- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

نساء الـ”برباشة” في تونس والـ”طقش” في فلسطين… أضرار عابرة للحدود لتعاملنا مع النفايات – رصيف 22

- الإعلانات -

شعَرَت إحدى سيدات بلدة إذنا بأن ثديها متوّرم، ولاحظت نقاط دم تلوّن لباسها الداخلي. كانت تجهل دلالات هذه العلامات التي لا تبشّر بخير. وفي أحد الأيام، تشجعت للذهاب إلى حملة توعية للكشف عن سرطان الثدي في بلدتها الواقعة في قضاء الخليل، في الضفة الغربية.

تروي أمينة سرّ جمعية “التعليم العالي” في البلدة هند الطميزي قصة السيدة وتقول: “اكتشفنا أنها مصابة بسرطان الثدي إلى جانب 15 سيدة أخرى قدمنَ إلى تلك الحملة. صُدمتُ حينها. أنا متيقنة من أنها أمراض انتشرت بسبب الجهل وبسبب حرق ‘الطقش’ (الأسلاك النحاسية المغلفة بالبلاستيك والنفايات الإلكترونية)”.

لطالما اعتمد أهالي بلدات إذنا وبيت عوّا ودير سامت والكوم على الزراعة في معيشتهم، لكن بناء جدار الفصل العنصري على أراضيهم عام 2002 حاصرهم اقتصادياً، فهجروا العمل في الأراضي وانتشرت البطالة بينهم، مما فاقم عدد العاملين بـ”الطقش” دون تفكير بالعواقب البيئية الوخيمة التي أصابت المنطقة حتى يومنا هذا، والتي تصفها الطميزي بأنها قاتمة.

هذه الصورة وصور الحرائق اللاحقة هي لحرق نفايات إلكترونية وكوابل نحاس، في بلدة إذنا، في قضاء الخليل.

تمثل تلك البلدات البؤرة الأكثر تلوثاً بخردة الإلكترونيات القادمة من مخلفات المصانع وورش البناء وتجديد المنازل في المستوطنات الإسرائيلية. وتتحكم بجمعها وتوريدها “مافيات إسرائيلية وفلسطينية تُدخلها عبر حاجز ‘ترقوميا’ العسكري نحو هذه البلدات الخارجة أساساً عن سيطرة الأجهزة الفلسطينية، باعتبارها مصنفة ضمن مناطق (ج)”، حسب رئيس بلدية إذنا، جابر الطميزي.

ومناطق (ج) تشكل 60% من أراضي الضفة الغربية المحتلة، وتسيطر إسرائيل على جميع جوانب الحياة فيها بدلاً من السلطة الفلسطينية، بموجب اتفاقية أوسلو الثانية.

امتدّ هذا التقرير، ميدانياً، ليشمل بلدة عوّا ودير سامت، وتحدثت فيه نساء عاملات وربّات منازل عن معاناتهنّ الجسدية والنفسية مع الحرق اليومي لأسلاك النحاس والبلاستيك، والخردة بأشكالها: ثلاجات، غسّالات، أجهزة كمبيوتر، ومواد أخرى مجهولة، مما دفع بعضهن إلى الرحيل إلى مناطق أخرى بحثاً عن بيئة نظيفة.

على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، وفي تونس تحديداً، تفتشّ ريم (40 عاماً) بأيدٍ مكشوفة وجريئة عن عبوات بلاستيكية في حاويات القمامة في المكبات العشوائية التي ظهرت في العاصمة تونس بعد ثورة 2011، حتى توفر مبلغاً زهيداً لقوت عائلتها اليومي.

تعيش ريم مع زوجها وطفلين أحدهما مصاب بالتوحدّ في بيت يفتقر إلى أدنى مقومات الحياة في حيّ شعبي تتكدس فيه القمامة والمكبات العشوائية، غربي العاصمة.

تتشارك السيّدة وأخريات ممن يعملن في “البرباشة” (فرز البلاستيك من حاويات القمامة ومصبّات النفايات العشوائية في تونس) المصير الصحي والاجتماعي ذاته مع الفلسطينيات المقيمات في بلدات الخط الغربي في الخليل بسبب ظروف سياسية واقتصادية لا إرادة لهنّ فيها، ويتأثرن ظلماً بالدرجة الأولى بأمراض النفايات ومخلفاتها أمام صمت وإهمال رسمي ومجتمعي.

وكأنّ هذا لا يكفي، تتصارع ريم منذ أربع سنوات مع “برباشة” آخرين تصادفهم أمام الحاويات يبحثون عن رزقهم، ويقودون الـ”كرّوسات” (عربات) الثقيلة لجمع أكبر كمية ممكنة من البلاستيك، وبذلك تقلّ فرصة ريم ويتدنّى حظها في جني المال، نتيجة محدودية قدراتها الجسدية والمهنية، وهي قدرات مطلوبة في مجال يعمل فيه آلاف الذكور، بعد ارتفاع نسب البطالة جرّاء أزمة وباء كوفيد-19 وبلوغها عام 2022 نسبة 16.1%، حسب مركز الإحصاء الوطني التونسي.

ريم ليست وحدها في هذا الميدان، بل تشاركها لمياء وجميلة وهنية وسعاد اللواتي يعلمن في مكبّات النفايات ويعشن ظلماً جندريّاً-مركّباً. فقد لجأت هنيّة (60 عاماً) إلى جمع قوارير البلاستيك بعد أن أهملها أبناؤها وتكاثرت أمراضها، فكانت شوارع الضاحية الجنوبية لتونس منفذاً لضمان لقمتها اليومية.

ربّما كانت لمياء، وهي أمّ لأربعة أبناء، أفضل حظاً من الباقيات اللواتي التقينا بهنّ، إذ تجمع قوارير البلاستيك التي يحتفظ لها بها سكان الأحياء. ورغم ذلك، يبقى المقابل المادي الذي تجمعه ضئيلاً.

ينطبق الظلم ذاته على نساء بلدات الخط الغربي في فلسطين، فقد تخصص الرجال في تجارة وحرق “الطقش” بفعل انعدام مشاريع التنمية كلياً في تلك المنطقة، فأصبح “الطقش” مورداً مالياً أساسياً لمعظم عائلات تلك البلدات، إضافة إلى تجارة “الزخم” (الأثاث المستعمل) التي يحترفها أهالي بلدة بيت عوّا منذ سبعينيات القرن الماضي.

تواصل نساء “البرباشة” في تونس العمل بصمت دون كمامات وقفازات أو أي وسائل حماية أخرى، كما تستمر فلسطينيات في العمل بـ”الطقش” في “ورش العائلة دون حماية أو وقاية وبأدوات قد تسبب التشوّهات أو الموت”

تكتفي النساء بالشكوى أو الصمت في كلا البلدين حيث لم تسنّ السلطات بعد قوانينَ تتضمّن حقوقاً بيئية تناصر النساء أو تحميهنّ، رغم أن تونس وفلسطين تقعان في منطقة البحر المتوسط، إحدى المناطق الأكثر تأثراً بالتغير المناخي.

ويُتوقع أن ترتفع درجة حرارة المتوسط بحلول عام 2040 بمقدار 2.2 درجة مئوية، حسب تقرير لشبكة خبراء المتوسّط حول التغيّر المناخي والبيئي (MedECC)، وهي شبكة خبراء علميين دولية مفتوحة ومستقلة تقدّم الدعم والمعلومات لصانعي القرار والجمهور، وتضم أكثر من 600 عالم متطوّع من 35 دولة.

وتتساءل هؤلاء النساء، اللواتي يأتين من أحياء شعبية كما الحال في تونس، أو ينتمين إلى عشائر فقيرة اقتصادياً واجتماعياً كما في البلدات الفلسطينية، عن دور الجهات الرسمية في توفير أبسط حقوقهنّ في ضمان اجتماعي أو صحي يكفل لهنّ حياة كريمة بعيدة عن النبش في القمامة ووصمته الاجتماعية التحقيرية أو عن حرق “الطقش” وتلويث البيئة والإضرار بصحة الناس.

ورغم التشريعات والقوانين والاتفاقيات الخاصة بالبيئة التي سنتها فلسطين وتونس أو تبنّتها، ورغم فرض عقوبات في هذا القطاع، إلّا أن نساء “البرباشة” يواصلن العمل بصمت دون كمامات وقفازات أو أي وسائل حماية أخرى، كما تستمر فلسطينيات في العمل بـ”الطقش” في “ورش العائلة دون حماية أو وقاية وبأدوات قد تسبب التشوّهات أو الموت”، حسب الناشطة البيئية والمجتمعية آمنة البطران، مما يجعلهنّ أكثر عرضة للعناصر الثقيلة والمشعة مثل الرصاص والكروم أو الغازات السامة المركبة مثل الديوكسين، وأكسيد الكبريت والكربون، أثناء الحرق، وهذا قد يسبب أمراض السرطان وأمراضاً إنجابية مثل تشوّهات الأجنّة والإجهاض.

ويُشار إلى أن العلاقة بين الأمراض ومسبباتها لم تثبت، إذ تفتقر المنطقة إلى إجراء دراسات علمية وصحية وبيئية من طرف وزارة الصحة ووزارة جودة البيئة الفلسطينيتين.

في غرفة متهالكة خلف منزلها، تخزّن ريم غلّتها اليومية من البلاستيك إلى أن تمتلئ الأكياس ثم تبيعها في إحدى نقاط التجميع مقابل 700-900 مليم تونسي أي ما يعادل 0.3 دولار. في المقابل، يرتبط بيع النحاس المستخلص من حرق “الطقش” بأرقام البورصة العالمية، وكاد أن “يصل سعر الكيلو الواحد إلى 37 شيكلاً أي 11.38 دولاراً، في حين وصل طن الحديد والرصاص إلى 1400 شيكل أي 430 دولاراً”، حسب الرئيس السابق لبلدة عوّا عبد الله سويطي.

“لا نعلم مصدر هذا الشكل الجديد من الأدخنة، إنها شفافة وذات رائحة. قد يكون جارك أو غيره يحرق إلى جانب منزلك لكن يصعب تحديد مصدر الدخان بعد إضافة مواد معيّنة تحوّل الدخان إلى لون شفاف”

ومن أجل ذلك، كان لا بدّ للعاملين في “التبربيش” و”الطقش” من فرض قوانينهم الخاصة. تحكم عالم هذه المهن رغم هامشيتها قوانين خاصة. في عالم “التبربيش” يقسّم البرباشة الأحياء السكنية والحاويات ومكبات النفايات في ما بينهم، فتتقاسم ريم حاويات القمامة مع بعض البرباشة، لتضمن مكانها دون منافسة أو دخيل. وتحتل “أولوية” الوصول إلى مكان القمامة رأس اللائحة في قانون “البرباشة”.

وتندفع النساء بسبب ظروفهن الاجتماعية، مثل إعالة أزواجهن أو طلاقهنّ أو فقرهنّ، نحو هذا العمل، مثل جميلة (50 عاماً) التي أصيب زوجها في ورشة بناء جعلته عاجزاً عن العمل، بينما تتكفل هي بمصاريف العلاج والأكل والإيجار من جمع البلاستيك.

أمّا عالم “الطقش” فهو عالم معقد، لا تطبَّق فيه قوانين حازمة أو رادعة. تحدث الحرائق بروائح نفاذة فجأة في أماكن غير معتادة، مسببة الضيق والاختناق، وإنْ سارعت لجنة مكافحة ظاهرة حرق الخردة في البلدة، وهي لجنة مؤلفة من 13 عضواً، شكلتها مؤسسات بلدة إذنا المدنية والأمنية من أجل محاربة “الطقش” وإيجاد حلول بديلة، لإخمادها إلّا أنها تترك بقعاً سوداء بآثار طويلة الأمد.

مجرّد المكوث لأيام في بلدة إذنا أو غيرها، يكشف مدى تغّول هذه التجارة في حياة الناس يومياً. ورش كبيرة مفتوحة بجانب بعضها تحرق وتطحن وتفرز كافة أشكال النفايات، سيارات خاصة تنقل “الطقش” في شوارع البلدة دون أن يوقفها أحد، أراضٍ زراعية ملوثة ومسممّة بآثار الحرق.

يصف رئيس بلدية إذنا، جابر الطميزي، الذي ينشط في لجنة مكافحة ظاهرة حرق الخردة منذ ثماني سنوات، تطور حدوث الحرائق “تدريجياً في الأراضي الزراعية القريبة من الجدار الفاصل ثم بين المنازل ثم الورش الكبيرة بما يعادل 30 طناً يومياً” مؤكداً أن “الحرق تحوّل إلى ظاهرة مقلقة لم يستطع أحد مكافحتها، وحققت خلالها فئة من الأفراد مكاسب مادية ضخمة، مقابل تلوث الهواء والماء والتربة، وتهددت الثروة الحيوانية وحياة السكان بأمراض لم نشهدها من قبل”، ويضيف: “يعلم الجميع هنا أن إذنا تسجل أعلى نسبة سرطان في منطقة الخليل”.

يُطلَق على الـ”طقاشين” الكبار لقب “المافيا والعصابات”. يتحايلون على شرطة الضابطة الجمركية، بأساليب لا تورطهم مع الجمارك، كما يتحايلون على شرطة البيئة بالحرق بالقرب من جدار الفصل العنصري حيث لا تستطيع هذه الأجهزة التدخل وإلقاء القبض عليهم، كما ورد على لسان ممثلي هذه الجهات خلال اجتماع برؤساء بلدية إذنا والكوم ودير سامت، عُقد في 15 آب/ أغسطس 2022، وحضرناه أثناء إعداد هذا التقرير، وصدر عنه بيان دعا إلى إجراء جولات ميدانية وسجن المخالفين وفصل خدمات البلدية عنهم.

ويردف الطميزي: “توزّع الخردة على وسطاء وعمّال وأفراد يعملون بشكل منفرد في الحرق في محاولة لتفتيت جهود القبض عليهم”، ويتعطل إنفاذ قانون البيئة الفلسطيني (1999) وقانون نظام إدارة النفايات الخطرة رقم (6) لعام 2021 في إذنا وغيرها من البلدات، نتيجة خضوعها أمنياً للجانب “الإسرائيلي”.

وتحدث أعضاء مجلس قرية الكوم عن موضة حرق جديدة مجهولة المصدر. يقول عضو المجلس راضي الرجوب: “لا نعلم مصدر هذا الشكل الجديد من الأدخنة، إنها شفافة وذات رائحة. قد يكون جارك أو غيره يحرق إلى جانب منزلك لكن يصعب تحديد مصدر الدخان بعد إضافة مواد معينة تحوّل الدخان إلى لون شفاف”.

ويُفسر لجوء معظم العائلات لـ”الطقش” سهولة العمل في هذا المجال الخارج عن القانون. ورغم محاولة سلطة جودة البيئة الفلسطينية إنفاذ اتفاقية “بازل” الدولية (دخلت حيّز التنفيذ عام 1992 وتهدف إلى حماية صحة البشر وحماية جودة البيئة من النفايات الخطرة والنفايات الأخرى وعلاجها وتنظيم نقلها عبر الحدود) في المنطقة إلّا أن جهودها “غير فعّالة” حسب مدير مكتب سلطة جودة البيئة في الخليل، طالب حميد.

يقول حميد: “نحن في معترك حقيقي مع الأهالي ومصدر رزقهم، مع ذلك نحاول تخصيص مشاريع لعملية تقشير الأسلاك النحاسية المغلّفة بالبلاستيك بدلاً من حرقها”.

على المقلب الآخر، في تونس، يلجأ الآلاف إلى فرز النفايات البلاستيكية بسبب ارتفاع نسبة استهلاك قوارير المياه المعدنية، إذ تنتج تونس ما يصل إلى 2.7 مليارات قارورة ماء بلاستيكية سنوياً حسب الديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه.

وتوسعت مهنة فرز نفايات البلاستيك في تونس كـ”نشاط اقتصادي في بداية الألفية الثالثة، بعد أن شُجعت سياسات المبادرة الاقتصادية الفردية” وفق الباحث جهاد حاج سالم، مما “خلق طبقات شعبية هشة تفتقر إلى رأسمال تعليمي أو مادي، وقعت ضحية هذه السياسات، وتعمل في مهن هشة مثل البرباشة في المدن الكبرى، حيث تشجع الدولة ضمنياً هذه المهن وتمنحها مرونة في ممارسة أنشطتها بشكل غير نظامي”، مضيفاً: “تتكيّف هذه الفئات في نهاية المطاف مع واقع انسحاب الدولة وعجزها عن توفير فرص عمل”.

دفعت الأدخنة السوداء والرائحة القاتلة معلمة المدرسة ميسون سويطي (55 عاماً)، من بلدة بيت عوّا، إلى عدم الشعور بالراحة والأمان. تقول: “كنت أسعل وكأنني مدخنة، لكنني لم أصمت. دافعت بقوّة عن حقي في الحياة. تحدثت مع جارنا المتورط بالحرق، وعندما لم يتوقف رفعنا ضده قضية في المحكمة وألزموه بالتوقف، لكنه عاد إلى حرق الكوابل والأسلاك بعد فترة. بدأت أوثّق عبر كاميرا هاتفي كل حريق يحدث أثناء مروري في شوارع البلدة وأنشر الفيديو عبر فيسبوك لرفع الوعي، خاصة أن باحثين أكاديميين زاروا منطقتنا ووقفنا سوية على المخاطر التي تهدد وجودنا في بيت عوا، فالهواء ملوثّ، والتربة والماء والغذاء. لكنّ المال كان الأهم بالنسبة إلى الجميع، فقررتُ الرحيل مع عائلتي إلى بلدة دورا القريبة حيث نسكن حالياً”.

ناشَدَت ميسون وزارة الصحة والبيئة دون إجابة، وقبل مغادرتها، تقول: “أحصيت شخصياً 70 مريضاً في حيّنا بأمراض مختلفة”. ورغم أن الحرائق في قرية بيت عوا على وشك الانقراض، لكنها قطعياً ترفض العودة إلى المكان.

تواجه النساء في البلدات الفلسطينية مصيراً صحياً مجهولاً لندرة الندوات أو الحملات الطبية والتوعوية ذات العلاقة بمخاطر وآثار حرق الخردة. وتصف الناشطة هند الطميزي حال النساء في البلدة بقولها: “نحن مظلومات ونعاني اجتماعياً وصحياً واقتصادياً بسبب افتقارنا للتنظيم وسيطرة مشاريع الـNGOs (المنظمات غير الحكومية) غير المستدامة على جمعياتنا النسوية. نفتقر للنساء المؤهلات فكرياً في قيادة حملات توعوية بيئية، والنساء المتمكنات أغلبهن لا يُقدِمن على مثل هذه الخطوات بحكم منظومة العلاقات العشائرية والتقاليد التي تقيّد المرأة، فضلاً عن النظر إلى موضوع البيئة على أن لا نتيجة منه”.

لم تتراجع النساء، بل حاولن صناعة التغيير بأيديهن والبحث عن حلول مستدامة. بعضهن انضم إلى لجنة مكافحة ظاهرة حرق الخردة، مثل الناشطة المجتمعية آمنة البطران، والتي حاول جيرانها إسكات صوتها في الشكوى وتوثيق الحرائق بعد إصابتها البالغة بمرض الجيوب الأنفية.

توسعت مهنة فرز نفايات البلاستيك في تونس كـ”نشاط اقتصادي في بداية الألفية الثالثة، بعد أن شُجعت سياسات المبادرة الاقتصادية الفردية”، مما “خلق طبقات شعبية هشة تفتقر إلى رأسمال تعليمي أو مادي، وقعت ضحية هذه السياسات”

تصف البطران ظاهرة الحرق بأنها “حساسة مجتمعياً”. رغم ذلك، انخرطت في اللجنة بهدف الحفاظ على بلدها. تقول: “أنا صاحبة حقّ. أرعى طفلي المعوّق الذي تتأثر رئته الخاملة مباشرة بأي دخان”، وتضيف: “يفضّل الجميع التستر على الحرق والطقاشين وعدم التبليغ عنهم، وتخاف النساء من الانخراط في مكافحة حرق الخردة. أنا المرأة الوحيدة في اللجنة حتى الآن”.

تواصل البطران رحلتها في أرشفة الحرائق اليومية التي تحدث في الورش التسع المحيطة بمنزلها أو في أماكن أخرى، وتصف النتيجة بـ”المحبطة”، إذ أن حرق “الطقش” لا يتوقف.

وتتحدث سكرتيرة مدرسة بيت عوا الأساسية غادة سويطي بدورها عن حال الملعب الخلفي لمدرسة البلدة وكيف تحوّل إلى سخام أسود بفعل الحرائق. تقول إن “ذرات الدخان تستقر على أسطح المقاعد والكراسي وكل مكان، ولا يمنعها شيء من الوصول إلى طعام الطلبة وأجسادهم، ونضطر في بعض الحالات إلى صرف الطلبة بسبب كثافة الحرائق وتلوث الهواء بشكل ثقيل”.

ويظهر تأثير حرق “الطقش” بيئياً بترك بقع سوداء تبدو واضحة من الفضاء باستخدام “غوغل إيرث”. ويعكس ذلك حجم الخطر الشديد والبيئة السامة التي تعيش فيها نساء تلك المنطقة، فضلاً عن إصابة أطفالهنّ بسرطان الغدد الليمفاوية الذي انتشر هناك.

عايش الباحث البيئي جان ميشال دايفيس، من جامعة “إلينوي أوربانا شامباين” الأمريكية، مشكلة حرق “الطقش” لعشر سنوات تقريباً في تلك القرى، وشارك سابقاً في دراسات منشورة منها واحدة نُشرت في المجلة الدولية للسرطان عام 2018، أشارت إلى “ارتفاع خطر الإصابة بسرطان الغدد الليمفاوية لدى الأطفال، بمعدّل يبلغ أربعة أضعاف المتوسط، في المواقع التي ينشط فيها حرق الخردة” في تلك بلدات.

يقول دايفيس، في مقابلة أجريناها معه، إن “سرطان الغدد الليمفاوية مجرد نوع واحد من السرطانات، فقد استمر الحرق بانتظام لسنوات عديدة منذ ذلك الحين، ومن الواضح أن هنالك أنواعاً أخرى من السرطان، وكانت الشكاوي الصحية التي أسمعها من الأطباء والأهالي تتعلق بمشاكل الجهاز التنفسي وخلل في وظائف الكلى، وإجهاض تلقائي، وإعاقات خُلُقية، والسرطان (خاصة سرطانات الرئة والقولون والدم)، والتي يُعَدّ انتشارها العالي مصدر قلق في هذه القرى”.

“هذه ليست مفاجأة”، يضيف، “بعد أن قمنا بقياس الملوثات التي يطلقها حرق المواد العضوية (القائمة على الكربون) خاصة في العراء، حيث يكون الحرق غير منضبط وغير مكتمل، ويمكن أن يطلق مركّبات ضارة، مثل الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات، والتي يمكن أن تسبب السرطان”، ويتابع: “يزداد الأمر سوءاً عند وجود مواد بلاستيكية في المادة المحترقة، والتي تميل إلى تكوين مركّبات شبيهة بالديوكسين، وهي مواد كيميائية شديدة السمية، ولا تتحلل بسهولة وتعلق بأنسجة الكائنات الحية”.

ويشرح أن “الحرق المكشوف للنفايات الإلكترونية يكون أكثر خطورة حين تدخل في صناعة المواد البلاستيكية مثبطات اللهب لمنعها من الاشتعال، مثل مثبط إثيرات ثنائي الفينيل متعدد البروم (PDBEs) الذي يعتمد على البروميد، وهي مادة تشبه إلى حد بعيد المواد شديدة السمية، إلى درجة أنها أصبحت الآن غير قانونية، وتُطلَق وتُحوَّل إلى سموم مماثلة عند حرقها”.

ويشير إلى أن الأمور تصير أسوأ عندما تحتوي الإلكترونيات على معادن سامة مثل الرصاص أو الزرنيخ أو النحاس أو الزنك، والأخيريْن “يتفاعلان مع المركبات العضوية أثناء الاحتراق بطريقة تزيد من إنتاج السموم العضوية”، كما أن “الاحتراق غير الكامل يُنتج مزيجاً متغيراً وساماً من المواد التي تُنتج آثاراً صحية حادة ومزمنة بما في ذلك العوامل المسببة للسرطان”.

وبجانب الأثر السلبي على الصحة، يحذّر دايفيس من أن “حرق مكيفات الهواء والثلاجات القديمة يطلق غاز الفريون الذي يحتوي على مركبات الكربون الكلوروفلورية (CFCs)” التي ثبت إلحاقها الأذى بطبقة الأوزون.

ولأخذ فكرة عن مدى انتشار الظاهرة قديماً في إذنا، أجرى معهد الأبحاث التطبيقية- القدس (أريج) مسوحات بين عامي 2012 و2014 بيّنت أن البلدة تستقبل يومياً بين 200 و500 طن من النفايات الإلكترونية، وتنتشر فيها مئات المواقع المخصصة لإعادة تدوير هذه النفايات وحرقها.

بشكل غير مباشر، ساهمت هند الطميزي في مشاريع مستدامة مثل بناء مركز طوارئ يوفر الوقت والعلاج للأعطاب والتشوهات الناتجة عن حرق “الطقش”، وجمعية تعليم لحماية مستقبل الأطفال في بلدة إذنا.

باتت صحة أهالي البلدات الفلسطينية في خطر، وشعر الجميع أن مناطقهم أصبحت موبوءة، ووصلت البلديات إلى مرحلة ضرورة إيقاف الحرق بعد شكاوي الأهالي المتتالية.

وضع رؤساء بلدية إذنا وبيت عوا من أجل ذلك آليات للقضاء على ظاهرة “الطقش”، واستطاعوا تحويل بلداتهم في النصف الثاني من عام 2022 إلى شبه خاوية من الحرائق. يقول رئيس بلدية إذنا الحالي، جابر الطميزي: “اختفت الحرائق بشكل لافت في الشهور الأخيرة. كنّا نعاني ليلياً وبشكل يومي من حرق الخردة وكوابل النحاس”. في حين حسم رئيس بلدية بيت عوّا السابق، عبد الله سويطي، أثناء توليه منصبه عام 2018 إنهاء ظاهرة الحرق.

ومن هذه الآليات تعاون مجلس بلدية إذنا مع متطوعين محليين للحراسة الليلية بالتعاون مع أجهزة شرطة البيئة وسلطة جودة البيئة لملاحقة الحرائق. كما تمكن سويطي بدوره من تشكيل لجنة وعي في بلدته، بيت عوّا، مؤلفة من شيوخ الدعوة ومعلمي المدارس والنادي الرياضي. يقول: “اجتهد الجميع في مكافحة الحرق، وطاردنا الطقّاشين وقدمنا أسماءهم للنيابة العامة التي سجنت بعضهم، كما فرضنا عليهم توقيع تعهد بقيمة 50 ألف شيكل (15،035 دولاراً) كرادع لهم”.

وطوّر رؤساء البلديات المختلفة آلية لتغريم المتورطين في الحرق ومصادرة بضاعتهم. ولا تزال خيم المراقبة الليلية موزعة على رؤوس الجبال في إذنا تحديداً.

ولا زالت هذه البلديات تحاول وفق إمكاناتها المحدودة مكافحة حرق الخردة بعد أن رفضت السلطة الفلسطينية حصولها على تمويل مباشر من السفارة السويدية عام 2018 بقيمة ثلاثة ملايين دولار، وانتهى الأمر بإقالة السويطي الذي حلم بتغيير واقع بلدته والنهوض بها.

في تونس، لا يقلّ فرز النفايات الإلكترونية وحرقها، صحياً، خطورة عن النفايات البلاستيكية التي تنقلها البلديات عبر سيارات خاصة أو شركات نحو مراكز التحويل ثم إلى مكبّات تراقبها “الوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات التونسية” وتسيّرها.

ويقترح الخبير البيئي ومستشار وزير البيئة السابق، وليم المرداسي “أن تنشئ تونس مراكز لمعالجة النفايات حتى يتم دمج فئة البرباشة وتأمين صحتهم، خاصة أن نقل وتخزين ودفن النفايات يشكلّ خطراً كبيراً عليهم”.

ورغم أن تونس خطت منذ التسعينيات نحو برنامج تثمين النفايات، مثل برنامج “إيكولاف” الذي أتاح فرصاً اقتصادية جديدة للفئات الهشة التي تعتمد على جمع النفايات من الشارع، إلّا أنها “تفتقر لرؤية شاملة على المدى الطويل لهذا الملف، وتدفع الفئات الهشة ضريبة هذا التلوّث إذ نتحدث عن حالات عقم وسرطانات طالت بعض النساء في مدينة عقارب على خلفية احتوائها لمصبّ النفايات”، حسب إيناس الأبيض، منسقة قسم الدالة البيئية والمناخية في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو منظمة مستقلة غير حكومية تأسست عام 2011 وتسعى للدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على المستوى الوطني.

وكشفت أرقام قدمها “ائتلاف إرثنا” الذي يتكوّن من فريق شبابي تدعمه جمعيات ناشطة في مجالي البيئة وحقوق الإنسان، ويعمل على تنظيم حملات توعوية متعلقة بتغير المناخ وحماية التنوع البيولوجي ورصد الانتهاكات المهددة للبيئة والتراث، في يوليو/ تموز الماضي، عن فشل تصدّرت فيه تونس المرتبة الثالثة إفريقياً في نسبة التلوث البيئي، بنسبة 75,12%، وفق تقديرات مؤسسة “هاينريش بول – مكتب شمال إفريقيا”. وحسب التقرير، تراجعت تونس 25 مرتبة في التصنيف العالمي لتأتي في المركز 96 عام 2022.

ويضع ذلك تونس أمام تحدي خفض انبعاث غازات الدفيئة وثاني أكسيد الكربون بنسبة (45%) بحلول عام 2030، وهو هدف التزمت به بعد توقيعها على اتفاقية “باريس” لحماية المناخ، عام 2015.

وتعطي هذه المؤشرات صورة مستقبلية عن الآثار البيئية المدمرة للنفايات البلاستيكية في تونس، ولحرق الخردة الإلكترونية التي تتكرر بشكل شبه يوميّ في البلدات الفلسطينية.

وأمام كافة هذه المخاطر، تحاول النساء بمبادراتهنّ إسماع أصواتهن للجهات الرسمية في تونس وفلسطين، وحثّها على إيجاد حلول للأزمات البيئية.

وفي هذا السياق، قدّم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وفق الأبيض، “مشروعاً لهيكلة عمل ‘البرباشة’ بشكل تشاركيّ مع عدّة وزارات منها الشؤون الاجتماعية ووزارة المرأة والطفل ووزارة الاقتصاد”، وتؤكد على “أهمية حماية هذه الفئة من الحوادث التي تتعرض لها في الوقت الحالي”.

و”يلعب فساد الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات (مؤسسة عمومية لا تكتسي صبغة إدارية وتتمتع بالشخصية المدنية والاستقلال المادي تأسست عام 2005 وتخضع لإشراف وزارة الفلاحة والبيئة) في تونس دوراً في تعميق أزمة النفايات وتحويلها إلى هيكلية لا وقتية” حسب الأبيض التي تردف: “الوكالة هي صندوق أسود ولا نعلم سياساتها كما حدث في أزمة النفايات الإيطالية التي أحدثت ضجة كبيرة عام 2020”.

وتعود أزمة النفايات الإيطالية إلى أواخر العام 2020، عندما ضُبطت 282 حاوية من النفايات البلاستيكية السامة في ميناء سوسة قادمة من إيطاليا ولا تطابق المعايير الدولية لاستيراد النفايات في العالم، وأُقيل على أثرها عدد كبير من المسؤولين من بينهم وزير البيئة السابق مصطفى العروي.

أما في فلسطين، فيلعب الاحتلال الإسرائيلي وسياسات السلطة الفلسطينية دوراً في تخبط فلسطين في إدارة مواردها الداخلية ومعالجة نفاياتها بشكل ممنهج، مما يعني مزيداً من الظلم للنساء اللواتي يعملن أو يعشن في نطاق المناطق الملوثة، واستمراراً لآثار صحية واجتماعية وخيمة في المستقبل.

*أنجز هذا التحقيق بدعم من مؤسسة Candid الألمانية.

#نساء #الـبرباشة #في #تونس #والـطقش #في #فلسطين.. #أضرار #عابرة #للحدود #لتعاملنا #مع #النفايات #رصيف

تابعوا Tunisactus على Google News

- الإعلانات -

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد