هل يمكن للمسرح العربي مواجهة اليأس والواقع المحبط | محمد ناصر المولهي
قدمت أيام الشارقة المسرحية في دورتها الحادية والثلاثين عددا من الندوات التي كانت بمثابة فرصة لكشف أهم رهانات المسرح العربي اليوم، وتطلعاته المستقبلية.
وشارك نقاد ومسرحيون من تونس ومصر والسودان والمغرب والإمارات والأردن في تقديم ندوتين، كانت الأولى بعنوان “المسرح نافذة أمل” انتظمت على جلستين، وندوة بعنوان “المرأة العربية وتحديات مهنة الإخراج”.
النكسة والكوميديا
في أولى ندوات “المسرح نافذة أمل”، قدم كل من الأكاديميين السوداني راشد مصطفى والمصري سامي سليمان ورقة بحثية بتأطير من الإماراتي عبدالله راشد، الذي أكد في تمهيده للندوة على أهمية الأمل في المسرح.
وجاءت مداخلة سليمان بعنوان “المسرح والأزمة جدل التحدي والاستجابة السوسيوجمالية”، اعتبر فيها أن لدينا شوقا للخروج من واقع الجائحة، ولا يتحقق ذلك إلا بالثقافة والفن.
وقال “الفن لقاء الإنسان بالإنسان وحلم بغد أفضل وأكمل”، ليتطرق لاحقا إلى تقديم قراءة ثقافية في بعض النصوص ما بعد نكسة 1967.
وكشف سليمان عن الأساس الأنطولوجي لتأثير المسرح، منطلقا من قراءة في مسألة التطهير بين المفهوم الأرسطي والمفاهيم المعاصرة، فالمسرح في تلقيه يقوم بين التوحد والانفصال، التوحد مع عناصر العرض، والانفصال الذي رسخه بريشت. وإن إدراك أرسطو لهذا جعله يرى أن التراجيديا عامة والمسرح خاصة يحقق التطهير من الخوف والشفقة.
وتابع “خطاب العرض المسرحي نموذج بالغ الكثافة، موسيقى وأضواء وأداء علامات تنتج نظما، تخلق حالة من حالات الكثافة تجعل الفن مؤثرا في متلقيه. ومثل هذا الفهم يتيح لنا أن نستكشف جذور الأمل في الأزمات التي نعيشها. ويمكن بسط أو مد هذا التطهير بالنظريات المعاصرة مثل تلقي الكوميديا. فالكوميديا تقدم لنا أشخاصا يرتكبون أخطاء فنشعر أننا أعلى منهم، ولكننا نشعر أن ما يقدم أمامنا يمكن أن يفتح البصائر نحو واقعنا”.
وشدد سليمان في ورقته على أن تأثير المسرح اجتماعي وجمالي بالأساس، ذلك أنه خطاب تنتجه مجموعة أشخاص لا شخص واحد، لذا فهو يلعب دورا أساسيا في اكتشاف إمكانات الوجود الإنساني.
وبين الباحث أن المسرح ينتج تمثيلات ثقافية مثله مثل اللغة، فهو إذن خطاب ثقافي، بل هو أكثر الخطابات حملا لمضمون الخبرة الإنسانية، على اعتبار أن اللغة خطاب ثقافي ذو طبقات شديدة التراكم. موضحا أنه لنا أن نقرأ المسرح ثقافيا، كيف يشكل العرض عناصره كعناصر ثقافية.
ووقوف سليمان عند حالة المسرح المصري، وصولا إلى مسرحية “يا سلام سلم الحيطة بتتكلم” الكوميدية. منطلقا من أن المسرح يمكنه أن يستجيب اجتماعيا وجماليا، وهذا ما تؤكده انتكاسة 67 التي كانت شاملة ومثلت تحديا أمام المجتمع والثقافة بشكل خاص، فانعكست على جل المشهد الثقافي والفني والمسرحي بشكل خاص.
وقد مثلت النكسة، كما بين سليمان، خطرا كبيرا على الذات المصرية والعربية، فحاول منتجو الثقافة الإجابة عن سؤال لماذا وقعت الهزيمة وكيف يمكن تجاوزها؟ مساءلة جاءت بحثا عن الأسباب والعناصر. وهنا برزت نصوص سعدالدين وهبة مثل “مسامير”، “يا سلام سلم”، نصوص تمثل استجابة اجتماعية جمالية للأزمة. فكان المسرح محاولة للارتفاع باللحظة التاريخية إلى الفن الذي يكشف الخلفيات ويتطلع للمستقبل.
وفي تحليله لمسرحية “يا سلام سلم الحيطة بتتكلم” يبين أنها تقوم على جزأين، الأول أنه كان هناك حائط يتكلم، اتجه إليه الناس لحل مشكلاتهم، أما الجزء الثاني فهو أن وراء الحائط من يتكلم. وصنعت المسرحية خطابها عبر عدة تقنيات، تأكيدا على أن هناك خطابا ناتجا عن النص، وخطابا ينتج مع المتلقي.
وقال “العناصر التاريخية محدودة جدا في هذا النص، حيث يملأ الكاتب الفجوات التاريخية بعناصر ثقافية لإنتاج خطابها. والتأثير في المتلقي”. معتبرا أن الكوميديا تمثلت في استخدام الحائط كلغة مركبة باثا عناصر سخرية تمثل نوعا من المتنفس للمشاهدين. محققة التحول المستمر من الهزل إلى الجد ومن الجد إلى الهزل.
مساءلة ونقد
قدم راشد مصطفى في ورقته بعنوان “سعدالله ونوس الجوع للحوار والأمل” لمحة عامة كيف تعرض المسرح العربي لقضية الأمل.
معتبرا أن “الأمل سؤال محوري منذ المؤسسين مارون النقاش وأبوخليل القباني. هو شعور أكثر من كونه فكرة، ولكن سؤال الأمل هو البديل لسؤال اليأس. فالأمل حالة من حالات المقاومة ضد الغيبوبة الطويلة للشعوب العربية، وأيضا سؤال الوعي يحاول أن يكون دافعا للأمل والبناء وتجاوز الواقع المتهالك”.
وبين أن المسرح العربي حاول تحقيق مرحلة الإدراك الكامل لتجاوز حالة التمثل، وهو ما سعت إلى ترسيخه بيانات عدد من المسرحيين العرب مثل سعدالله ونوس، الذي توقف عنده باستفاضة.
وأشار إلى أن المسرح بعد هزيمة 67 غلبت عليه الشكوى دون تشخيص حقيقي، وانتقل سعدالله ونوس من ذلك إلى محاولة الوعي بأسباب المشكلة، معتمدا على الأمل وتوليد الأمل من استقراء أسباب الهزيمة إلى الدعوة للثورة. وشخص ونوس الواقع ليفتح نوافذ أخرى للحوار، ولينشأ معه مسرح ديمقراطي عربي نظيرا لمسرح جورج لوكاش.
“المسرح نافذة أمل” ندوة ناقشت أهمية الفن المسرحي في بعث الأمل وتأثيره العميق وقت الأزمات البشرية
مداخلات الحضور إثر الندوة كانت ناقدة لمحتوى الورقتين، فقد رأى الكاتب والأكاديمي التونسي كمال الشيحاوي أن الأمل مرتبط بالمستقبل. لكنّ المداخلتين تناولتا نماذج من الماضي. مر عليها أكثر من نصف قرن. معتبرا أن العالم العربي عاش ويلات أخرى وما يواجهه اليوم المسرح أكثر تعقيدا.
أما المسرحي عجاج سليم من سوريا فاعتبر أن هزيمة 67 التي تطرقت إليها المداخلتان ما هي إلا معركة صغيرة مقارنة مع راهن الواقع اليوم والحرب الشاملة، لافتا إلى أن بيانات ونوس بيانات مثقف جالس في البيت. البيانات الحقيقية هي ما يقوم به الشباب. ولذا علينا التركيز على ضرورة كسر الأطواق الاقتصادية والسياسية واحتكار المؤسسات الرسمية للمسرح والثقافة.
أما المسرحي البحريني يوسف الحمدان فقد قال “انتظرنا البحث التفكيكي حول ماهية الأمل، وأن يقترب الخطاب من طرح أسئلة كثيرة خاصة حول شباب يكتبون برؤى معاصرة مختلفة”.
بينما تساءل الأكاديمي محمد الوادي إن كانت نظريات التلقي الألمانية، التي اعتمدتها ورقة سليمان، ما زالت صالحة لمقاربة واقع اليوم بما يشهده من ثورة تكنولوجية.
وظائف المسرح
في اليوم الثاني من الملتقى الفكري للأيام حول المسرح والأمل قدم الأكاديمي المغربي عمر الرويضي ورقة بعنوان “المسرح أفقا للتفكير هامشا للتأمل ووصفة للعلاج”، معتبرا أن المسرح يحقق المتعة وتكمن قدرته اللامتناهية على إعمال العقل وترشيد اختياراته.
وتطرق إلى المسرح العلاجي كشكل من أشكال التخطي، مبرزا ظهور هذا النمط المسرحي مطلع القرن العشرين في محاولة لإيجاد خيط ناظم بين المسرح كإبداع فني وعلم النفس، فالدراما ما هي إلا نموذج له امتداد تاريخي لنقل الخبرات الإنسانية والقيم المعرفية والثقافية، لذا فالمسرح مدرسة تركز اهتمامها حول الذات البشرية، ويمكنه أن يقدم الدور العلاجي بشكل مؤثر.
وأشار الرويضي في ظل سقوط الأيديولوجيات والتفكك الثقافي وسقوط الأسئلة، الذي يعيشه البشر في عدم طرح بدائل تضاعفت حالات الفراغ واليأس والسخرية واللامبالاة وهو ما يتصدى له المسرح.
وتطرق إلى المسرح السياسي وفلسفة التخطي، إذ يناقش هذا المسرح الوضع الفعلي بكل تناقضاته ويطرح القضايا الكبرى التي تؤرق المجتمعات، كما تناول قضية المسرح والتعافي من الفشل الدراسي، مشددا على أن المسرح المدرسي وريث شرعي لمسرح الطفل، وعلى أدوار المسرح الثقافية والتربوية.
وشدد على أن تقاطع المسرح مع الفنون الأخرى جعله يحظى بالصلاحية الكاملة في خدمة الإنسان والدفاع عن قضاياه.
وقدم الأكاديمي والكاتب التونسي كمال الشيحاوي مداخلة بعنوان “المسرح ضد اليأس” منطلقا فيها من اعتبار المسرح “فنّا مفرط الإنسانية”. ومشيرا إلى أن جائحة كورونا مثّلت فرصة أخرى لتجديد التفكير في جدوى هذا الفنّ.
وبدأ الشيحاوي من تساؤلات حول “كيف يزرع المسرح الأمل وينمّيه ويشجّع عليه؟ كيف يمكن للعروض المسرحية أن تكون تمارين فكرية وروحية لبناء وإشاعة ثقافة الأمل وترسيخها وللتدرّب على قبول التنوّع والاختلاف والتصالح مع قيم التنوير والحداثة؟”.
واعتبر أن وظيفة التطهير “الكاتارسيس” التراجيدي وهي الوظيفة التي اقترنت بوجود الفن الرابع منذ البداية والتي من خلالها يقوم بتنقية البشر من أهوائهم، أما الوظيفة الثّانية للمسرح فهي ترسيخ الواقعية. فالمسرح، كما قال، حالة فنّية واقعية بالكامل، يكون فيها البشر/الجمهور في مواجهة البشر/الممثلين بصورة مباشرة وحيّة.
وقال “لقد كان المسرح دوما عبر مسيرته التاريخية الطويلة حاملا للقيم، ولم يكن مجرد فرجة ممتعة خالصة”.
وقدم الباحث لمحة عن تاريخ المسرح التونسي في عصور سابقة، ثم انقطاعه وعودته بعد قرون وعودة التونسيين إلى فن المسرح تأثرا بالغرب تحديدا. مبينا أن المسرح الخاص لم يظهر بشكله الجديد المحترف في تونس إلاّ في نهاية الستينات وبداية السبعينات مع الفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري ومحمد إدريس وجليلة بكار في ما عرف بـ”المسرح الجديد”.
وختم ورقته قائلا “لقد كان المسرح دائما يواجه مختلف الصّعوبات والتحدّيات الاجتماعية والحضارية بتحويلها إلى سرديات درامية وتمارين روحية تدرّب على تعزيز الثّقة بالنفس وكسر الخوف ومقاومة اليأس والعدمية وفتح آفاق الأمل والثقّة في مستقبل أفضل وما يزال وسيبقى فضاء لامتحان قدرتنا على قبول الاختلاف وفضاء لتجريب الحوار والصراع بوسائل سلمية تحمينا من الانزلاق للتقاتل. وهو لهذه الأسباب يعدّ فنّا ديمقراطيا بامتياز. وبه وبانتشاره تقاس درجة تقدّم المجتمعات ومساحة التسامح والقبول بالتعدّد فيها”.
نساء مخرجات
قدمت أيام الشارقة المسرحية ندوة بعنوان “المرأة العربية وتحديات مهنة الإخراج”، قدمتها كل من المخرجة التونسية وفاء الطبوبي والأكاديمية المصرية هادية عبدالفتاح والمسرحية الأردنية دلال فياض.
وتطرقت الطبوبي في مداخلتها إلى أهمية التوثيق، كاشفة أهم ما تواجهه المرأة المخرجة في هذا المجال من تحديات، وهو ما ذهبت إليه أيضا هادية عبدالفتاح مشددة على ضرورة دعم المخرجات، خاصة وأن أغلب المسارح رجالية، مؤكدة أن التمويل ليس هو العائق الوحيد، بل هناك أيضا النظرة التقليدية للمرأة كأم وزوجة، وهو ما دفع كثيرات إلى عدم اسكمال مشوارهن الفني.
أما دلال فياض فبينت أنه ثمة فهم مخلوط بين المرأة كمفهوم ثقافي والمرأة كهوية بيولوجية. إذ توضع كل نساء العالم في سلة واحدة والرجال أيضا، فأصبح تعريف الأفراد يقوم على تقسيم جنسي.
وبينت أن للتمييز ضد المرأة جذورا تاريخية قديمة، فمثلا صورة المرأة في ملاحم جلجامش تظهرها في صورة الخائنة العابثة المستهترة، وصورة المرأة في الفلسفة أيضا وضعتها في مرتبة دونية، لذا فعقيدة الحريم لها جذور تاريخية.
وأشارت إلى أن أرسطو مثلا اعتبر النساء والعبيد طبقة دنيا، وحتى الأديان تأثرت بتفسيرات أرسطو، وحتى في المسرح كانت تعامل بدونية.
وبينت فياض أن المرأة المخرجة تواجه عدة تحديات منها الخصوصية الجندرية بدل الإبداعية، وتسليع الفن، كما أن التضامن مع المرأة يثبت أنه لا يتم التعامل معها جديا وفنيا فقط.
#هل #يمكن #للمسرح #العربي #مواجهة #اليأس #والواقع #المحبط #محمد #ناصر #المولهي
تابعوا Tunisactus على Google News