نعم، يُمكن لسويسرا أن تفعل المزيد!
بالاستناد إلى حصيلة الفعل السويسري الداعم للانتقال الديمقراطي في بلد عربي مثل تونس، يرى الصحافي رشيد خشانة أن هذا الإسهام المقدر والمفيد يحتاج إلى أن يكون “أكثر صرامة ودقة في اختيار المنظمات الأهلية والمشاريع الخاصة والمؤسسات العمومية التي تحظى بالدعم، لكي يذهب إلى من يستفيد منه” فعلا.
هذا المحتوى تم نشره يوم 06 يناير 2021 – 11:24 يوليو,
06 يناير 2021 – 11:24
رشيد خشانة، كاتب وإعلامي تونسي
تتبوأ سويسرا موقعا استراتيجيا يشكل امتدادا للجناح الشرقي للمغرب العربي، فالرحلة الجوية بين جنيف وتونس، على سبيل المثال، لا تزيد عن ساعة ونصف الساعة. غير أن الاستراتيجيا السويسرية في شمال أفريقيا لا تستثمر كل الامكانات المتاحة، لتعميق التقارب بين الجانبين. وفي عناوين كثيرة مثل ملف الهجرة، بوجهيها المُنظم وغير النظامي، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتطوير قطاع الإعلام، وسواها من المجالات، مازالت الانجازات الفعلية دون الامكانات.رشيد خشانةكاتب وإعلامي تونسي. رئيس تحرير صحيفة “الموقف” التونسية سابقا، رئيس قسم المغرب العربي بقناة “الجزيرة” سابقا، مدير مكتب “الحياة” بتونس، مؤسس ومدير مجلة “شؤون ليبية”. مراسل سابق لـ swissinfo.ch ومؤلف كتاب “الحرب العالمية الأولى بعيون عربية” (2016) End of insertionصحيح أن سويسرا كانت أهم الداعمين الأوروبيين لتونس، وبشكل أخص لمجتمعها المدني، في أعقاب “ثورة الياسمين”، وصحيح أيضا أن السويسريين قدموا للهيئة العليا المستقلة للانتخابات مثلا، ثمانية عشر ألف (18000) صندوق اقتراع عبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لاستخدامها في مكاتب الاقتراع سنتي 2011 و 2014. غير أن الحاصلين على هذا الدعم يعتقدون أنه كان في الامكان أفضل مما كان.قوس الهجرة غير النظاميةوينسحب الأمر على مجال الهجرة أيضا، فهناك قوسٌ يمتد من اسبانيا إلى مالطا مرورا بفرنسا وإيطاليا وسويسرا، وبدرجة أقل النمسا، يضم البلدان التي تتعرض لضغط الهجرة الآتية من الضفة الجنوبية للمتوسط. وتشير بعض التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 800 ألف شخص مقيمين في ليبيا يتحيّنون الفرص للوصول إلى السواحل الجنوبية لأوروبا. وينقسم ملف الهجرة إلى صنفين الأول تمثله برامج الهجرة المنظمة، والثاني هو صنف الهجرة غير النظامية.وسبق أن توصلت سويسرا إلى اتفاق مع تونس بتاريخ 1 أغسطس 2014 لاستقدام عمالة شابة ومختصة، بعد تلقيهم دورة تدريب في بلدهم، وهي هجرة محدودة في الزمن لا تتجاوز 18 شهرا، وكان يمكن أن تكون أنموذجا في العلاقات بين الدول الأوروبية والبلدان المصدرة للأيدي العاملة، مثل المغرب وتونس، لكن العملية تعثرت ثم توقفت.
ويُعاب على سويسرا أنها لم تنضم (بعدُ) إلى مبادرة أوروبية لمعالجة ظاهرة الهجرة، وهي القادرة على إضفاء لمسة إنسانية على استراتيجيا مكافحة تلك الظاهرة، التي تُسبّب قلقا دائما لبلدان جنوب أوروبا، التي تتلقى موجات مستمرة من المهاجرين، الذين يركبون البحر في رحلات موت أملا بالوصول إلى الجنة الموعودة. وقبل خوض المغامرة ينتظر هؤلاء “دورهم” في ظروف بالغة القسوة في مدن ساحلية ليبية وتونسية، فيما يُعاد كثير ممن وصلوا إلى السواحل الأوروبية على أعقابهم، فيجدون أنفسهم عُرضة لأنواع شتى من الانتهاكات والاعتداءات.تجارة رقيق جديدة؟أكثر من ذلك، عدلت إيطاليا مؤخرا قانون الهجرة للسيطرة على الظاهرة. واعتبرت منظمات إنسانية عدة أن اعتماد قانون الهجرة الجديد أدى إلى إعادة المهاجرين إلى معسكرات يتم احتجازهم فيها وتعريضهم للابتزاز وإساءة المعاملة. وفي هذا الاطار اعتبر عثمان البلبيسي، رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في ليبيا في تصريحات أدلى بها مؤخرا أن قيام خفر السواحل الليبيين بـ “إعادة الناس (أي المهاجرين) إلى ليبيا مثير للريبة، إذ ينتهي بهم الحال في مراكز احتجاز”.وسبق لمنظمات حقوقية دولية أن أعطت تفاصيل عن الاعتداءات وسوء المعاملة التي يلقاها المهاجرون غير النظاميين الذين يقعون بين أيدي الميليشيات، أو يُباعون أحيانا في إطار صفقات بين جماعات مسلحة تتحرك بحرية كاملة بسبب ضعف الدولة في ليبيا، التي لا تستطيع أن توصل أذرعها القضائية والأمنية والادارية إلى جميع مناطق البلد. ووصف مدير عام اطباء بلا حدود سبعة معسكرات للاجئين في طرابلس ومحيطها بأنها “مراكز اعتقال ينتشر فيها العنف وسوء المعاملة وتسيطر عليها جماعات مسلحة”. ويجوز القول إن سويسرا هي المؤهلة، لأكثر من سبب، لأن تتبنى حملة لوقف تلك الممارسات.
على الصعيد التنموي بذل السويسريون جهودا كبيرة لمساعدة القطاعين العام والخاص في تونس. ولم يقتصر الدعم على مجال معين وإنما شمل مجالات عدة، من مساعدة الفلاحين على تصدير التين من قرية دجبة الجبلية، إلى إقامة موائد مستديرة حول البحث الكلينيكي، بمشاركة أكثر من خمسين سيدة أعمال وأصحاب شركات ومسؤولين في وزارات. وخلافا لبلدان أوروبية أخرى، قد لا يُلام السويسريون على تقصير ما في مجال دعم الاقتصاد التونسي، إذ أنهم طوروا مبادلاتهم التجارية بشكل نوعي مع هذا البلد، في السنوات الأخيرة، فغدت سويسرا الزبون العاشر لتونس ورابع دولة مستثمرة في البلد، على الأقل حتى انتشار وباء “كوفيد – 19”.عُسر الوصول إلى المعلومةلكن ما يمكن أن يُلاموا عليه، من زاوية إعلامية، هو شدة التكتم وصعوبة الحصول على المعلومة من المصدر، مع أن المعلومات ليست سرية وهي تُحتسب في كثير من الأحيان لصالح سويسرا. وإذا كان صحيحا أن بعض الوزراء والمسؤولين السامين الذين يزورون تونس يُدلون بتصريحات، فإن الغالبية تقف موقف الحذر والريبة. ولا يقتصر هذا على المسؤولين الرسميين وإنما أيضا على بعض المكونات المدنية أسوة بـ “مركز الحوار الانساني” (مقره جنيف وممول جزئيا من طرف سويسرا)، الذي يلعب دورا كبيرا في ليبيا، وتنتشر من حين إلى آخر بعض التسريبات التي تخص نشاطه مع الفرقاء الليبيين، لكن من المستحيل أن تحصل من القائمين على المركز على أدنى خبر أو معلومة مهما كانت بسيطة، وهي ممارسة تتنافى مع الحق في الوصول إلى المعلومة وحرية الاعلام عموما.واللافت أن المسؤولين السويسريين يُقبلون على التعاطي السلس مع الإعلام بعد مغادرتهم المسؤولية، وهذا ما حصل مع الرئيس سامويل شميت، الذي قبل الإدلاء بحديث خاص لـ swissinfo.ch بعد خلعه بدلة الرئاسة، فرفع النقاب عما دار بينه وبين الرئيس التونسي آنذاك زين العابدين بن علي في الجلسة الافتتاحية لقمة مجتمع المعلومات التي انعقدت في تونس سنة 2005.فرص مهدورةوفي قطاع الاعلام دوما، مدَ السويسريون يد المساعدة لوسائل الاعلام المحلية كي تواكب التغييرات السياسية الكبيرة التي أعقبت سقوط النظام السابق. وقدمت منظمة “إيروندال” غير الحكومية السويسرية دعما مكثفا بعد الثورة التونسية، في شكل دورات تدريبية للصحفيين وتجهيزات حديثة لإذاعات جهوية في مدن قفصة وتطاوين والكاف، بالاضافة لإذاعة الشباب في العاصمة تونس، بل وساعدت تلك الإذاعات على فتح مكاتب لها في الولايات المجاورة، التي لاتوجد فيها إذاعات جهوية.وعندما تسأل اليوم مسؤولا في إذاعة الشباب عما تبقى من تلك المجهودات المضنية، التي ما كان يُمكن للتونسيين أن يستفيدوا منها في عهد الرئيس الراحل بن علي، تأتيك الأجوبة معجونة بمرارة صريحة من إهدار تلك الفرص، واستطرادا عدم استكمال ما بدأه السويسريون. ويمكن تفسير ذلك بأن المساعدة لم تُقدم لمن يستحق مثل المحطات الاذاعية الخاصة، التي انطلقت منذ 2011 ولا سيما في المناطق الداخلية، بجهودها الذاتية، واستطاعت أن تقاوم ولا تستسلم ولا تقفل أبوابها. واتضح هذا الفارق من خلال الاستفادة النوعية من الدعم الذي قدمته منظمة “إيروندال” لإذاعة “صوت المناجم” في مدينة قفصة، وهي إذاعة جمعياتية، إذ بادرت الاذاعة بتدريب 18 سيدة من تلك المنطقة، مما مكنهن من ابتكار برامج وإنتاجها للإذاعة، في إطار برنامج “الكلمةُ لهن”.صرامة أكثربهذا المعنى كان الدعم سخيا أكثر من اللزوم في بعض الحالات، ودون المستوى الفعال في حالات أخرى، كما لم يتم التثبت من هويات الشركاء المحليين أحيانا، ما جعل المساعدة لا تُوجّه إلى المستحقين، الذين يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم في مرحلة الانطلاق، بالنظر إلى ضعف مراكمة الخبرات المهنية في فترة الاستبداد السابقة. من هنا ربما يحتاج الفعل السويسري الداعم للانتقال الديمقراطي إلى أن يكون أكثر صرامة ودقة في اختيار المنظمات الأهلية والمشاريع الخاصة والمؤسسات العمومية التي تحظى بالدعم، لكي يذهب إلى من يستفيد منه.الآراء الواردة في هذا المقال تخص الكاتب وحده ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء swissinfo.chسلسلة “وجهات نظر”تقوم swissinfo.ch بنشر آراء حول مواضيع مختلفة، سواء حول قضايا سويسرية أو مواضيع لها تأثير على سويسرا. يرمي اختيار المقالات إلى تقديم آراء متنوعة بهدف إثراء النقاش حول القضايا المطروحة. إذا كنت ترغب في اقتراح فكرة لمقال رأي، يُرجى إرسال رسالة إلكترونية إلى arabic@swissinfo.chEnd of insertion
المصدر