تونس نحو برلمان جديد.. كيف تغير المشهد السياسي في أقل من عامين؟ | الشرق للأخبار
بدأت تونس في 25 يوليو 2021 مساراً سياسياً جديداً لم تألفه منذ عام 2011، وذلك حينما استأثر رئيسها قيس سعيد بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأصدر مرسوماً يستند إلى الفصل 80 من الدستور، أقال بموجبه حكومة هشام المشيشي، وحلَّ البرلمان، وتولَّى السلطة التنفيذية بنفسه.
ومنذ تلك الإجراءات الاستثنائية، استمرَّ الرئيس في إصدار القرارات السياسية والاقتصادية والقضائية عبر مراسيم رئاسية قلَّصت بشكل كبير سلطة الدستور الذي أقرَّه البرلمان التونسي في 2014 بإجماع معظم القوى والنخب السياسية، وبمباركة إقليمية ودولية.
ووصف الرئيس قيس سعيَّد تلك الإجرءات بعملية “إنقاذ” للبلاد، بعد أن وصلتْ إلى مرحلة انسداد سياسي، تزامنتْ مع ارتفاع كبير في عدد الوفيات نتيجة جائحة كورونا، وما خلَّفته من خسائر اقتصادية كبيرة.
معركة السلطة
عقب الإعلان عن إجراءات الرئيس الاستثنائية، خرج العشرات من المؤيدين إلى شوارع رئيسية في العاصمة تونس، رغم وجود حظر ليلي لاحتواء وباء كورونا، مطالبين بحل البرلمان، واتخاذ مزيد من الإجراءات للخروج من الأزمة السياسية التي تخنق البلاد.
في المقابل، تلقَّتْ حركة النهضة وأنصارها، إضافة لعدد من القوى السياسية الأخرى، هذا التحرك بغضب ورفض شديدين، ووصفوا هذه الإجراءات بـ”الانقلاب على الدستور”، الذي اتفق عليه التونسيون ديمقراطياً عام 2014.
بدأ الرئيس سعيّد بعد ذلك، بتشديد قبضته على البرلمان، حيث طوّقت أجهزة الأمن والجيش المبنى، ومنعتْ رئيسه آنذاك راشد الغنوشي، ونوابا آخرين من دخوله. كما أمرَ الرئيس التونسي بوقف رواتب النواب المجمَّدين، بل ورفع الحصانة القضائية عنهم.
واستمرَّ هذا الجدل بين مؤيد ومعارض، وتوالتْ معه المواقف الدولية المنتقدة لغياب تسمية رئيس للحكومة، ليتحرَّك الرئيس التونسي بعد شهرين، ويختار أول امرأة لرئاسة الحكومة، وهي نجلاء بودن، التي كان ولا يزال حضورها الإعلامي خجولاً.
ولاقتْ هذه الخطوة أيضاً، معارضة صريحة من قوى سياسية مختلفة في تونس، لعدم لجوء الرئيس إلى سلطة تشريعية تنتخب الحكومة. كما كانت هيمنة الرئيس قيس سعيّد على الحكومة جليّة، حينما أصدر مرسوماً يعطيه صلاحيات كاملة لتعيين الحكومات، ومنحها الثقة، وعزل أعضائها، وحتى وضع البرامج وتعيين الجلسات لها.
معركة البرلمان
كان شهر مارس من عام 2022 مُحمَّلاً بالعديد من القرارات والتجاذبات السياسية في تونس، خاصة فيما يتعلق بالسلطة التشريعية، فقد تحدى نواب البرلمان المجمّد آنذاك قرارات سعيَّد، وقرروا عقد جلسة افتراضية.
اعتبر الرئيس سعيَّد هذه التحركات “انقلاباً”، وأصدر أوامر بالتحقيق مع النواب الذين شاركوا في هذا الاجتماع، قبل أن يصدر قراراً رسمياً بحل البرلمان بشكل نهائي، بعد أن كان مجمداً إلى أجل غير مسمى.
واستند الرئيس في هذا القرار إلى الفصل 72 من دستور 2014 الذي يعطي “صلاحية لرئيس الجمهورية بالتحرك لمنع التقسيم والحفاظ على الأمن الداخلي”.
المعركة مع القضاء
بدأتْ معركة الرئيس سعيّد مع القضاء تتضح معالمها في يناير 2022، حينما أصدر مرسوماً بوضع حد للمنح والامتيازات المخولة لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء (هيئة مستقلة).
وعبَّر رئيس البلاد بعد ذلك مراراً وتكراراً، عن انزعاجه من القضاء في تونس، مع تعثر المساعي في بعض المحاكم لتوجيه تهم فساد ضد سياسيين، ورجال أعمال بارزين، خاصة بعد أن شكَّك قضاة كبار في شرعية قراراته الاستثنائية.
ومع تصاعد الخلافات، قرر الرئيس في فبراير 2022 التحرك، فأصدر قراراً بحل المجلس، ثم في مارس قام بتعيين مجلس جديد مؤقت، كما قام أيضاً بعزل نحو 57 قاضياً، بمن فيهم الرئيس السابق للمجلس، لتدخل الأزمة منعرجاً جديداً، حينما شهدت المحاكم التونسية العديد من الإضرابات للقضاة المعزولين.
المعركة الانتخابية
استمرَّتْ معاركُ الرئيس قيس سعيّد في الجبهات الداخلية، لتنتقل شرارتها إلى المنظومة الانتخابية بشكل عام، وما يتبعها من هيئات وأجسام قانونية تكرّس العملية الانتخابية في البلاد.
ففي أبريل 2022، انضمتْ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لقائمة معارك الرئيس قيس سعيد، وذلك بعد أن اتهمها في العديد من المرات بعدم النزاهة، رغم أنَّ الرئيس نفسه فاز في الانتخابات التي نظمتها هذه الهيئة عام 2019. وقرر سعيّد، استبدال أعضائها بأعضاء آخرين يختارهم بنفسه، لتصبح هذه الهيئة آخر الهيئات الحكومية التونسية المستقلة.
كما أصدر سعيّد مرسوماً بتغييرات في نظام التصويت قائلاً إنَّ “الانتخابات البرلمانية ستُجرى على جولتين بدلاً من واحدة، مع اختيار الناخبين لأفراد بدلاً من القوائم”.
معركة الدستور
أما المعركة مع دستور 2014 فأخذت حيزاً كبيراً من الفسيفساء التي شكّلت المشهد التونسي خلال أقل من عامين، فبعد الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس في يوليو 2021، ظلّ يحكم بمراسيم رئاسية اعتبرها مراقبون لاغية للعديد من البنود في دستور 2014.
وبدأ سعيّد في الأشهر الأولى من عام 2022، مشاورات افتراضية حول ما يريده التونسيون لنظامهم السياسي، وعيَّن بعد ذلك أستاذاً للقانون، لتشكيل لجنة لإعادة كتابة الدستور، لكن العديد ممن تمت دعوتهم رفضوا المشاركة.
ومع حلول الذكرى الأولى للإجراءات الاستثنائية، طرح الرئيس التونسي استفتاءً على الدستور الجديد في الخامس والعشرين من يوليو 2022. وأعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، عن تأييد أكثر من 94 في المئة من الناخبين للدستور الجديد، بعد أن بلغ عدد المشاركين نحو 2.7 مليون ناخب من أصل 9.3 مليون فرد يحق لهم التصويت.
لكن هذا الدستور قوبل بجدل ورفض واسعين، من أحزاب وقوى سياسية تونسية، وحتى من رئيس الهيئة الوطنية الاستشارية الصادق بلعيد، الذي اختاره الرئيس سعيّد لكتابة مسودة الدستور.
وقال بلعيد إن “المسودة المعروضة للاستفتاء، لا تمتّ بصلة إلى نص المسودة الذي أعدته الهيئة وقدمَته لرئيس البلاد”.
كما أثارت مسودة الدستور جدلاً آخر، لعدم ذكرها المرجعية الإسلامية في الفصل الأول، ومنحها صلاحيات واسعة لرئيس البلاد على حساب السلطات الأخرى.
المعركة مع اتحاد الشغل
لعب الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمة نقابية في البلاد، دوراً محورياً في التوسط في عدة أزمات سياسية واجتماعية مرّت بها البلاد بعد عام 2011، لعلَّ أبرزها الأزمة السياسية التي حدثت عام 2013، حينما أوشكت البلاد أن تدخل منعرجاً دموياً إثر اغتيال السياسي والحقوقي شكري بلعيد.
إلا أن علاقة الاتحاد بالرئيس سعيّد، بدأت تتبلور وتأخذ شكلاً جديداً منذ ما قبل الخامس والعشرين من يوليو 2021، حينما تجاهل الرئيس دعوات الاتحاد لبدء حوار وطني شامل للخروج من الأزمة السياسية.
وبعد إجراءات الرئيس الاستثنائية، أيَّد الاتحاد هذه المواقف وسمَّاها مساراً تصحيحياً، واعتبرها استجابة لمطالب شعبية، بل ورفض التدخلات الأجنبية، وأيَّد خارطة الطريق المتمثلة في حلّ البرلمان، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء.
هذا التأييد لم يدم طويلاً، وبدأت هواجس الاتحاد تتصاعد من استئثار الرئيس سعيّد بالسلطات. كما تقاطعتْ هذه الهواجس بأخرى اقتصادية واجتماعية، حينما اعتبر أنَّ السلطة “لا تتعامل بشفافية” في تحركاتها وخاصة فيما يتعلق بمفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي.
وسريعاً ما ترجم الاتحاد هذه الهواجس إلى مواقف، ليبدأ إضراباً عاماً في القطاع العام في منتصف يوليو 2022 ثم أتبعه برفض المشاركة في الحوار السياسي الذي دعا له سعيّد، وأبدى تحفظه على التعديلات التي أُدخلت في مشروع الدستور الجديد.
وقبل أيام قليلة من انطلاق الانتخابات التشريعية، صعّد الاتحاد من موقفه الرافض لخارطة الطريق التي وضعها الرئيس سعيّد، وأعلن رفضه لها، بل واتهم الحكومة بالفشل، وحذر من خطر داهم على البلاد.
وقال المحلل السياسي والقانوني نزار مقني لـ”الشرق”، إنَّ الاتحاد العام التونسي للشغل لم يقاطع الانتخابات التشريعية المبكرة، بل هو ينتقد العملية السياسية برمتها، والمسار الذي أخذته بعد 25 يوليو 2021.
وأشار مقني إلى أنَّ اتحاد الشغل يطالب بخط ثالث يقطع مع ما قبل 25 يوليو، وما بعد الاستفتاء على الدستور الجديد، والذي يرى أنه يجب أن يكون على نطاق تشاركي بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، للحفاظ على الديمقراطية والقطع مع كل أشكال ما يعتبره استئثارا بالسلطة، أو ما أفرزته العشرية السابقة التي أعقبت ثورة 2011.
“لعبة أقنعة”
ولفهم هذه العلاقة المتذبذة بين الاتحاد العام التونسي للشغل من جهة، والرئيس والحكومة من جهة أخرى، يصف الكاتب والمحلل السياسي صلاح الدين الجورشي الوضع بين الأطراف الثلاثة بأنه أصبح شبيهاً بـ”لعبة أقنعة”، حيث تغيب الصراحة والوضوح، ويكثر التناقض في تصريحات الجهات الثلاث.
ويضيف الجورشي في تصريحات لـ”الشرق” أن “الحكومة لا تستطيع أن تنجز أي شي دون موافقة الرئيس، ومن ناحية أخرى، نجد أن الرئيس لا يريد أن يتحمل مسؤوليته الكاملة عن سياسة حكومته، ويريد أن يبقى شعبوياً مرتبطاً بقناعات ووعود قدَّمها للمواطنين”، على حد تعبيره.
وتابع: “كما أنَّ اتحاد الشغل، يحاول باستمرار أن يرفض سياسة الحكومة، والرئيس يريد أن يؤكد أنه مع الاتحاد ضد الحكومة. وإذا ما جمعنا كل هذه المواقف، نجد أنها متفرقة وتفتقد للتجانس والعقلانية”.
المعركة الاقتصادية
لم يكن وضع تونس الاقتصادي قبل الخامس والعشرين من يوليو 2021 أحسنَ حالاً من بعده، إذ كانت تداعيات وباء كورونا تلقي بثقلها على الوضع المعيشي والاجتماعي، بالإضافة إلى تداعيات الإخلالات بتسديد القروض منذ حكومة الرئيس الأسبق يوسف الشاهد.
ووفقاً لأرقام البنك الدولي، تجاوز الدين العام في تونس 35 مليار دولار بنهاية أغسطس 2022، وهي أرقامٌ تمثل أكثر من 80% من إجمالي الناتج المحلي.
وبعد الإجراءات الاستثنائية، ظلَّتْ القرارات الاقتصادية الحكومية والاتفاقات الداخلية والخارجية، تصدر عبر مراسيم يصادق عليها رئيس الدولة. كما تأجلتْ المفاوضات مع صندوق النقد الدولي عدة مرات، بشأن قرض محتمل بقيمة 1.9 مليار دولار على مدار 4 سنوات، رغم إعلان الصندوق في أكتوبر الماضي التوصل إلى اتفاق مبدئي مع الطرف التونسي.
ثقة دولية مهتزة
وأكد أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، رضا الشكندالي، في تصريحات لـ”الشرق”، أنَّ تأجيل جلسة صندوق النقد التي كانت مقررة في 18 ديسمبر، لها دلالات عديدة، أبرزها تراجع الثقة في الاقتصاد والمؤسسات المالية التونسية لدى المنظمات الدولية.
ويعتقد الشكندالي، أن الموافقة المبدئية لصندوق النقد بشأن القرض المحتمل، جاءت بعد اطلاعه على الدستور الجديد، الذي نصَّ على أن الرئيس هو الضامن لاستمرارية برامج الإصلاح المطلوبة من قبل المانحين الدوليين.
وأضاف: “لكن بعد تصريحات الرئيس سعيّد، الرافضة للبرنامج الإصلاحي الذي طرحه صندوق النقد، تراجعتْ إدارة مجلس الصندوق، وأجَّلت الجلسة التي كانت مخصصة للبت في القرض المقترح للعام المقبل”.
واعتبر الأستاذ في الجامعة التونسية خلال حديثه لـ”الشرق”، أنَّ تأجيل جلسة صندوق النقد، سيؤثر كثيراً على تونس، ويعمّق أزمة مواردها المالية، في وقت هي بأمس الحاجة لذلك لإقرار خطة الموازنة لعام 2023.
خيارات بديلة
أما فيما يتعلق بخيارات التمويل البديلة، فأكد الشكندالي لـ”الشرق”، أن تونس بحاجة للبحث عن مصادر تمويل أخرى، بعيداً عن صندوق النقد وشروطه التي يراها البعض تعجيزية.
ولفت الشكندالي إلى أنَّ لقاء الرئيس سعيّد بالرئيس الصيني على هامش القمة العربية الصينية، كان فرصة مهمة لتعميق الروابط الاقتصادية وفتح مجالات استثمارية أوسع.
كما أن هناك خياراً آخر، بحسب الشكندالي، وهو تسريع عملية المفاوضات مع الجهات الدولية لاسترجاع الأموال المسروقة، إلا أنَّ هذه العملية معقّدة، وتحتاج لإرادة سياسية وثقة متبادلة مع الجهات الدولية.
اقرأ أيضاً:
#تونس #نحو #برلمان #جديد. #كيف #تغير #المشهد #السياسي #في #أقل #من #عامين #الشرق #للأخبار
تابعوا Tunisactus على Google News