للعيش سوى البحث عن عمل موسمي أو عارض في الريف، أو الهجرة للمدن بحثا عن مصدر جديد للعيش. (8)
بيد أن المدن لم تقدر على استيعاب كل هؤلاء المهاجرين من الريف. ومن ثمَّ وجد المهاجرون الجدد أنفسهم داخل المدينة وخارجها في الوقت ذاته، فقد سعوا لأجل فرص عمل ضئيلة وعاشوا حياة صعبة وقاسية من جهة، ومن جهة أخرى لم يستطيعوا الدخول إلى أي شبكة اجتماعية تحميهم، خاصة بعد تفكُّك روابطهم الاجتماعية الريفية. وتزامن ذلك مع تعرُّض قيمهم وثقافتهم المحافظة للهجوم المستمر داخل المدينة؛ الأمر الذي جعلهم ينسحبون إلى مساكن على تخوم المدينة، مبتعدين عمَّا لم يألفوه، ومحاصرين المدينة في انتظار لحظة هجوم مواتية.
الجذور الاقتصادية للإسلام السياسي
عندما استقر العرب في مصر، فضَّلت القبائل الشمالية البدوية الاستقرار في صعيد مصر لتشابه البيئة والمناخ، بينما فضَّلت القبائل العربية الجنوبية التي اشتغلت بالزراعة الأراضي الخصبة في دلتا مصر، فأخذ البدو العرب إلى الصعيد عاداتهم وتقاليدهم وكانوا أكثر مقاومة للاختلاط مع السكان الأصليين من أقربائهم في الشمال. وكان التمييز بين العرب و”الفلاحين” تمييزا شائعا، وحتى بعدما تصاهرت القبائل العربية مع الفلاحين، وصلت موجة جديدة من القبائل العربية فصار الترتيب الاجتماعي في الصعيد ذا قمة تحتلها قبيلة الهوارة العربية، ثم باقي العرب، ثم الفلاحين المسلمين، ثم الفلاحين المسيحيين. (9)
مع مرور الوقت أهملت الحكومات المختلفة الصعيد ضمن برامجها التنموية، فبقيت البنية الاجتماعية القديمة على حالها لفترة طويلة، لكن ذلك الوضع انهار في منتصف القرن التاسع عشر، لا سيما في المدن وعلى الأخص مدينة أسيوط، التي انتعشت فيها طبقة تجارية نتيجة تجارة الإبل والحبوب والتوابل. كما ظهرت الصناعات الحِرَفية المزدهرة مثل النحت على العاج والأشغال الخشبية وصنع الأثاث من الخيزران ونسج السجاد الصوفي بين مصر والسودان، اللذين توطدت علاقتهما الاقتصادية تحت الاحتلال البريطاني. (9)
لكن رويدا رويدا زادت نسبة التجار المسيحيين بجنوب مصر، الذين تمكَّنوا بموجب القوانين الجديدة الصادرة في منتصف القرن التاسع عشر من شراء الأراضي وأرسلوا أبناءهم إلى العديد من المدارس الجديدة التي أنشأها الأقباط المسيحيون أنفسهم، وأنشأتها كذلك البعثات التبشيرية. وشهدت مصر تدفُّقا كبيرا من البعثات التبشيرية البروتستانتية الأميركية إلى مدينة أسيوط، والبعثات الكاثوليكية إلى مدينة طهطا، في تلك الفترة لدرجة أزعجت بشدة بطريرك الأقباط الأرثوذكس. (9)
كما وسَّع هؤلاء الأقباط أنشطتهم التجارية في جميع أنحاء البلاد مستخدمين شبكة المهاجرين الأقباط الدائمين والمؤقتين وصولا إلى القاهرة والإسكندرية، وكانت نتيجة هذه التغيرات تَحلُّل شبكة العلاقات القديمة والبنى الاجتماعية القائمة عليها، فزادت مجتمعات التجارة الخارجية خاصة اليونانيين في صعيد مصر، حيث انخرطوا في تجارة القطن وأعمال التصدير، وجلبوا معهم نمط حياتهم الخاص بما في ذلك المطاعم والمقاهي والحانات. هذا وفضَّل رجال الأعمال الأوروبيون والتجار اليونانيون التعامل مع الأقباط. (9)
لقد اتضح أن المدينة تغيرت تغيُّرا سريعا ومن ثمَّ تغيَّرت التراتبية الاجتماعية التقليدية: لم يعد العرب ذوي هيبة واعتبار، حتى الشعور بالأفضلية لكونهم مسلمين لم تعد له أهمية كبيرة. وكانت أسيوط مثالا على تغيُّرات مماثلة في جبل لبنان والعراق والسودان والجزائر وتونس، إذ تعرَّضت الروابط الاجتماعية للتفكك بسبب صعود نخب تجارية جديدة ارتبطت بالتجارة مع الأجانب، وكذلك بسبب نظام المقاطعات الزراعية مثل “العِزَب” في مصر، الذي فكَّك روابط القرابة، ومن ثمَّ دفع الفلاحين ليهاجروا إلى المدن. (10)
بمجرد وصول الفلاحين إلى المدن، فإنهم وجدوا أنفسهم وحيدين في قارعة الطريق، إذ امتلك ملاك الأراضي ورجال الأعمال شبه الإقطاعيين معظم المصالح التجارية والمصانع والورش، في حين تراصت طوائف الحِرَف في جماعات لها أحياؤها الخاصة وولاءاتها التي تكوَّنت على حسب مصالحها التجارية. فمثلا “كانت صناعة الأحذية وتصليحها بأيدي اليونانيين والأرمن والمالطيين، وتجارة الصموغ في أيدي اليهود والسوريين، فيما احتكر اليهود الخياطة والمالطيون السباكة والأرمن التصوير الفوتوغرافي”. (10)
اتسم نظام الطوائف الحِرَفية نفسه بشكل هرمي، فبدأ بشيخ الطائفة وانتهى بالمتدربين، مما أتاح للطامحين أن يحاولوا التدرُّج في المواقع، واستند التدرج غالبا إلى المهارة لا الوراثة. لكن مع صعود النخب التجارية الجديدة وتغيُّر الأذواق وافتتاح قناة السويس، فقدت مدن وبلدات بأكملها على حين غرَّة أهميتها التي تمتَّعت بها طيلة قرون، فيما تزايدت أهمية مدن وبلدات أخرى واستفاد تجار كُثُر جرَّاء ذلك. هذا وخسر معظم الحرفيين وتصاعدت ثروات التجار المرتبطين بالتجارة البحرية صعودا صاروخيا. (10)
مع إغراق الأسواق العربية بالمنتجات الأجنبية التي جلبتها التجارة البحرية، تعرَّضت عشرات الحِرَف للانقراض والإبادة وظهرت حِرَف جديدة، في حين لم يُبدِ التجار المحليون أي محاولة لإنقاذ الحِرَف أو تطويرها إلى مستوى صناعي يؤهلها لمنافسة السلع الواردة. وقد اتسع نطاق آثار هذه التغييرات الاجتماعية في أغلب مدن البلاد العربية، إذ بدأ أصحاب الصناعات الحرفية البحث عن موقع اجتماعي جديد في المدينة وعن واجهات هوياتية جديدة في النقابات العمالية والطرق الصوفية إلى جانب الانتماء للنضال الوطني ضد الاستعمار.
مع الإعلان عن سقوط الخلافة عام 1924 وانتشار الحملات التبشيرية وزيادة مظاهر الفساد والانحلال الأخلاقي بالمدن، زادت أعداد المنتمين للجمعيات والجماعات الإسلامية بالمدن خاصة جماعة الإخوان المسلمين، التي سعت منذ ثلاثينيات القرن العشرين إلى احتلال مكانة اجتماعية بالمدن خاصة القاهرة والإسكندرية، وملء الفراغ الذي تركه حزب الوفد، الذي مَثَّل مصالح كبار ملاك الأراضي. كما سعى الإخوان لإزاحة الحركة اليسارية وإيجاد موضع قدم بين العمَّال، إذ أسسوا عام 1946 مصنع نسيج لهم أطلقوا عليه “شركة غزل ونسيج الإخوان المسلمين” بقصد حماية أعضاء الجماعة من البطالة، وإثبات نجاعة المبادئ الإسلامية في إدارة المنشآت الصناعية، وكان على كل عامل أن يشتري سهما واحدا على الأقل بحيث لا تنشب صراعات بين العمال والإدارة. (11)
عمل الإخوان على ترسيخ مبادئ التضامن بالمدن من خلال تأسيس الجمعيات الخيرية والمستشفيات الأهلية، غير أن العامل الأهم في إكساب الإخوان مكانة اجتماعية هو السبل التي أتاحوها لتفريغ مشاعر الانتقام لدى المتضررين من التجارة الأجنبية التي نزعت مصادر رزقهم ودمَّرت حِرَف آبائهم، فهاجم الإخوان وذراعهم العسكري الشركات والمصانع التابعة للقوى الأجنبية. وقد تكوَّن الذراع العسكري للإخوان من الحرفيين وبعض الطلبة والموظفين الصغار، وأبدى رئيس محكمة الشعب الذي حكم على أعضاء “الجهاز السري” للإخوان المسلمين سخريته من خلفياتهم الاجتماعية قائلا: “يعني الحمد لله كل الجهاز السري خردواتية وسمكرية وموظفين في الدرجات الصغيرة، مالقتش مهندس ولا واحد مدير إدارة”. (11)
وقد أشار نزيه الأيوبي في كتابه عن الإسلام السياسي إلى تأثير رؤية الإخوان “لمجتمع إسلامي عادل يقوم على أساس اقتصاد أخلاقي قوي تأثيرا كبيرا في العمال الذين وصلوا مؤخرا إلى القاهرة ومنطقة القناة والمراكز الحضرية الأخرى (الذين) انفصلوا عن شبكاتهم الاجتماعية الريفية ما قبل الصناعية وواجهوا النظام الصارم للانضباط الصناعي الذي بدا أنه واقع تحت هيمنة قيم وقواعد أوروبية.” (11) كما أغرت هذه الرؤى أيضا الحرفيين والمهنيين المستقلين الذين تعرَّضت أسواقهم وموارد رزقهم للهجوم من سلع الإنتاج الرأسمالي. وقد وصل ذلك الحراك إلى ذروته مع حريق القاهرة في 26 يناير/كانون الثاني 1952، إذ احترق خلال ساعات قليلة نحو 700 محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب ونادٍ في شوارع وميادين وسط المدينة.
الدولة القومية واختلال آليات الصعود الاجتماعي
بعد صعود تنظيم الضباط الأحرار إلى السلطة عام 1952، لم يتغير الوضع الاقتصادي بشكل كبير في المدن البعيدة عن العاصمة خاصة مدن الصعيد، إذ كانت حركة التصنيع بسيطه جدا في أسيوط، لكن في عام 1957 تأسست جامعة أسيوط، وأصبح حضور الدولة أكثر وضوحا. وبسبب عدم حدوث أي توسُّع صناعي بالتزامن مع تضاؤل دور أسيوط التجاري القديم، شعر الشباب بإحباط طموحاته في الترقي الاجتماعي، كما رأى العديد من الأقباط المسيحيين أن امتيازاتهم تقلَّصت تدريجيا. (11)
كان الضباط الذين خرجوا أساسا من رحم التيار الوطني الإسلامي، الذي هيأ لهم مساحات للتثقيف وقام بتعبئة المجتمع والرأي العام كله ضد الاستعمار وأذرعه الاقتصادية والثقافية، قد انقلبوا ضده بعدما قفزوا إلى أعلى السلم الاجتماعي وحازوا شعبية جارفة بفضل الجهد النضالي الذي بذلته فئات المجتمع خاصة الطبقات الوسطى وصغار الموظفين. بيد أن هؤلاء سرعان ما وجدوا أنفسهم قد فقدوا فجأة كل مكتسباتهم لصالح فئة صغيرة من الضباط باتت تسيطر على كل شيء، وتتهم القوى النضالية بالرجعية والتخلف.
بل إن الدولة البعثية والناصرية والبورقيبية وغيرها من الجمهوريات العربية قد عملت على إعادة رسم خطوط الحراك الاجتماعي، فاستعان عبد الناصر بفئات جديدة من الفلاحين وصغار الموظفين والضباط والأعيان لبناء جهاز بيروقراطي، بينما استعان النظام البعثي بفئات من الطوائف المذهبية والضباط، وصادرت الدولة ممتلكات الإسلاميين وأموالهم وأعادت توزيعها على أعضاء جهازها البيروقراطي والأمني. هذا وبقي الصعيد وغيره من مناطق مُهمَلا كما هو، دون أي اهتمام من الدولة. (11)
بيد أن هذه الصيغ الجديدة من الحكم لم تستطع الحفاظ على مسيرة التنمية المستقلة التي وعدت بها، ولا حتى الوفاء بوعودها في توفير حياة كريمة لجميع المواطنين. وتزامن ذلك الفشل التنموي مع تضخُّم الجهاز البيروقراطي والأمني للدولة، وزيادة ملامحه العلمانية المعادية للثقافة الإسلامية في بعض الحالات (مثل تونس) وسعيه لفرض هيمنته على الثقافة الدينية نفسها بدمج الإسلام وتأميم مؤسساته في حالات أخرى (مثل مصر)، ما أدى إلى ظهور موجة أخرى من الإسلاميين أشد نقما على الدولة وسلطتها.
في الوقت نفسه، شهد محيط القاهرة عامة وتخومها خاصة مستويات غير مسبوقة من الهجرة الكثيفة أثناء الستينيات. ولم يتعرض هؤلاء المهاجرون وأُسرهم لخطر “الانحلال الأخلاقي” بالمدينة فحسب، بل وزادت الطين بلَّة ظروف السكن ومرافق الصرف الصحي وخدمات النقل المزرية، مما فاقم شعورهم بالغربة والنقمة على المدينة والدولة. وقد ساد في صفوف أغلب المهاجرين الاتجاه إلى الإسكان العشوائي والمرافق غير المخطط لها، فقد شكَّلت المساكن العشوائية نسبة 84% من المنازل الجديدة التي بُنيت في القاهرة بين عامَيْ 1970-1981، وشكَّلت المباني على الأراضي غير المسجلة نسبة 56% من البنايات الجديدة. كما مثَّل المهاجرون نحو ثلثي سكان الأحياء الحضرية وأتوا أساسا من المنوفية ومحافظات صعيد مصر. (11)
انقسم سكان هذه المناطق العشوائية من المهاجرين إلى قسمين: القسم الأول البروليتاريا الرثة، وهي شرائح محرومة اقتصاديا بشدة بسبب انهيار نظام دعم الأسرة، ولأنهم لم يمارسوا أي دور إنتاجي في المجتمع، ودفعوا دفعا إلى حياة الذل والجهل، وعملوا باعة متجولين وسائقي عربات كارو وعمال يومية في مجال البناء ودباغين وسباكين وحدادين وميكانيكيين وجامعي قمامة وخدم وغفراء في المكاتب الحكومية والمصانع والمنازل، كما عملت زوجاتهم خادمات أو عاملات لغسيل الملابس أو بائعات خضار. (11)
وقد خرجت من بين هذه الشرائح العصابات العنيفة وقطاع الطرق في المناطق الحضرية، وأثارت أعمال الشغب والنزاعات، وانغمست في المخدرات وشرب الخمر والسلوك الجنسي المنحرف، وعلى الرغم من أنهم انضموا أحيانا إلى الانتفاضات الجماهيرية مثل انتفاضة الخبز في مصر عام 1977، فإنهم افتقروا إلى الوعي ولجأوا للعنف وأمكن بسهولة التلاعب بهم من قبل القوات الحكومية. ففي السنوات الأخيرة، ومنذ عام 2005، استخدم النظام المصري تلك الفئات بوصفها “بلطجية” لمهاجمة التظاهرات والاعتصامات السلمية.
أما القسم الثاني فهم الموظفون البسطاء والموظفون المدنيون والنساخون والمحاسبون الصغار والجنود والمعلمون ورجال الدين وسائقو سيارات الأجرة وسائقو الشاحنات وصغار التجار والعمال المهرة، وعادة ما تزوجوا بنساء غير عاملات وأنجبوا العديد من الأطفال، وشكَّلوا شرائح مجتمعية محافظة مكوَّنة عادة من أفراد يكافحون جاهدين لتحسين أوضاعهم والارتقاء اجتماعيا، أو يخافون بشدة من الانحدار نحو الطبقات الأدنى. (11) هذا ويشترك هؤلاء جميعا في الشعور بالغربة والنظر إلى فساد المدينة وتحللها الأخلاقي على أمل هزيمة الدولة التي يعمل رجالها -في نظرهم- على سرقة قوتهم وأرزاقهم.
من بين كل هؤلاء يبرز طلبة الجامعات ممن لديهم شعور أقوى بالاستحقاق الاقتصادي والاجتماعي، إذ رأوا كيف بذلت عائلاتهم تضحيات هائلة لتمكينهم من الحصول على التعليم العالي في إحدى الجامعات الكبيرة، على أمل أن الشهادة الجامعية سوف تُحسِّن حظوظهم، لكنها في معظم الأحيان لا تفعل فيصبح هؤلاء عاطلين عن العمل أو عاملين في وظائف رديئة مقابل أجور ضئيلة. وقد عانت العائلات المنتقلة إلى المدينة أيضا من تدهور مستويات المعيشة الناتج عن الازدحام والحالة السيئة للمرافق ووسائل النقل والسكن. ثمَّ بات هذا الوضع أكثر إيلاما بالنسبة للطبقة الوسطى الدنيا المحدودة ماليا، إذ وجدت نفسها مجبرة على العيش على حافة الانتقال إلى طبقة البروليتاريا الرثة دون أي دور أو حماية من الدولة.
في ظل هذه المعطيات، لم يكن غريبا أن أتى سيد قطب وشكري مصطفى وكثير من أعضاء الحركات الإسلامية بكل أطيافها من مناطق الصعيد لا سيما أسيوط، وغيرها من مناطق تنامى فيها هذا الشعور بالقلق والغربة والحصار، إذ رأوا بأعينهم مظاهر الاضطهاد والظلم الاجتماعي والثقافي، وانسدت بوجوههم طرق الترقي الاجتماعي التي شعروا دوما أنهم يستحقونه.
الإسلام السياسي: الجذور الباقية
رغم ذلك، لا يمكن الجزم بأن صعود الإسلام السياسي بجميع تشكُّلاته كان نتيجة الأزمة الحضرية دون غيرها. فهناك كذلك أزمة هوياتية وثقافية تفاعلت مع تلك الظروف الاجتماعية، تمثَّلت في انتشار الحملات التبشيرية التي عمل حسن البنا والمودودي والندوي على التصدي لها في بداية القرن العشرين، كما تمثَّلت في التشريعات القانونية الجديدة ذات الأصل الأوروبي، التي فرضتها الدولة منذ القرن التاسع عشر، ونحَّت جزئيا دور الشريعة الإسلامية التي سادت المجتمعات الإسلامية لقرون عديدة. كما أن القوانين الجديدة لم تُحدِث قطيعة مع العنف والظلم في المجتمع، بل أعادت ترتيبها لصالح القوى الجديدة لمُلاك الأرض والتجار والنخب الأقل ارتباطا بالثقافة الإسلامية والمحتقرة للفلاحين والكادحين من سكان المدن. (12)
هكذا إذن أدت تلك القوانين المفروضة من أعلى، والتغيرات الاجتماعية التي أحدثها تضافر عوامل الاستعمار والاندماج في السوق العالمي والتغريب الثقافي وتبدُّل علاقة الدين بالمجتمع والسلطة، إلى ظهور عالم جديد ذي بُعدين: عالم قوانين الدولة وتشريعاتها ومدوناتها القانونية وأروقتها ومصالحها وعمرانها وشوارعها وأعوانها وتجارها وثقافتها وملاهيها الليلية ومسلسلاتها الدرامية ودعايتها الخطابية، مُقابل عالم الهامش بأزقته الضيقة وشبكات تضامنه الاجتماعي الخاصة وزواياه الدينية ومساجده الصغيرة وأعرافه المحافظة وخطابه الإسلامي غير المؤسسي واقتصاده غير الرسمي ومقاهيه وعصاباته ومخدراته ومواصلاته الجديدة (مثل الميكروباص والتوكتوك).
لذا، صار الواقع المحيط بالدولة متعايشا على وجودها ومقاوما لها في الوقت نفسه، وصار عالما يملك ثقافته الخاصة التي يُمثِّل الإسلام الرافد الأقوى فيها، كما امتلك خرائطه شبه الحضرية واقتصاده وقانونه الخاص. وبينما تسعى الدولة للقضاء على هذا الواقع “غير الرسمي” في نظرها، وضمِّه لحظيرتها، لا مفر من الصدام الدائم بين طرفين يرى كلٌّ منهما في الآخر درجة كبيرة من عدم “الاستحقاق”، ويلعب كلٌّ منهما دورا ويملك قوى يراها الآخر “غير شرعية” وفق قانونه. وإن كانت ثورة يناير 2011 قد كشفت جذور تلك الأزمة، وفتحت الأبواب نحو حلِّها بالتفاوض مع فئات المجتمع كافة وصياغة عقد اجتماعي جديد شامل يُعيد صقل الدولة القومية وفقا للجذور الاجتماعية المتباينة التي وقف عليها المجتمع المتنوِّع بشكل غير مسبوق، فإن إرادة الدولة القديمة ونخبتها في نهاية المطاف أبت أن يمرُّ أي مشروع لإعادة صياغة العلاقة بين تلك الفئات، فأعادت المعادلة إلى المربَّع صفر، وإلى الصدام الصفري التقليدي بين هذين العالمين.
____________________________________________________________
المصادر والمراجع
- الديوبندية.. تعرف إلى فكر المدرسة الدينية التي خرجت منها «طالبان».
- الإسلام السياسي، تأليف نزيه الأيوبي، ترجمة محمد كمال، ص255.
- انظر مذكرات الدعوة والداعية.
- أبو الحسن الندوي يكتب عن الإمام البنا.
- الإسلام السياسي، تأليف نزيه الأيوبي، ترجمة محمد كمال، ص256.
- طالبان جند الله في المعركة الغلط، تأليف فهمي هويدي، ص64.
- الإسلام السياسي، تأليف نزيه الأيوبي، ترجمة محمد كمال.
- ولادات متعسرة، تأليف عصام خفاجي، ص86.
- الإسلام السياسي، تأليف نزيه الأيوبي، ترجمة محمد كمال.
- ولادات متعسرة، تأليف عصام خفاجي، ص233.
- الإسلام السياسي، تأليف نزيه الأيوبي، ترجمة محمد كمال.
- حكم الخبراء، تأليف تيموثي ميتشيل، ترجمة بشير السباعي، ص123.
#من #الحقول #والجبال #إلى #تخوم #المدينة #لماذا #يأتي #الإسلاميون #من #الهامش
تابعوا Tunisactus على Google News