هل يريد الغرب إسقاط “الاستبداد” أم احتواءه؟
فحتى فرنسا التي دافعت عن المخلوع إلى يوم 13 كانون الثاني/ يناير 2011، باعتبار تونس حديقتها الخلفية وجزءا من مجال نفوذها التقليدي ثقافيا واقتصاديا في جنوب المتوسط، استطاعت أن تمتص الصدمة وأن تتكيف مع الواقع الجديد، ولكنها عملت – بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي ومع بعض الفاعلين الإقليميين والمحليين – على “احتواء” الانتقال الديمقراطي بصورة تمنعه من التحكم الذاتي في مصيره، أي تمنعه من تحقيق مقومات السيادة ومن إمكانية التحول إلى نموذج لباقي الثورات العربية آنيا ومستقبليا، أي “قابلية التصدير”.
لفهم المواقف الدولية والإقليمية من “إجراءات 25 تموز/ يوليو”، قد لا يكون علينا فقط أن نعود إلى مواقف تلك القوى من “الثورة” ومن الفاعلين الجماعيين في إدارتها منذ “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي”، بل قد يكون علينا العودة إلى مواقف تلك القوى من نظام المخلوع. فخلال 23 سنة من حكم هذا الأخير، لم يكن هناك أي انتقاد جدي لواقع الفساد البنيوي في تونس ولا لقمع الحريات الفردية والجماعية، بل كان المخلوع يتمتع بحماية دولية رسّخها تطبيعه مع الكيان الصهيوني (فتح مكتب للكيان في تونس ومكتب تونسي في الكيان برئاسة خميس الجيهناوي)، وكذلك تشجيعه “السياحة الدينية” إلى معبد الغريبة بجزيرة جربة، والتعاون اللا مشروط مع الغرب في ملف “مكافحة الإرهاب”، وفي ملف مواجهة الخطر “الشيوعي” عبر تسهيل تحرك “الجهاديين” التونسيين إلى مواطن النزاع في أفغانستان وغيرها.
لفهم المواقف الدولية والإقليمية من “إجراءات 25 تموز/ يوليو”، قد لا يكون علينا فقط أن نعود إلى مواقف تلك القوى من “الثورة” ومن الفاعلين الجماعيين في إدارتها منذ “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي”، بل قد يكون علينا العودة إلى مواقف تلك القوى من نظام المخلوع
لقد كان المخلوع بن علي عميلا “جيدا”، وكان نظامه نظاما مقبولا من منظور القوى الغربية. فهو لم يمسّ مصالح تلك القوى في تونس، خاصة مصالح فرنسا الاقتصادية والثقافية، وكان مستعدا لتنفيذ الإملاءات الغربية اقتصاديا (الإصلاح الهيكلي وخصخصة العديد من المنشآت العمومية)، والديبلوماسية (التطبيع مع الكيان الصهيوني)، والثقافية (تكريس الهيمنة الفرنسية على التعليم والإدارة رغم التعريب الشكلي)، والأمنية (مكافحة الإرهاب ومواجهة القوى المنافسة للغرب). وكان ذلك كافيا للتغطية على فساده المالي هو وأصهاره وأقاربه والمتنفذون في نظامه (سرقة آلاف المليارات وتحويلها لحسابات في الخارج)، كما كان ذلك كافيا أيضا لغض البصر عن جرائمه في حق الإسلاميين وغيرهم من المعارضين لنظامه. فواقع الحريات/ الحقوق الفردية والجماعية هو “مسألة داخلية” لا تهمّ الغرب ما دامت لا تهدد المصالح الغربية في تونس، ولا تهدد جديّا النظام التابع والمستلحق وظيفيا بمراكز القرار الدولية.
كان السؤال الرئيس الذي طرحته الثورة التونسية على الديبلوماسية الغربية هو التالي: كيف يمكن توجيه هذا الحدث – أو هذا الانكسار البنيوي في الحقل السياسي التونسي” – بصورة تجعل “النظام الجديد” يحافظ على الدور التقليدي للمنظومة القديمة دون أن يفقد “شرعيته” المرتبطة بالثورة ذاتها؟ أو كيف يمكن تشكيل مشهد سياسي تُصعّد فيه “صناديق الاقتراع” نخبا “سياسية” تؤدي الدور نفسه الذي كانت تؤديه النخب “الوظيفية” في نظام استبدادي؟ ولأن الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى تفصيلات لا يتسع لها هذا المقال، فإننا سنكتفي بأهم النقاط التي حكمت تلك الاستراتيجية ألا وهي:
– اعتماد منطق استمرارية الدولة لشرعنة وجود رموز النظام السابق وتحكيمهم في إدارة المرحلة التأسيسية (رئيس الجمهورية، الوزير الأول، كاتب الدولة لدى وزير الخارجية، السفراء والقناصل، القيادات الأمنية، الإعلاميين.. الخ).
– تقوية الاتحاد العام التونسي للشغل – الشريك الاجتماعي للنظام القديم في لحظتيه الدستورية والتجمعية – وذلك لأن حل الحزب الحاكم زمن المخلوع كان يقتضي استبداله بـ”ماكينة” جديدة للتعبئة والتجييش. وكان ذلك يقتضي “تبييض” المركزية النقابية المتواطئة مع النظام السابق والدفع بها نحو مركز السردية الثورية، تمهيدا “للتطبيع” مع ميراث المخلوع بدعوى “حماية النمط المجتمعي التونسي”.
– تغذية الصراعات الهوياتية والانقسامات المجتمعية على أساس قضايا دينية باستغلال الخطر الإرهابي وتوظيفه لتحقيق أهداف سياسية: إسقاط الترويكا، تحجيم حركة النهضة ودفعها نحو التطبيع مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة، وهو ما حصل بعد انتخابات 2014. كما وُظفت تلك الصراعات لتخفيف الضغط عن المنظومة القديمة وورثتها، وذلك بحرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى صراع بين “الحداثيين” و”الإسلاميين”؛ لم يستفد منه واقعيا إلا النواة الصلبة للمنظومة القديمة وما يرتبط بها من شبكات فساد سياسي واقتصادي ونقابي وإعلامي وثقافي.
– فرض البورقيبية باعتبارها “خطابا كبيرا”، أي باعتبارها ذلك الخطاب المرجعي الذي تستمد جميع الخطابات المتنافسة شرعيتها بمقدار اقترابها منه، وتفقدها كلما ابتعدت عنه. ولا شك في أن البورقيبية – رغم مكاسبها التي لا تُنكر – لم تكن هي السردية الأنسب لإدارة الثورة، خاصة وأن ميراثها كاد ينحصر واقعيا في عبادة الزعيم والجهوية والزبونية والتبعية الثقافية والاقتصادية لفرنسا.
لقد نجحت استراتيجية “الاحتواء” في تحويل “الجمهورية الثانية” إلى لحظة ثالثة في الجمهورية الأولى بعد اللحظتين الدستورية والتجمعية. فخلال عشر سنوات، كانت الديمقراطية التمثيلية ومختلف وسائطها مجرد “وكيل جديد” أو مجرد حارس “سيئ” للخيارات الكبرى للمنظومة القديمة. فبعد أن أورثنا نظام المخلوع مديونية عمومية تفوق 22 مليار دولار سنة 2010، أصبح الدين العام سنة 2021 يفوق 41 مليار دولار.
الغرب قد أعطى النخب الحزبية “عشرية” كاملة لإظهار فاعليتها في إدارة التخلف والتبعية تحت يافطة “الانتقال الديمقراطي”، وكان المطلوب منها هو عدم الوصول بالبلاد إلى حالة الإفلاس، أي عدم بلوغ مرحلة العجز عن الوفاء بالالتزامات تجاه الجهات المانحة/ الناهبة، ولكنّ “الأجسام الوسيطة” في الديمقراطية التمثيلية عجزت عن تحقيق هذا المطلب
ومهما حاولنا تفسير هذا الوضع بتضخم المطلبية الاجتماعية أو نفقات تسيير الدولة أو بكلفة بعض المشاريع العمومية، فإن الثابت هو سوء إدارة النخب السياسية وشركائها الاجتماعيين لهذه المرحلة، بل إن الثابت أيضا هو أن تعددية السلطات ولا مركزيتها قد عرفت ظاهرة موازية هي تعددية شبكات الفساد ولا مركزيتها. فبعد مرحلة عرفت فيها تونس “مركزة” للسلطة وللفساد، صرنا بعد الثورة نعيش مرحلة تتحكم فيها مراكز قوى حزبية ومالية متنازعة من جهة المصالح، ولكنها متواطئة من جهة تبديد المال العام ومن جهة التفقير الممنهج للمواطنين وتضخيم الدين العام دون توفير أي ضمانات لتسديده (كان هذا الدين 100 مليار دينار تونسي سنة 2020 وأصبح 112 مليار دينار سنة 2021).
مهما كان موقف التونسيين من “إجراءات 25 تموز/ يوليو”، ومهما كان دور بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية في الدفع نحو القرار الرئاسي ومراسيمه اللاحقة، فإن المنطق “البراغماتي” للقوى الغربية سيجعله يمارس معها سياسة “الاحتواء” ذاتها التي مارسها مع الثورة. فالغرب قد أعطى النخب الحزبية “عشرية” كاملة لإظهار فاعليتها في إدارة التخلف والتبعية تحت يافطة “الانتقال الديمقراطي”، وكان المطلوب منها هو عدم الوصول بالبلاد إلى حالة الإفلاس، أي عدم بلوغ مرحلة العجز عن الوفاء بالالتزامات تجاه الجهات المانحة/ الناهبة، ولكنّ “الأجسام الوسيطة” في الديمقراطية التمثيلية عجزت عن تحقيق هذا المطلب. ونحن لا نقصد بالأجسام الوسيطة الأحزابَ فقط، بل الشركاءَ الاجتماعيين أيضا، خاصة الاتحاد العام التونسي للشغل. ولعل ذلك هو ما يفسّر الضغط “المحتشم” الذي مارسته القوى الغربية (أمريكا والاتحاد الأوروبي) على الرئيس التونسي إلى حدود كتابة هذا المقال.
فمركزة السلطة التي تشرعنها “حالة الاسثناء” وعلوية المراسيم على القوانين والدستور ذاته، وعدم قابلية تلك المراسيم للطعن أمام أية هيئة رقابية، قد تمثّل فرصة تاريخية لفرض “إصلاحات موجعة” لا يمكن تمريرها؛ حتى في ظل ديمقراطية صورية تتغوّل فيها الأحزاب والنقابات وتخضع قرارات الحكام فيها للرقابة الشعبية وللنقد الإعلامي.
ليس بين الخضوع إلى إملاءات الجهات المانحة من جهة أولى، وبين “التطبيع” مع الكيان الصهيوني من جهة ثانية؛ إلا خطوة لن يعدم الرئيس ألف حجة لتبريرها، ولن يعدم كذلك ألفَ ترحيب إقليمي ودولي للقيام بها
إذا كان التونسيون مشغولون خلال “حالة الاستثناء” بسؤال المحافظة على “الانتقال الديمقراطي” على اختلافٍ بينهم في فهم هذا الانتقال ومكوّناته وغاياته، فإن السؤال الأهم لدى الدول الغربية – بعيدا عن ادعاءاتهم الديمقراطية المناصرة لحق الشعوب في الحرية والسيادة – هو كيفية “احتواء” حالة الاستثناء لفرض إملاءاتهم في ملفين أساسيين: أولا ملف الإصلاحات الاقتصادية وما يستوجبه من إجراءات “لا شعبية”، مثل رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات، وبيع بعض المنشآت العمومية، وتخفيض النفقات العمومية، والحد من الفساد الإداري وتحجيم دور النقابات، وثانيا ملف التطبيع مع الكيان الصهيوني وتقوية محور المساندة لصفقة القرن.
ولا شك عندنا في أن الانتقاد الغربي للرئيس ومراسيمه ليس إلا جزءا من استراتيجية الاحتواء. إنه نوع من “الابتزاز” أو من “التهديد” الذي يُبقي السلطة بين يدي الرئيس لكن بصورة هشة، وهو ما يعني أنّ الرئيس التونسي سيكون مضطرا للاختيار بين مسارين مختلفين للتسوية وللخروج من حالة الاستثناء: مسار داخلي يبدو مستبعدا بحكم رفضه المتكرر لأي حوار وطني أو لأي تراجع عن إجراءاته منذ 25 تموز/ يوليو، ومسار خارجي يبدو راجحا بحكم الوضعية الاقتصادية الهشة والمحتاجة إلى دعم مالي خارجي، وكذلك بحكم انحياز الرئيس المعروف إلى محور الثورات المضادة الذي تنتمي كل دوله إلى “محور التطبيع”. وليس بين الخضوع إلى إملاءات الجهات المانحة من جهة أولى، وبين “التطبيع” مع الكيان الصهيوني من جهة ثانية؛ إلا خطوة لن يعدم الرئيس ألف حجة لتبريرها، ولن يعدم كذلك ألفَ ترحيب إقليمي ودولي للقيام بها.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
#هل #يريد #الغرب #إسقاط #الاستبداد #أم #احتواءه
تابعوا Tunisactus على Google News