وليد علاء الدين يكتب: رباعيات أيمن بكر كتابة الفينيق
نشر في:
الجمعة 9 سبتمبر 2022 – 6:34 م
| آخر تحديث:
الجمعة 9 سبتمبر 2022 – 6:34 م
«رباعيات»؛ هكذا لم يمنح أيمن بكر ديوانه الصادر ضمن سلسلة ديوان الشعر العامى بالهيئة المصرية للكتاب، اسمًا، مكتفيًا بنسبته إلى نوعه الفنى، ليسمح ــ ربما ــ لفكرتى الضبايبة بأن تتكثف فى كلمات: فى ظنى أن بكر لم يكتب هذا النوع من الفن لمجرد إحياء تراث قولى مصرى، أو لتطوير نوع إبداعى، وإن كان إنتاجه يضيف إلى هذا الحبل المضفور خيطًا جديدًا، إلا أن هذا التطوير أو هذه الإضافة لم تكن دافعه للكتابة.
أقول هذا القول، مستندًا على أمرين: الأول معرفتى الشخصية بالشاعر ــ وهى هنا لم تعد شخصية إنما أحد مدخلات التفكير. والآخر هو اطلاعى على جلّ تجربته الأدبية والفكرية.
الرباعيات ــ كما أراها من خلال تتبع نشأتها ــ فن مرتبط بالبدايات الملموسة لتشكل الهوية المصرية فى فترة حكم المماليك. إنها إحدى تجليات لحظات الانصهار المتكررة للمجتمع المصرى، التى يعيد فيها صياغة ذاته من أجزائه، ليدمج فسيفساء عناصره فى لوحته من جديد. تمامًا كما يفعل الفينيق، طائر الأسطورة الفرعونية المصرية المذهل.
و«الرباعيات» واحدة من أهم أشكال الفنون القولية التى تشكلت خلال عملية إعادة إنتاج المجتمع المصرى لذاته، منذ نهايات العصر العباسى وبدايات الدولة المملوكية، من خلال التفاعل الحى بين فسيفساء ثرائه العِرقى والدينى والمذهبى. وهى بهذا المعنى، مرتبطة بتحول الشارع المصرى، بطبقتيه الشعبية والوسطى، ونمو مقدرته على التعبير عن مشاعره، وصياغة أفكاره وأحلامه وهواجسه ومخاوفه باستخدام مفردات تخصه، تجمع العربية ــ التى لم تعد عربية، والفارسية ــ التى لم تعد فارسية، والتركية ــ التى لم تعد تركية.. وغيرها من لغات خلق الله، مع إتقان طريقته الخاصة فى التربيع، الذى يعزوه البعض ــ استسهالًا ــ لفن الدوبيت الفارسى، وفى ظنى أن الأمر أعقد وأقدم من ذلك بكثير.
لم يكن أيمن بكر، وهو يخصص هذا الديوان لفن المربعات، الباحث الأكاديمى الذى أنتج بحثيه للماجستير والدكتوراه حول «السرد فى مقامات الهمذانى»، و«تعدد الرواية فى الشعر الجاهلى». ولا الناقد المُجيد فنّ تفكيك الظواهر واقتناصها فى مصطلحات دالة كـ«المفكر الرقاصة»، و«الناقد البلاتينى»، و«الأنانصية» وغيرها من مصطلحات بناها بدأب عبر الملاحظة العلمية الجادة لظواهر تفشت فى حياتنا الثقافية، وتعهدها بالدرس والتحليل والشرح. ولا هو الشاعر الذى هضم بقراءة متأنية تاريخ المصريين القدماء ليعالج مشاعر انبهاره به، فى ديوانه شديد الرهافة «متون الساحر»، ولا الأديب صاحب رواية «الغابة» المختلفة بناءً وطرحًا.
والمربعات، كما أفهمها، ليست مجرد شكل من أشكال التعبير الأدبى التى يقصد إليها الكاتب عامدًا الإنتاج فيها، إنما هى دالة ثقافية وطريقة تفكير؛ إنها أحد فنون الشعوب، فالأفريقى يرقص رقصته التى يطاوعه جسده فيها، والهندى كذلك. الفلاح له موال، والصعيدى له موال وكفّ ونميم ومربعات. إنها أشكال تعبير تشبه أصحابها، وإن لم يكونوا يشبهونها مثلما تشبههم، فسيصبح الأمر مثل لف العمامة على رأس الأجنبى، مهما أجدنا اللفة فلن نحصل سوى على أجنبى يضع عمامة ملفوفة بشكل جيد.
كتب أيمن بكر هذه المربعات لأنه يشعر بهذه الطريقة ويفكر بها، وإن كان بدعمٍ من محركاته التى بناها بوعيه الناقد ودرسه الأكاديمى. وفى ظنى أن هذا الأمر هو الأقرب للطبيعة؛ أن تظل الجمرةُ الأصلية للروح متقدة، وأن تكون كل معطيات الفكر، والمنهج العلمى، والبحث الأكاديمى أدوات فى خدمتها. وفى ظنى أيضًا أننا بتلك الطريقة فقط ننجح فى تجنب الاستنساخ الذى يجعل جلّ الأكاديميين متشابهين، ويحول الكثيرين إلى مسوخ وأطياف وظلال لآخرين، حين يظنون أن البحث والعلم والعقل الناقد أمورٌ لا يستقيم معها الاحتفاظ بجمرة الروح الأصيلة، ناهيك عن النفخ فيها بمهارة محسوبة لتشتعل وتتوهج.
من يتابع إنتاج أيمن بكر المتنوع فى الشعر بلهجتيه الكلاسيكية والمصرية، وفى الدراسات النقدية، وفى الرواية، سوف يكتشف أن هذه الرباعيات المكتوبة بالعربية المصرية هى الرابط الجذرى بينها جميعًا، هى الجذوة التى أشرنا إليها، هى مصريته الفائقة وإنسانيته. وبين شِقّى هذه الثنائية: المصرية والإنسانية، يمكن تفسير كل نتاج أيمن بكر.
ومن نافلة القول إن مصرية أيمن بكر ليست تلك المصرية الشوفينية العمياء، ولا هى المصرية المتكبرة الجوفاء التى لا تعرف سر عظمتها، ولا تلك المتخاذلة المتراجعة أمام زحف الثقافات. لكنها مصرية العارف بأن مصر حالة إنسانية اجتماعية ثقافية فى المقام الأول، مصرية طائر الفينيق الذى يحترق كلما آن الأوان ليصهر كل أشكال التصنيف العرقى والسياسى والدينى، منطلقًا مرة أخرى بمصريته بعد أن أحاط بكنه مكوناتها.
فالمصرية التى يمثلها أيمن بكر ومن فى مستوى وعيه، هى ذلك الرصيد الحضارى والمنتج الإنسانى المذهل المسافر عبر آلاف السنين، سفرٌ يتعتق فى المكان فيزداد عراقة ونضجًا ووعيًا، ويزداد ناسه ارتباطًا به. من يعرف ذلك يمضى مطمئنًا كصائغ يعرف أن الجوهر الأصيل ــ وإن خبت لمعته لإهمال طاله، يظل جوهرًا أصيلًا، وأن بريقه مرهون بتعهده بالصقل والتلميع والتنظيف.
والمعرفة بهذا الجوهر هى ما يصنع انتماء المثقف الواعى صاحب العقل الناقد، وهو انتماء لا يشبه أى انتماء أساسه فقط العاطفة التى يمكن التلاعب بها بسهولة، إنه انتماء العارف بتاريخ هذا البلد وتفاصيل ناسه وثقافته، وكيف تأسست وكيف تطورت وكيف تشوهت، وكيف آلت إلى وضعها الحالى.
قد يشعر كثيرون بالنفور والضيق من انتمائهم إلى كيان يفقد كل يوم من مزاياه. كيان يذوب كالرصاص المنصهر فيكوى من يعيش فيه. ولكن لا يشعر بالحسرة والألم إلا صاحب المعرفة بتفاصيل هذا الكيان، المنتمى إليه ــ ليس بفعل العاطفة والحنين والذكريات فحسب ــ إنما بالوعى والقراءة والرؤية التحليلية. هذا هو ألم المثقف الحقيقى، الذى يتحول إلى قضية وشغلٍ شاغل، ليتجلى فى كل نتاجه، يخفت أحيانًا فيصبح دافعًا للكتابة، ويعلو أحيانًا ليصبح هدفًا لها، ويتجلى فى أحيان كثيرة ليصبح هو الشكل والمضمون معًا، فنحصل على كتابة الفينيق، الكتابة التى تستعيد ذاتها مرة أخرى. هذا ما أراه فى هذه الرباعيات التى تنتمى بعمق شديد من حيث الشكل إلى المجتمع المصرى، ومن حيث المضمون أفرغ فيها أيمن بكر كل حنانه ومحبته، وصرخته وحسرته وحنقه أحيانًا، لم يتخل لمرة عن وعيه بذاته:
متنطورين فوق حته صفرا عالخريطة
حوالينا خضرا الدنيا.. منتبهة وحويطة
ربك بيخرط عقول متنورة وصاحية
وعقول مخاصمة نفسها جاهلة، وسليطة.
#وليد #علاء #الدين #يكتبرباعيات #أيمن #بكر #كتابة #الفينيق
تابعوا Tunisactus على Google News