نقمة فقدان المحروقات تحولت إلى نعمة بيئية في سوريا
على طول الطريق الدولية التي تصل المحافظات السورية بعضها ببعض، يستطيع أن يتعلم القاصد قيادة السيارة بكل سهولة ويسر، فالطريق شبه فارغ من وسائل النقل التي قد تشكل عائقاً أو مصدر خوف للمبتدئ، فلا وقود في البلاد لتسير المركبات، حيث يستطيع المتدرب، إذا كان من طبقة مقتدرة ويستطيع شراء المحروقات بسعر مضاعف، أن يسير بالسرعة التي يريدها وكأنه في رالي أو سباق مفتوح الأفق.
“المازوت عصب الحياة”
يعمل أبو وديع سائقاً على إحدى الحافلات المتجهة من حمص إلى اللاذقية، وقد أَلِف هذا الطريق الذي يقطعه مرتين كل يوم، لكنه ككل العاملين في هذا المجال يخاف أن يأتيه خبر بين ليلة وضحاها بأن يتوقف عن عمله لعدم توفر مادة المازوت، ويقول “المازوت هو عصب حياة في هذا البلد، فإذا فُقد أو ندر فإن كل شيء سيتوقف، من الزراعة إلى الصناعة والنقل، وهذه أكبر مشكلة قد تحل بنا”.
يتبنى المزارعون وجهة النظر هذه، فمنتجات أرضهم أصبحت اليوم بضاعة كاسدة تحتاج إلى تصريف بأي طريقة، والسبب الأساس في ذلك هو عدم توفر مادة المازوت، وارتفاع سعرها أضعافاً مضاعفة في حال توفرها.
وعن هذا يقول عماد وهو صاحب أحد البيوت البلاستيكية في بانياس، “رغم أنني عشت الأوضاع الاقتصادية المزرية في ثمانينيات القرن الماضي في هذه البلاد، فإن الوضع لم يصل إلى هذا الحد من السوء، فتكلفة الزراعة هذا العام كانت مضاعفة، واليوم لا نستطيع نقلها إلى السوق بسبب ارتفاع أجور النقل وعدم توفرها أحياناً، وإن حصل ونقلناها فإنها ستباع بثمن بخس لأنها لم تعد طازجة، وقلة إقبال المشتري عليها”.
العودة إلى المشي
هذا الوضع دفع الحكومة السورية إلى إعلان تعطيل كل جهاتها الرسمية كل يوم أحد من الأسبوعين المقبلين فقط، وبذلك تقلل من استخدام المحروقات، بخاصة الكميات التي تستخدمها وسائل المواصلات لنقل الموظفين وغيرهم من الطلاب والمواطنين. ونُقل عن أحد المسؤولين أن “هذه الخطوة توفر على البلد مليارات الليرات”.
وبذلك انكفأ بعض السوريين في بيوتهم، ومن لديه عمل لم يعد يعود إلى منزله في فترة الغذاء، بل يأخذ ما يحتاجه معه من الطعام إلى حين عودته مساء، كما عاد البعض إلى المشي على الأقدام لتأمين حاجات اليوم، فانتقلت البلاد من زحمة المواصلات إلى زحمة مشاة.
ويرى البعض في خضم هذه المشكلة بصيص نور ويعبر عن رأي مختلف، فنور شابة في منتصف الثلاثينيات من عمرها تقول، “صحيح أن أعمال الناس تعطلت في هذه الفترة، لكن من الجيد أن نعود لنستخدم أقدامنا في التنقل، فقد أصبحنا كسولين إلى حد ظهور أمراض الركب والظهر وغيرها لعدم استخدامنا أجسادنا بشكل صحيح، فكل شيء أصبحنا نقضيه إما بركوب وسائل النقل المتعددة أو بالطلب عبر الإنترنت، إضافة إلى أن أعمالنا تتطلب إما جلوساً دائماً أو وقوفاً دائماً، وهما حالتان غير صحيتين للجسد فنحن نحتاج إلى المشي وتحريك أجسادنا بأي طريقة”.
بيئة الحرب حتماً ملوثة
إن وجهة النظر هذه تدعم مفهوم الصحة في العالم، بخاصة مع دخول الأرض في ما سُمي أزمة مناخ، التي يُعد أهم أسبابها هو عوادم وسائل النقل والمصانع ومخلفاتها، إضافة إلى ما تسببه الحروب من ضرر على البيئة، فسوريا التي عاشت 10 سنوات من الحرب تقف طبيعتها وإنسانها اليوم على مفترق طرق، فإن توغلت في المجتمع السوري ستلاحظ كثرة الإصابة بمرض السرطان بين الصغار والكبار، والإشارات تدل على ما خلفته هذه الحرب من مواد سامة على البشر والبيئة.
وعن هذا الضرر تحدث أستاذ البيئة الدكتور الحميد عوض في إحدى المجلات العلمية، قائلاً “إن البيئة إذا تعرضت للخطر تعرضت كل الظروف المحيطة بالكائنات الحية للاضطرابات ولسنوات عدة”. وتابع “إن الحروب من الأحداث التي ألحقت وتلحق أضراراً واسعة بالبيئة والموارد الطبيعية وتؤثر في التوازن الإيكولوجي البيئي، وهذه الأضرار لن تؤثر على الجيل الحالي وإنما على الأجيال القادمة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نعمة غير مدركة
ورغم ازدحام الطلب على وسائل النقل القليلة في الشوارع العامة، فإن توقف وسائل النقل وغيرها عن العمل لمدة يوم يعتبر إنجازاً بيئياً مفيداً للإنسان على المدى البعيد، بعكس ما يروج له على أنه مشكلة وتعطيل للأعمال والحياة، فعصب الحياة هو الصحة وليس المازوت وغيره من المحروقات.
ويعد قطاع النقل بشكل عام في العالم المساهم الأكبر في الاحتباس الحراري، والقطاع الأكثر استهلاكاً للوقود بجميع فروعه، من الشحن البحري والطيران، إلى النقل البري. وعلى الرغم من أن معظم القطاعات المتسببة في انبعاثات الكربون قد خفضت انبعاثاتها، فإن النقل زاد من مساهمته في الانبعاثات، إذ إن هذا القطاع هو أكثر القطاعات الملوثة للبيئة نمواً، حيث يتوقع المختصون أن يسهم في ما يصل إلى 50 في المئة من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من قطاع النقل بحلول عام 2050، مقارنة بنحو 30 في المئة حالياً.
وعليه تُعتبر هذه العطلة متنفساً للبيئة لتعالج هذه الكميات من المواد السامة بهدوء ومنح الإنسان هواء نظيفاً يدعم صحته، وهو ما لا يدركه السوريون في الوقت الراهن، فمتطلبات العيش بالنسبة لهم اليوم أهم من هذا الحديث الذي يعتبر ثانوياً الآن.
جودة الهواء
وهم بذلك يسيرون بشكل طبيعي ومتواز مع تأمين أولى الحاجات في “هرم ماسلو”، ورغم أن التنفس أو الهواء يُعتبر من ضمنها، فإن إدراك جودة هذا الهواء ليس في قائمة الأولوية، ولم يدخل حتى اللحظة إلى حيز الانتباه والاهتمام رغم أهميته في وجود الإنسان وصحته. وإذا أهملت جودة الهواء فسيتأثر الطعام بذلك، ولكن اليوم حتى الغذاء لم يعد يهم ما إذا كان صحياً أم غير صحي بالنسبة للأغلبية، فالحد الأدنى للعيش هو المطلوب فقط، أي التمسك فقط بغريزة البقاء التي تسير الإنسان بشكل لا واع.
ومن أكثر الفئات التي تأثرت نتيجة تلوث البيئة والهواء هم الأطفال، وعن هذا يقول أخصائي طب الأطفال الدكتور حسام عبيد، إنه “منذ بداية الحرب حتى اليوم كثرت الحالات الانتهازية التنفسية عند الأطفال، وظهر لديهم حساسية صدرية وسعال شديد، كما أنهم يعانون من قلة كسب الوزن، وهذه تأثيرات جانبية، لكنها تدلنا على وجودنا في بيئة غير صحية”. ونوه الطبيب إلى أن الأطفال في فترة زمنية سابقة لم يكونوا يزورون الطبيب أكثر من مرة أو مرتين في السنة، بينما الآن يأتي الطفل مرتين إلى ثلاثة في الشهر الواحد.
إن مع العسر يسراً
من جهة أخرى، ازداد عدد وسائل النقل المستخدمة في سوريا منذ عام 2007 إلى اليوم، واستطاع عدد كبير من المواطنين اقتناء سيارة خاصة به، ما سبب ازدحاماً مرورياً وزيادة في الطلب على الوقود، وبالتالي تضرر الهواء وارتفاع نسبة التلوث في الجو.
ويبدو أنه في كل مشكلة نعمة غير واضحة المعالم، أو كما يذكر في القرآن الكريم في سورة الانشراح الآية 5 “إن مع العسر يسراً”، لكن هذا اليسر يحتاج إلى من يتفكر به ويراه خلف الوضع الذي رفع منسوب الاستياء بين المواطنين، وذلك بعد أن خرجت حياتهم عن السيطرة وأصبحت تهبط وتدهور كما الليرة السورية أمام الدولار، ولسرعة هذا التدهور فإنهم يتمسكون بالقشة التي تبقيهم على قيد الحياة ولو بنفس قصير أو ملوث، لكن بعض الأحداث قد تسير لصالحهم في العمق ولو بدت غير ذلك. وعن هذا تقول الشابة السورية نور “أنا أومن بأن الحياة والطبيعة تنظف نفسها، رغم كل التلوث الذي يخلفه الإنسان، لكنها تحتاج إلى أن نساعدها، وأعتقد أنه بخطوات صغيرة وبسيطة نستطيع أن نقدم المساعدة ونسهم في حياة صحية لنا ولأولادنا من بعدنا، لذلك فإن ندرة المحروقات والكهرباء هي نعمة في مكان ما لم نلاحظه بعد”.
#نقمة #فقدان #المحروقات #تحولت #إلى #نعمة #بيئية #في #سوريا
تابعوا Tunisactus على Google News