هكذا يشبه كاتب القصة لاعب كرة القدم | حسونة المصباحي
يمكن القول إن سفيان رجب هو راهنا من بين ألمع الأسماء الجديدة في الأدب التونسي الحديث، ومن أغزرها إنتاجا، وأكثرها حضورا في الجدل الذي يدور حول مختلف القضايا الثقافية والفنية.
في البداية أصدر رجب مجموعتين شعريتين عكستا موهبته وحذقه في كتابة قصيدة النثر، لكنه سرعان ما تخلى عن الشعر ليصدر رواية بعنوان “القرد الليبيرالي”، ومجموعة قصصية بعنوان “الساعة الأخيرة”.
وقد لاقت الرواية اهتماما لافتا للانتباه من قبل النقاد والقراء داخل تونس وخارجها. أما المجموعة القصصية فقد كانت ضمن القائمة القصيرة في الدورة الأخيرة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة التي تنظمها سنويا الجامعة الأميركية بالكويت.
كاتب بارع في كتابة النثر والشعر
وبكل ما أسلفنا يكون سفيان رجب قد قدم الدليل القاطع على أنه بارع في كتابة النثر كما كان بارعا في كتابة الشعر. وما يمكن قوله أيضا هو أنه أثبت من خلال الأعمال الشعرية والنثرية التي أصدرها إلى حد هذه الساعة أنه قارئ جيد للأدب العالمي، وأنه متابع نبيه لكل ما هو جديد سواء على المستوى العربي أو العالمي لا شعرا ونثرا فقط، بل وفي مجال السينما والموسيقى والفنون التشكيلية أيضا لتكون له مراجع ثرية نادرة عند أبناء جيله من أصحاب “الوجبات الثقافية السريعة”.
وبما أنه لم يسافر إلا قليلا خارج تونس، فإنه لجأ إلى خياله لينعم برحلات رائعة في جميع أنحاء العالم من خلال الكتب والأفلام، وأيضا من خلال كل ما تتيحه له وسائل الاتصال الحديثة. وهذا ما تعكسه مجموعته القصصية الأخيرة التي جاءت بعنوان “أهل الكتاب الأحمر”، وصدرت منذ أسابيع قليلة في تونس.
اللعب بالكلمات
لقد ذكرتني قصص مجموعة “أهل الكتاب الأحمر”، الصادرة أخيرا عن دار “زينب للنشر”، بالكاتب الأميركي اللاتيني إدواردو غاليانو الذي كان يقول إنه “يكتب مثل لاعب كرة القدم الذي يمرر طوال القصة الكلمات كالكرة لكي ينهي عمله بهدف جميل”. وبالفعل فإن سفيان رجب في جل قصص مجموعته المذكورة يظل يمرر الكلمات، ويلعب بها، ويقذف بها في اتجاهات مختلفة لكي يصل بالقارئ في النهاية إلى ما هو مدهش وغير متوقع. والكلمات عند سفيان رجب تبدو طيعة مثلما تكون الكرة بالنسبة للاعب الحاذق. فهي منصاعة ومطيعة له بحيث لا تقدر على الإفلات منه أبدا، متجنبا كل ما يثقل ويغلظ منها، مروضا إياها لكي يجعل القارئ منجذبا ومشدودا إلى قصته من بدايتها إلى نهايتها.
كما ذكرتني قصص مجموعة سفيان رجب الأخيرة بغاليانو الذي كان يقول “أحاول أن أقول الأكثر بالأقل لأن الأقل هو الأكثر”. وبالفعل يعالج سفيان رجب في “أهل الكتاب الأحمر” العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والنفسية وغيرها من دون أن يثقل على القارئ بالمواعظ الرتيبة، والخطب الطويلة المملة. بل هو يلجأ إلى السخرية المرة، وإلى الدعابة السوداء تماما مثلما كان يفعل غاليانو، محرضا القارئ على أن يمضي معه حتى النهاية فلا يترك الكتاب إلا بعد أن يكون قد أتى عليه من الدفة إلى الدفة. وهذا ما حدث لي شخصيا وأنا مسافر بالطائرة من تونس إلى مراكش في أول يوم من العام الحالي.
بأقل ما يمكن
في النص الأول يسخر سفيان رجب من الذين سمّاهم وفق إصاباتهم كل منهم بـ“متلازمة”، وجميع هؤلاء مصابون بأمراض وعاهات مختلفة، مثل “متلازمة تشي غيفارا”. وهم في غالبيتهم مصابون بـ“ضمور في الشخصية”، ومتلازمة “فئران الكتب الحمراء”. وهم يعشقون اللحى والشعور الطويلة. وهناك “متلازمة باطمان”. وهم من سكان الأحياء الشعبية، وجلهم من الشبان الأميين الذين “لم يفتحوا كتابا واحدا في حياتهم”. والواحد منهم “يمشي مثل الديكة الآسيوية متخيلا نفسه أنه الفحل البشري الأخير في كوكب الأرض”. وأما “متلازمة بوكوفسكي”، الكاتب الأميركي الصعلوك، فهم “يدعون البوهيمية”، وهم يشربون دائما ولا يدفعون، زاعمين أن الفنان مفلس طوال حياته؟ لذا يحق له أن يتمعش من مال الآخرين.
يعالج العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والنفسية وغيرها من دون أن يثقل على القارئ
ومثل إدواردو غاليانو، يخيّر سفيان رجب أن ينطلق من حياة الناس اليومية في غدوهم ورواحهم لتكون مادة خصبة لقصصه التي قد لا تتجاوز أحيانا الصفحة الواحدة، أو أقل من ذلك مثلما هو الحال في قصة “الجندي الوحيد الذي لم يشارك في المذبحة والتي يروي فيها قصة جيش تركي التقى بجيش أرمني في سفح جبل أرارات. وقد أسفرت المعركة الطاحنة بينهما عن مئات الآلاف من القتلى من الجانب الأرمني. أما الجيش التركي فقد خسر قتيلا واحدا يدعى ناظم حكمت. وهذا القتيل لم يشارك في المعركة، بل كان يراقبها من بعيد، وتحديدا من “ثقب التاريخ الرسمي لتركيا الحديثة”.
في مجموعة “أهل الكتاب الأحمر” العديد من القصص التي تعكس أوضاع تونس الاجتماعية والسياسية بعد انهيار نظام بن علي، وما اتسمت به من فوضى، ومن همجية، ومن عنف، ومن تمدد أصولي، ومن تجارة بالدين، ومن انتهازية لدى أشباه المثقفين، ومن شعوذة سياسية يحاول أصحابها أن يقنعوا الناس بأنهم قادرون على أن يوفروا لهم الجنة على الأرض، وفي العالم الآخر أيضا. وكل هذا يقوله سفيان رجب بـ“أقل ما يمكن”، ومن دون بلاغة جوفاء، أو شعارات فضفاضة.
الصورة من المصدر : alarab.co.uk
مصدر المقال : alarab.co.uk