يوسف وهبى: انتصر «الريحانى» علـىّ وهو أحق منـى بالنصـر
نجيب إلياس الريحانى من مواليد 21 يناير 1889 من عائلة كاثوليكية، والده من أصل عراقى ووالدته مصرية “لطيفة بحلق”.. قضى طفولته بحى باب الشعرية العريق، والتحق بمدرسة “الفرير الفرنسية” وبها أحب التمثيل وانضم إلى فريق المدرسة، كما اشتُهر بإلقاء الشعر العربى.
أخذ “الريحانى” يتنقل بين الفرق فى أدوار ثانوية إلى أن وصل بعد مسيرة فنية كبيرة إلى لقب (زعيم المسرح الفكاهى)، ويرجع له الفضل فى تطوير المسرح والفن الكوميدى فى مصر.
رحل «الريحانى» فى 8 يونيه 1949 بمرض التيفويد عن عمر ناهز 60 عاما
.ً عُرف جيله بجيل “المنافسة” فكان بينه وبين الفنان “على الكسار” منافسة قوية، لكن هذه المنافسة كان الغرض منها إنعاش الحركة المسرحية الكوميدية، والعمل على خلق جمهور للمسرح الكوميدى وقد تحقق ذلك، ورغم المنافسة الفنية إلا أنه كانت تجمعهما المحبة والصداقة القوية، وكان التراشق بينهما بأسماء المسرحيات، فقدم الكسار مسرحية بعنوان (عقبال عندكم) فى مارس 1919، فبعده قدم الريحانى فى مايو مسرحية بعنوان “قولو له”، وكأنه يريد أن يعلن للكسار بعودته بعد أن أحل فرقته بسبب انفصال كاتبها “أمين صدقى” عنه، فيرد عليه الكسار بمسرحية “قلنا له” وكأنه يريد أن يقول له نحن هنا، وقدم الريحانى فى شهر يونيه مسرحية بعنوان “اش” فقدم “الكسار” مسرحية “فلفل”، فأعلن “الريحانى” عن تقديم رواية جديدة فى 11 أكتوبر باسم “كله من ده”، وأعلن عن مسرحية بعنوان “رن” عرضها فى 18 ديسمبر جاء بها ليرد على مسرحية الكسار، وعندما قدم الريحانى مسرحية عام 1920 رواية “فرجت” رد عليه “الكسار” برواية “وراحت عليك”، فقدم الريحانى مسرحية “الدنيا جرى فيها إيه” فى 17 يناير 1935، فقدم الكسار رواية “الدنيا بخير” ردا على مسرحية الريحانى وكذلك قدم الكسار مسرحية “صحى النوم”.
هذه المنافسة لم تكن بين الكسار والريحانى فحسب بل كانت بين الريحانى ويوسف وهبى، ولكن هذا التنافس لم يمنع يوسف وهبى أن يرثى صديقه “نجيب الريحانى” فى مقالة يملؤها الحزن والألم على فراقه، ونشرها فى مجلة “الإذاعة المصرية” فى عددها رقم “744” بتاريخ 17 يونيو 1949م.
ونعيد نشر المقالة، إحياء لذكرى فقيد الفن، وتأكيدًا لروح المحبة التى جمعت بين نجوم القوة الناعمة المصرية.
مصر بخير يا نجيب
مات نجيب الريحانى هذا هو النبأ المروع الذى دوى بالأمس القريب فى كل أذن، ونزل على كل شرقى نزول الصاعقة الداهمة، وكنت ترى الناس حيارى واجمين ذاهلين، وقد انعقدت الألسن وتقلصت الشفاه.. وكأنهم من هول الفاجعة لم يصدقوا حدوثها.. فصاح أحدهم بصوت مختنق نائح.. كيف.. أيموت الريحانى؟
أى والله صدق المتشكك، فأمثال نجيب الريحانى يموتون أى الجسد قد رحل أما الروح فهى شعلة كوميدية من نور الله خالدة، ومن أحق بالخلود من روح “نجيب الريحانى” وكان الأجدر بنا أن نقول “لقد استراح نجيب”.
أما الذى ننعيه فهو صرح الريحانى فن الريحانى وعبقرية الريحانى ومسرحياته الاجتماعية المغلفة بالفكاهة الرقيقة.
هو فن بأسره قد واريناه التراب.. فن ابتكره فرد.. وحمل شعلته وغذاه بدمه وشبابه وأفنى فيه حياته.. هذا هو الذى ننعيه فيا لفداحة الكارثة، ونكبة الفن.
عرفت نجيب الريحانى عندما كان يعمل مع زميله النابغة المرحوم “عزيز عيد” فى قهوة “خربة” بالفجالة.. أطلقوا عليها مسرح الشانزليه، ولم تكن سوى مكان متهدم أقاموا فيها منصة من عروق الخشب ونصبوا فوقها شارا مهلهلا عتيقا.. وكنا أيامها هواة لا يزيد عددنا على أصابع اليد الواحدة .. ورغم هذا حضرنا كل روايات هذه الفرقة التى قدمت على هذا المسرح المتواضع فناً فكاهياً رائعاً، وكان النظارة لا يزيدون فى الليالى عن ثلاثين شخصا.
والإيراد لا يزيد على الجنيهين أو الثلاثة تقسم على أفراد الفرقة بالأسهم، وكان المرحوم نجيب ممثلا صغيرا بالفرقة، ولم يكن حقه يزيد على خمسة أو ستة قروش، وكان فتى جميلا خفيف الظل أنيق الملبس، فسعينا للتعرف به ومن يومها أحببناه، وكنا نتهافت على مجلسه كلما سنحت لنا الفرصة، فقد كان نجيب يشع ظرفا ومرحا ويفيض على الجلسة بشخصيته الساخرة وفنه الكامن.. ثم تقلب بعدها نجيب بين البؤس والنعيم والفاقة والسعة، ولكن ظل كما عرفناه رقيقا متواضعا، كان نجيب فى حياته الخاصة ممتعًا كما كان على المسرح .. ولا أذكر أننى صادقت فى حياتى فنانًا كنجيب لا تفارقه الابتسامة ولا يخونه المرح..
وافتتح نجيب مسرحا بجوار مسرح رمسيس وتنافست فرقتنا على اجتذاب الجماهير، ورغم المنافسة ظل يزورنى وأزوره كل ليلة، وكنا نتباهى كل على الآخر بنجاح إحدى الروايات ولكنه لم يقصر يوما فى تهنئتى على فوز، ولم أحسده يوما على انتصاراته العديدة على فهو أحق منى بالنصر.
ولما انتظمت أحوال نجيب وكافأته بالجماهير بإقبالها المنقطع النظير على مسرحياته الباهرة بدأ يفكر بعد هذه السنين فى بناء دار ينعم بها فى أواخر أيامه ولكن الأجل المحتوم عاجله ولما يستكمل أثاثها.
أخرج فقيد المسرح عشرات الروايات الاستعراضية والاجتماعية، فلم تخل إحداها من عظة ودروس وكان له الفضل فى ذيوع شهرة عبقرى الموسيقى “سيد درويش”.
ـ وعلم “نجيب” الشعب الوطنية والأغانى الاستعراضية الرائعة التى ظهرت على مسرحه فتقبلتها الجماهير وغناها الشعب، وذاعت فى كل الطبقات تلك الأغانى القومية الحماسية التى انطلق الناس يتغنون بها فى ثورة 19، ثم انتقل نجيب فى المسرح الاستعراضى أى اللون الفكاهى الاجتماعى فأسعد الملايين من النظارة بنكاته التى لم تخل منها واحدة عن فائدة ونقد لاذع.
لقد شادت الأمم الغربية بعبقرية شارلى شابلن ورشحوه لجائزة نوبل للسلام، وأتمنى لا أتردد أن أضع فقيدنا نجيب على رأس القائمة.
ولو كان فى مصر مقبرة للعظماء كما هو الحال فى فرنسا لرقد بالأمس فيها نجيب بجوار عظماء مصر.. أى نجيب أيها الزميل الراحل والصديق الحبيب.. أرأيت بالأمس كيف ودعتك مصر بدموعها، وقد خرج سكانها إلى الشوارع والطرقات وتكتلوا بالألوف كى يودعوا جثمانك ويتزودوا منك بنظرة أخيرة.
هل ارتاحت روحك الطاهرة لتلك الظاهرة الوطنية الرائعة، وذلك الوعى القومى الحساس الذى كنت أنت من نباته وواضعى أسسه.. هل استراحت نفسك وعرفت حقيقة قيمتك.. أتذكر من شهر مضى عندما كنا نتحادث فشككت فى تقدير الشعب بجهودك وفنك. أرأيت الرجال أو النساء والأطفال وهم يبكونك.. وقد أعلن الشرق بأسره عليك الحداد.. إن مصر بخير يا نجيب فقد أتممت رسالتك ونلت ثمار جهادك وأعلم أيها العزيز أنك حى فى كل قلب..
آخر معجزات
الريحانى السينمائية
كان فيلم «غزل البنات» هو مشهد الوداع السينمائى للفنان القدير نجيب الريحانى، وكان وداعا يليق بحجم موهبته وتأثيره فى الفن المصرى، واستحق أن يحتل المرتبة التاسعة في قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، والأهم أن الفيلم كان أقرب للمعجزة الفنية، لأنه كان بمثابة حشد فني لحدث منقطع النظير، جمع من كل بستان فني زهرة، في الموسيقي والطرب محمد عبدالوهاب وليلي مراد، في التمثيل نجيب الريحانى ويوسف وهبى وفريد شوقى وسليمان نجيب وعبدالوارث عسر وزينات صدقى، والمفاجاة ظهور هند رستم بدور كمبارس صامت، وفي الإخراج أنور وجدى.. وكان مساعده حسن الصيفى، والموسيقى منير مراد.
انتهى مقال يوسف وهبى، وقد شكلت وفاة «الريحانى» صدمة للجميع، حتى أن الملك فاروق نعاه بشكل علنى على صفحات الجرائد قائلاً: أنى أحزن حين تفقد بلادى رجلاً ممتازاً، وقد حزنت كثيراً بفقد “نجيب الريحانى” الرجل الذى خدم مصر، وأحب مصر، وأحبته مصر.
الطريف جداً أن الريحانى نعى نفسه قبل رحيله بأيام، حيث كتب قائلاً: “مات نجيب.. مات الرجل الذى اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء، إذا كان للسماء طوب.. مات نجيب الذى لا يعجبة العجب ولا الصيام فى رجب.. مات الرجل الذى لا يعرف إلا الصراحة فى زمن النفاق ولم يعرف إلا “البحبوحة” فى زمن البخل والشح مات الريحانى فى 60 ألف سلامة.
#يوسف #وهبى #انتصر #الريحانى #علـى #وهو #أحق #منـى #بالنصـر
تابعوا Tunisactus على Google News