ميناء المرسى القديم: خبايا أزمة بيئية تشدّ على خناقه
يشير المهندس في الكيمياء والمستشار البلدي محمد علي بن قايد حسين إلى عدم استجابة مياه الصرف الصحّي التي يقع تصريفها بميناء المرسى القديم إلى المواصفات التونسية TN 106.002.
يقتضي الحدّ من مشكل تسرب المياه المستعملة في ميناء المرسى القديم الترفيع من طاقة استيعاب المحطات. هذه العملية تخول لها استقبال وضخّ كميات أكبر من مياه الأمطار والمياه المستعملة.
“بين سنتي 2017 و2018 قمنا بتجديد تجهيزات محطات الضخ بمنطقة حسن النوري والترفيع من طاقة استيعابها من 85 لتر إلى 170 لتر في الثانية. ومن المبرمج الترفيع من طاقة استيعاب محطة بوشوشة من 12 لتر في الثانية إلى 25 لتر في الثانية في الأشهر المقبلة.” يقول المدير الجهوي لديوان التطهير ببنزرت.
نقص الأكسجين: قاتل الميناء الصامت
نظرا لاقتصار الفحص البكتيريولوجي على كشف نوع ونسبة البكتيريا الموجودة في المياه، استعنا بدراسات علمية سابقة للبحث عن مصادر التلوث المحتملة الأخرى.
سنة 2003 أجرى عمر الهادفي أحد الطلبة بكلية العلوم ببنزرت رسالة بحث حول حالة التلوث بميناء المرسى القديم وتأثيرها على الحيوانات القاعية متوسطة الحجم.
اعتمد الباحث سحب عينات مياه من ستة نقاط مختلفة بالميناء وتحليل مكوناتها. وتمكن بهذه المنهجية من التوصل إلى أن ميناء بنزرت القديم يتمتع “بنظام إيكولوجي شديد الاضطراب وبيئة شديدة التلوث” ساهمت في إنتاجها بعض العوامل. نذكر أمثلة منها في هذا الرسم البياني:
مثلما يمثل الأكسجين العنصر الأساسي للحياة على اليابسة يساهم في ديمومة الحياة البحرية أيضا. لذلك يعتبر الخبير في الشأن البيئي حمدي حشاد “ميناء المرسى القديم وسطا ميتا”. ويقول أن:” ضعف دوران المياه يقلص من نسبة الأكسجين فتصبح المياه راكدة. ”
تتأثر نسبة تركيز الأكسجين الذائب في المياه بعدة عوامل كالنشاط البيولوجي، وتراكم المواد العضوية، وتصريف المياه المستعملة وهي عناصر تم اثبات وجودها في مياه المرسى القديم.
ولتأثر نسبة الأكسجين بديناميكية التيارات المائية أيضا، أردنا تحديد طبيعتها وسرعة تحركها بالميناء العتيق.
توجهنا إلى وكالة حماية الشريط الساحلي للحصول على بعض المعلومات حول هذا الشأن، بيد أن المدير الجهوي ببنزرت رفض الإدلاء بأي تصريح أو مدّنا بأي وثيقة إلا بعد مراسلة المكتب المركزي للوكالة. وإلى حدود كتابتنا هذه الأسطر لم نتلقى جوابا.
مكنتنا مصادرنا من تقرير أولي لدراسة جدوى هيدروديناميكية لتحديد تيارات المياه البحرية بالميناء العتيق وفرضية ربطه بقنال بنزرت. أنجزت الدراسة سنة 2017 من قبل مكتب Maritec لصالح وكالة الشريط الساحلي.
يذكر التقرير أنه في حركتي المد والجزر تم تسجيل تدفق نسبي مقبول للمياه عند مدخل الميناء القديم، فيما تميزت التيارات المائية بالحوض الداخلي بضعف تدفقها الشديد.
وخلص التقرير إلى أنه جراء تياراته المائية المنخفضة، يعاني الحوض الداخلي من ركود دائم في المياه وتراجع جودتها بشكل ملحوظ في فصل الصيف.
مشروع مارينا شوكة في خاصرة الميناء
سنة 2008، تم الإعلان عن انطلاق أشغال مشروع سياحي سيحقق انتعاشا اقتصاديا لمنطقة تعاني من نقص في الاستثمار. مرّت أكثر من عشرة سنوات ولم يكتمل المشروع وتحول بذلك إلى مجرّد بناء يفسد واجهة ميناء المرسى القديم.
كمال بن عمارة رئيس بلدية بنزرت، يؤكد إسهام مشروع مارينا في منع تجدد المياه خصوصا في الحوض الخارجي بسب بناء حاجز لم يكن مدرجا ضمن دراسة المشروع.
” التّلوث والرمال الموجودة في المياه على مستوى جسر سيدي سالم (في الحوض الخارجي) ساهم في صعوبة التنقل من وإلى الميناء. في بعض الوقت ننتظر ارتفاع منسوب المياه حتى تتمكن قواربنا من الإبحار. هذا الأمر يتسبب أحيانا في اصطدام القوارب ببعضها البعض”، يقول جيلاني حشاني أحد الصيادين ببنزرت.
ويضيف محدّثنا:”منذ أن أنجز مشروع مارينا فقدت المياه نضارتها، وشهدنا نقصا في الأسماك، وتراكما في الرمال”.
تثبث رسالة بحث حول حالة التّلوث بميناء المرسى القديم ببنزرت أن رواسب الميناء القديم تختص بكونها رواسب موحلة في المناطق الداخلية ورملية -موحلة في المناطق الخارجية.
ومن الواضح أن القائمين على مشروع مارينا لم يأخذوا بعين الاعتبار هذه الخصائص البيولوجية للميناء، وهو ما عمّق ظاهرة الترمل في المنطقة القريبة من مكان الإنجاز. خاصة وأنّ إحدى الإجراءات المتخذة سنة 2003 (قبل إحداث مشروع مارينا) ساهمت في تجمّع الرمال في مستوى جسر سيدي سالم.
“من المفروض على شركة كاب 3000 أن تقوم بدراسة تأثيرات على المحيط والبيئة قبل إنجاز المشروع. هذه الدراسة لا أحد تمكن من الإطلاع عليها. إلى اليوم نتساءل هل أن الدراسة هي نفسها تحترم خصوصيات المنطقة تلك؟” يقول سامي بالحاج مختص في التصرف في السواحل والبحار.
ولحلحلة هذا المشكل يرى بالحاج أنه لابد من فتح نوافذ وسط هذا الحاجز لدخول وخروج التيارات المائية.
ما يمكن استنتاجه من ما ذكر آنفا أن المشكل المحوري في ميناء المرسى القديم يتمثل في صعوبة التجدد الطبيعي للمياه نتيجة لضعف تدفق التيارات المائية.
أين البلدية؟
يدعوا 97.3% من عينة استبيان أنجزناه حول تلوث مياه المرسى القديم بلدية بنزرت إلى إيلاء اهتمام أكبر بهذا المشكل البيئي.
في هذا السّياق يعتبر رئيس البلدية كمال بن عمارة أن إمكانيات البلدية لا تكفي لتدخل يفضي إلى حلول جذرية. مؤكدا تمكن البلدية بالتشاور مع ديوان التطهير ببنزرت من تخفيض كميات صرف المياه المستعملة في الميناء، الأمر الذي ساهم في تحسن ملحوظ في جودة المياه ورائحتها.
وأشار بن عمارة إلى حرص البلدية على الإيقاف النهائي لصرف المياه المستعملة في حوض الميناء.
وعن استغلال البلدية لتجهيزات أكسجنة المياه بالمرسى القديم يقول: “تتدخل البلدية لإصلاح عطب محطتي ضخ المياه الموجودة في المنطقة الداخلية للميناء. تساعد هذه التجهيزات على تجديد المياه ولو نسبيا. بحكم قدمها دائما ما تشهد عطبا لذلك لم تثبت هذه الطريقة الميكانيكية نجاعتها”، يوضح رئيس البلدية.
إجراءات إصلاح “زادت الطين بلّة”
سنة 2003 تم تنفيذ بعض الإجراءات قصد تأهيل الميناء القديم وتجديد مياهه. وذلك بعد دراسة أنجزها مكتب SCET تونس عام 1999 لفائدة المصالح الجوية والبحرية التابعة لوزارة التجهيز والإسكان.
وقع رصد بعض الإخلالات على مستوى الأشغال المدخلة على ميناء المرسى القديم سنة 2003. ولعلّ أبرزها عملية فرش رمال على طبقات أخرى من رمال متعفّنة في قاع البحر.
“تحركات قوارب الصيد تحدث تيارات مياه خفيفة تساهم في تحول الرمال من مكان إلى آخر. هذه العملية أدّت إلى تجمع الرمال قرب قنطرة سيدي سالم بالحوض الخارجي للميناء “، يقول محمد علي بن قايد حسين مهندس في الكيمياء، واصفا هذا الإجراء بالغير مدروس لتسببه في تضخم نسبة تعفن الرمال في قاع الحوض المائي.
من ناحية أخرى يقوم مبدأ عمل محطة التصريف المحدثة حين ذاك على سحب المياه من الميناء القديم وضخها في بحر “La Plage”. بمعنى آخر تقوم العملية على نقل المياه الملوثة من مكان وتحويلها الى مكان آخر.
إن عدم نجاعة الإجراءات السابقة في حل مشكل تلوث مياه المرسى القديم ومساهمة بعضها في تعمق المشكل أكثر فأكثر، جعل مكونات المجتمع المدني والسّلط المحلية تفكر في حلّ جذري يخرج الميناء من أزمته البيئية.
مقترحات حلول في انتظار التنفيذ
اتفقت جل الأفكار المطروحة على مبدأ وصل ميناء المرسى القديم بمصدر مياه ذات تيارات قوية ومستوى أكسجين كافي.
بعد تركيز كرونومتر على مستوى مياه الجسر المتحرك ببنزرت لقيس سرعة التيارات المائية في فترات مختلف من السّنة، أثبتت دراسة أنجزها المعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار سنتي 1999 و2000 أن قنال بنزرت يتمتع بسرعة تيارات قوية إثر عملية المد والجزر في فترتي الصيف والشتاء.
تتوفر في قنال بنزرت إذن الخصائص المطلوبة لإنجاز المشروع المنشود، الشيء الذي جعل الخبراء يذهبون نحو فكرة ربط الميناء المرسى القديم بهذا القنال. إلا أنهم اختلفوا على الطريقة التي سيتم اعتمادها.
كان إحداث قنال مفتوح يربط الحوض الداخلي للميناء بالقنال من أكثر الحلول التّي لقت رواجا.
” تتمثل الفكرة في فتح نهج تونس أو ما يعرف ب”باب الرمل”. هذه الطريقة الأنجع للتّرفيع من نسبة الأكسجين في المياه. كما أن التيارات المائية ستساهم في جهر المياه طبيعيا”، يشرح قيس العريبي مهندس معماري ورئيس لجنة أشغال سابق ببلدية بنزرت.
ويعتبر العريبي أن الميناء بشكله الجديد سيخلق مسلكا سياحيا يوفر مواطن شغل جديدة ستدفع عجلة الاقتصاد في المنطقة. ويشدّد محدّثنا على نجاعة إنجاز هذا المشروع لأنه سيساهم في إرجاع المياه إلى مسارها الطبيعي قبل تغييرات المستعمر الفرنسي المدخلة على شكل المرسى القديم.
“فيديو يفسّر مشروع إحداث قنال مفتوح يربط الحوض الداخلي للميناء بقنال بنزرت”
#ميناء #المرسى #القديم #خبايا #أزمة #بيئية #تشد #على #خناقه
تابعوا Tunisactus على Google News