Fatigued Region: كيف يمكن فهم الحالة العربية من منظور “الإنهاك”؟
تكفي مطالعة الأخبار يومياً عن ما يجري في المنطقة العربية كي تفسر حالة الوجوه المتعبة للناس في الشوارع، والتفاعلات المتوترة على وسائل التواصل الاجتماعي، فالضغوطات تتوالى على المنطقة منذ أكثر من عقد، حتى بات التقاط الأنفاس عسيراً ليس فقط للأفراد، وإنما للدول والمجتمعات. في ليبيا وسوريا واليمن لا أحد يعرف متى ينتهي الصراع الأهلي الممتد، فيما تعقد المأزق الطائفي أكثر في العراق حتى بلغ حد تعثر تشكيل الحكومة منذ انتخابات أكتوبر الماضي. أما اللبنانيون فأمنهم الغذائي بات في خطر وشيك بفعل التأزم السياسي والاقتصادي، فيما تدور السودان في صراع انتقالي مفرغ بين الجيش والمدنيين وسط تردي معيشي، ونذر عنف تطرح سيناريوهات خطرة على بنية الدولة ذاتها.
حتى بعض الدول، التي حققت قدراً من الاستقرار، كمصر والجزائر والمغرب والأردن وتونس، فإنها تواجه تحديات اقتصادية حادة جراء تداعيات جائحة كورونا والحرب الأوكرانية. وسط هذا التأزم، تبدو دول الخليج استثناءً، بما قد يفسر تصاعد أدوارها الإقليمية خلال العقد الأخير. ومع ذلك، لا يمكن إغفال التحدي الإيراني الضاغط على أمنها، ما حفَّز كل من السعودية والإمارات على دعم الحكومة الشرعية ضد الحوثيين في حرب بلا حسم في اليمن منذ أكثر من سبع سنوات.
وبينما درجت الأدبيات السياسية والفكرية، على مدار عقود ما قبل الثورات، على وصف منطقتنا المأزومة بسمات عديدة، كالتخلف والعجز والتأخر الحضاري وغيرها، فإن الأزمات والضغوطات المتناسلة بلا هوادة خلال عقد ما بعد الثورات أضافت لها سمتاً جديداً هو الإنهاك Fatigued Region. قد يرى البعض ممن يفكرون بالتمني أو المؤامرة أو حتى الزبائنيون الجدد الذين يستثمرون في الضعف العربي أن هذه السمة للمنطقة، كسابقاتها، تنطوي على قسوة واختزال وتشاؤم، ومع ذلك، فإنها تلامس، ولو جانباً، من الواقع والصورة العربية نراه بأعيننا وتتأثر به حالتنا الفسيولوجية والنفسية والذهنية ما يقتضي الاعتراف به كي يتسنى التفكير في أبواب التعافي الممكنة.
معنى الإنهاك واتجاهاته بين المجتمع والسياسة
ينصح الأطباء عادة الأشخاص المتعبين من فرط الإجهاد في العمل أو كثرة الضغوطات بأخذ قسط من الراحة لاستعادة حيويتهم، لكن عندما يتحول هذا التعب إلى إرهاق أو إنهاك مزمن لفترة طويلة، فإنهم يبحثون عن اختلالات فسيولوجية ونفسية وذهنية، لأن هذا قد يكون له تأثيرات سلبية، كالاكتئاب ونقص التركيز وتراجع الإنتاجية، والإحباط والغضب، وغيرها.
انتقل هذا المعنى الشائع من مجالات الصحة والنفس إلى السياسة والمجتمع والاقتصاد، على أساس فرضية أن البشر أنفسهم (سواء قادة أو أفراد عاديين) هم من يصنعون بالأساس تفاعلات هذه المجالات، وبالتالي، قد تتأثر قراراتهم وسياساتهم بحالتهم الجسدية والنفسية والذهنية إن كانت منهكة من عدمه، وهو ما دللت عليه بجلاء تجربة جائحة كوفيد -19، عندما أنهكت الأفراد والمجتمعات والحكومات، وعرضتهم لتداعيات خطرة سياسية واقتصادية واجتماعية [1].
حتى قبل الجائحة، فقد نالت مصادر الإنهاك الفردي والجماعي اهتماماً في الدراسات الاقتصادية. إذ برز على سبيل المثال اتجاه يربط بين تعب الأفراد بسبب قلة النوم وصعوبات بيئة العمل وتضرر اقتصادات الدول. فنشرت مؤسسة راند الأمريكية في عام 2016 نتائج دراسة أجرتها حول خمس دول في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (الولايات المتحدة، كندا، اليابان، ألمانيا، بريطانيا) أشارت فيها إلى أن قلة النوم للفرد يومياً (أقل من ستة ساعات) قد يؤدي إلى فقدان 3% من الناتج المحلي الإجمالي للدول، وانخفاض إنتاجية العمالة وزيادة مخاطر الوفاة [2].
مع تصاعد الاهتمام الرأسمالي العالمي بإصلاح بيئة العمل”المُنهكة” للأفراد، صنفت منظمة الصحة العالمية في العام 2019 الإرهاق المهني كمرض شائع في العالم، وعرفته بأنه إجهاد مزمن في أماكن العمل لم يتم التعامل معه، كما حددت ملامحه في مشاعر استنفاد الطاقة، ووجود مشاعر سلبية إزاء العمل، وتراجع الفعالية المهنية[3]. لكن الإنهاك أخذ ارتباطات وتفسيرات أخرى في المجالين الاجتماعي والسياسي، يمكن طرحها عبر اتجاهين أساسيين:
1- ارتباط الإنهاك بالتحولات الكبرى في المجتمعات: وذلك استناداً على أن تغير أنماط الحياة في مراحل التحولات الكبرى قد يخلق أعباءً على الأفراد تنعكس بدورها على السلوك الجماعي. هنا، يربط جورج فيغاريلو الإنهاك في كتابه “تاريخ الإرهاق” بتغيرات أنماط العمل من الاعتماد على القوة الجسدية في العصور الوسطى إلى الآلة في العصور الحديثة، فمع بروز مجتمع المصنع إثر الثورة الصناعية في أوروبا، تنامت العلاقات الاجتماعية المعقدة وهو ما زاد من الإرهاق النفسي والعصبي للأفراد[4]. فيما ركز ميشيل فوكو على أن تحول نمط السلطة الحديثة ومؤسساتها (كالسجن، المستشفى، المصانع وغيرها) أحدث ضغوطاً منظمة على أجساد وأذهان الأفراد بغية إخضاعهم لمنطق الإنتاج الرأسمالي. إذ أصبحت السلطة تملك حق التحكم في الحياة وتعظميها عبر استخدام تقنيات المراقبة والمعاقبة والتمكين لأجساد الأفراد والسكان، بهدف خلق “المجتمع الانضباطي Disciplinary Society”[5]).
لكن الفيلسوف بيونج تشول هان رأى أن مجتمعات القرن الحادي والعشرين قد تجاوزت منطق فوكو حول المجتمع الانضباطي الذي يتم إخضاعه عبر المؤسسات وبالتالي إنهاكه، إذ أشار في كتابه “الاحتراق المجتمعي The Burnout Society” إلى بروز مجتمع الإنجاز Achievement Society والذي تصبح فيه الطاعة الفردية والجماعية ذاتية بفعل الحريات والتطورات التكنولوجية الكبيرة وتغول الثقافة الاستهلاكية وغيرها، فأصبح الفرد ترساً في آلة تفرض عليه تكثيف نشاطه، والمبادرة أكثر، ومن ثم تدفعه إلى التعب والاحتراق[6].
على أساس ذلك، ارتبط الإنهاك أكثر بالتحولات المتسارعة التي عرفتها البشرية خلال ثورة الاتصالات والمعلومات، فبرز نمط الإنهاك الرقميDigital Fatigue [7] نتاجاً لكثرة التعرض لتدفقات المعلومات، والاستخدامات المفرطة لوسائل التواصل الاجتماعي التي قد تؤدي إلى إعياء نفسي وذهني، ناهيك عن التشتيت والتضليل وغيره. كذلك ركز علماء الاجتماع على المدن المتعبة Tired city، بفعل رسملة فراغات المجال العام، وضغط نظم العمل وتسارعها وتقليص مساحات الراحة والرؤى البصرية، بما خلف مدناً حديثة مٌنهِكة لحياة الأفراد[8].
ثم جاءت جائحة كورونا لتطرح بدورها نمطاً آخر للإنهاك الوبائي Pandemic Fatigue، ذلك أن انتشار الفيروس أرهق الأفراد فسيولوجياً ونفسياً، وكذلك المجتمعات عبر إجراءات الإغلاق والعزلة التي أدت إلى انتشار الخوف والقلق والاكتئاب وبالتالي تآكل رأس المال الاجتماعي. ويظهر هذا الإنهاك الوبائي عندما تصبح الأنظمة الصحية للدول غير قادرة على الاستجابة أمام تصاعد الطلب عليها إبان الجائحة أو أن المجتمعات ذاتها تصاب بالملل والاكتئاب من طول فترة الإغلاق، بما يجعلها تخرق الإجراءات الاحترازية[9]. نتاجاً لكل ذلك، حاول البعض قياس حالة الدول المنهكة Fatigued Countries عبر مؤشرات، كمعدل ساعات العمل، والبقاء على الانترنت ومعدل ساعات النوم، وهنا احتلت كل من سنغافورة والمكسيك والبرازيل والولايات المتحدة واليابان على التوالي قائمة الدول الأكثر إرهاقاً في العام 2021[10].
2-ارتباط الإنهاك بتراجع فاعلية السياسات: يشير الإنهاك السياسي إلى تراجع قدرة سياسة معينة سواء لقيادة أو جماعة أو دولة ما على تحقيق أهدافها، نظراً للتمسك بها لفترة طويلة دون مراجعة، برغم ما قد تفرضه من إجهاد واستنفاد للطاقة. يرتبط هذا المعنى بصعود وهبوط الدول، كإرهاق الاتحاد السوفيتي السابق جراء استنزافه في حرب أفغانستان وسباق التسلح مع الغرب، ما أدى إلى تفككه في عام 1991، وكذا إرهاق القارة الأفريقية إثر الاستنزاف الاستعماري للموارد والبشر. أيضاً، تعرضت القوة الأمريكية للإنهاك نتاجاً لكلفة أعباء سياسة الهيمنة على العالم، بخلاف فشل حروبها في العراق وأفغانستان، في وقت بدت فيه الصين محتفظة بفائض قوة اقتصادية وظفته تدريجياً خلال العقدين الأخيرين في الصعود العالمي[11].
على جانب آخر، ارتبط أحد أشكال الإنهاك السياسي بالانتخابات [12] ليعبر عن عزوف الناخبين عن المشاركة إذا تكررت على آماد زمنية قريبة، أو لم يعبر المرشحون عن طموحاتهم، أو فقدوا الثقة في تغير الأمور إلى الأفضل. وقد يشارك المواطنون في الانتخابات لكنهم قد تصبح أيضاً أصواتهم منهكة، إذ يمكن أن تتجه لخيارات متطرفة ما قد يفسر أحياناً صعود تيارات شعبوية في المجتمعات الغربية بسبب ضعف الثقة في الأحزاب والنخب التقليدية، أو حتى تعويل البعض في الدول النامية على حكم الرجال الأقوياء حتى لو شكلوا خطراً على مستقبل الديمقراطية ذاتها.
قد يمتد الإنهاك في المجال السياسي ليتحول إلى سياسة عمدية لدفع الخصوم للتراجع عن مواقفهم أو هزيمتهم، كما يجري في ديناميات الصراعات العسكرية، والعقوبات الاقتصادية الدولية وعمليات الإرهاب، بل حتى في إدارة سياسات الهجرة، كما يظهر في الإجراءات الحدودية المعقدة التي تضعها الحكومات الأوروبية أمام المهاجرين غير النظاميين، وقد تؤدي إلى إيذائهم للحد من تدفقاتهم[13].
وإذا كان الإنهاك في مجالات المجتمع والسياسة والاقتصاد ينشأ نتاجاً لتحولات حداثية وتكنولوجية ضاغطة ومتسارعة وسياسات فاقدة للفاعلية دون مراجعة، فإنه يكتسب خصوصية وفقاً لطبيعة السياقات وتطوراتها. فالمجتمعات المنهكة في الدول النامية بسبب انتشار التسلط والفقر والصراع والديون والتفاوت والتهميش وغيرها تختلف بالتأكيد عن تلك التي تعرضت للإرهاق بفعل الإفراط بالحداثة والحريات والفردانية والعجز الديمقراطي. دون أن يمنع ذلك التشارك الدولي في مصادر إنهاك ذات طابع متعولم، بفعل ثورة المعلومات والتكنولوجيا ونمط الجوائح العابرة للحدود، وتغلغل الرأسمالية العالمية في الاقتصادات النامية.
مع ذلك، فإن ظاهرة الإنهاك قد تجد اتجاهات مضادة للحد منها، بفعل آليات المحاسبة للسلطة ومراجعة السياسات في الديمقراطيات الغربية. فعلى سبيل المثال، فإن إنهاك القوة الأمريكية بسبب أعباء الهيمنة العالمية قد تعرض لمراجعات من إدارات متتالية، كأوباما وترامب وبايدن ما جعل هنالك اتجاهاً أمريكياً خلال العقد الأخير للاهتمام بالداخل وتقليص سياسات التدخل الخارجي، والتركيز أكثر باتجاه آسيا لمواجهة الصعود الصيني.
مسببات وأنماط الإنهاك العربي
في منطقتنا العربية، تأخذ ظاهرة الإنهاك خصوصية لا تنفصل بالأساس عن إرث وتطور أزمات المنطقة. إذ تدلل العديد من المؤشرات الدولية التي صدرت على سبيل المثال في العام 2022 أن المنطقة بلغت حداً من الإنهاك انعكس على تراجع مكانتها عالمياً. إذ حازت غالبية دول المنطقة مراتب منخفضة في مؤشر السعادة الأممي الأخير باستثناء أربع دول عربية (البحرين والإمارات والسعودية والكويت) برزت ضمن الـ50 دولة الأسعد في العالم ما يعكس فجوات التنمية وجودة الحياة، فيما تُصنف المنطقة بأنها الأسوأ عالمياً في إنتاجية العمالة، في تقرير منظمة العمل الدولية. كذلك، لم يمنع الجمود النسبي الراهن للصراعات الأهلية في المنطقة من أن تظل دولها الأقل سلاماً في مؤشر السلام العالمي، بفعل تعثر التسويات[14]. الحال ذاته لم يختلف في مؤشرات كالابتكار العالمي ومدركات الفساد الذي تصدره مؤسسة الشفافية الدولية في 2021، حيث شهدت تراجعاً لغالبية الدول العربية في ضوء استمرارية إشكاليات الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية[15].
وبغض النظر عن أن نهج المؤشرات لفهم أحوال الدول قد ينطوي على إشكاليات بسبب الاختزال الكمي والمعايير الغربية وعدم مراعاة خصوصية السياقات، مع ذلك فإنه يكشف إجمالاً عن حالة عربية مُنهكة في مجالات اجتماعية وسياسية واقتصادية. إلا أن هذا الإنهاك لم يبرز فقط نتاجاً لعقد الأزمات والضغوطات بعد الثورات، وإنما هو تعبير عن تطور تاريخي مأزوم منذ أن أصبحت المنطقة العربية مجالاً لتنافس القوى الاستعمارية على مواردها ومعابرها وخطوط التجارة، ناهيك عن معضلة إسرائيل المزمنة والممتدة التي سعت القوى الغربية إلى ضمان أمنها وحقوقها على حساب الحقوق العربية والفلسطينية.
وحتى ما بعد استقلال الدول العربية، فقد استمر الاستنزاف دون توقف، إذ عرفت المنطقة خلال عقود ما بين الاستقلال وما قبل ثورات 2011 أزمات خارجية متتالية، كالحروب العربية- الإسرائيلية بين عامي 1948 و1973، وحرب إيران والعراق في الثمانينات، والغزو العراقي للكويت في عام 1990، والغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وحرب إسرائيل وحزب الله في عام 2006، فضلاً عن أزمات داخلية، كالإرهاب في مصر والجزائر في التسعينيات والحروب الأهلية في لبنان واليمن ودورة الانقلابات والديمقراطية في السودان. وأرهقت كل هذه الأزمات دول المنطقة وأفقدتها موارد كانت يمكن توجيهها لتعزيز التنمية، بل وعطلت المسار الديمقراطي تحت مسوغات “العدو الخارجي”، لينتج عن ذلك عقد اجتماعي تهمين فيه الدولة العربية على المجتمع.
لكن تلك الهيمنة تعرضت للتآكل باضطراد، إذ نزعت الدولة يدها تدريجياً عن خدمات ووظائف اجتماعية وخدمية، كسياسات التوظيف والصحة والتعليم وغيرها، بفعل تراجع الموارد والضغوط الرأسمالية عبر صندوق النقد وسياسات للخصخصة وغيرها. فاقم ذلك فجوات الفقر والبطالة والتفاوت الاقتصادي- الاجتماعي، في وقت لم تعد الطبقة الوسطى التي تنامت بفعل وظائف دولة ما بعد الاستقلال أو الكتلة الشبابية الغالبة على الهيكل الديمغرافي والمتأثرة بالعولمة راضيتين بالأساس عن تراجع وظائف الدولة العربية المنهكة، وفي الوقت ذاته استمرار تسلطها.
لذلك شكلت لحظة الثورات العربية في 2011 في جوهرها محاولة لإعادة التوازن في علاقة الدولة بالمجتمع، وبالتالي إيقاف الإنهاك المستمر لكليهما. لكن ما جرى على مدار العقد الأخير، أن الإنهاك زادت مصادره وأشكاله، وبدلاً من أن يكون لدينا دولة متراجعة الوظائف ومجتمع مقيد في المنطقة العربية، صارت لدينا دول هشة ومهددة بالبقاء ومجتمعات مستقطبة، بفعل نشوب الصراعات أهلية والتدخلات أجنبية، وبالتالي تحولت حالة الإنهاك العربي إلى ما يشبه المتلازمة التي أجهدت الدولة والمجتمع في المنطقة، وامتدت إلى العلاقات بين الدول العربية، وهو ما يمكن توضيح اتجاهاته كما يلي:
1- إنهاك الدولة: تكالبت الضغوط على الدولة العربية بعد الثورات، فبدت مستنزفة بل وحائرة في آن واحد على مستوى السياسات وإدارة الأزمات ما بين التعامل مع التداعيات المتصاعدة للثورات على أمن الدول، كالصراعات والإرهاب والمليشيات المسلحة وغيرها، أو التصدي للعوامل الهيكلية المسببة لها، كالتسلط وغياب العدالة والتهميش الاجتماعي وغيرها. لذلك تعددت مصادر وأشكال الإنهاك في المنطقة منها، الضغوطات المستمرة للمطالبة بالتغيير والإصلاح في أكثر من نصف دول المنطقة بسبب عدم الثقة في قنوات التمثيل السياسي، واستمرار الفوضى الأمنية والسياسية بسبب إطالة أمد الصراعات الأهلية (سوريا، ليبيا، اليمن) ودون حسم ميداني قد يقود لتسوية سياسية. كذلك، برز الإنهاك الانتقالي بسبب غياب التوافقات وانتشار القوة بين فاعلين كثر، كما في السودان بعد سقوط نظام البشير، بل إن التوافق الانتقالي في تونس الذي بدا استثناءً في المنطقة تعرض هو الآخر لمأزق خلافي إثر استئثار الرئيس قيس سعيد بالصلاحيات، عبر دستور 2022 الذي حول النظام السياسي من رئاسي إلى برلماني.
بموازاة ذلك، تراجعت الوظيفة الاقتصادية للدولة فزادت ضعفاً على ضعف بما جعل الاقتصادات العربية تحوز الأداء الأكثر سوءاً على الصعيد العالمي في العام 2022[16]، إذ لم تعد العديد من الدول العربية خاصة في مناطق الصراعات قادرة على الاستجابة للاحتياجات المعيشية أو لديها المرونة الكافية للتعامل مع الأزمات العالمية، بفعل تآكل مواردها جراء عدم الاستقرار وتعطيل التنمية وهروب الاستثمارات، وازداد الوضع سوءاً في أعقاب جائحة كورونا والحرب الأوكرانية، حيث الانكشاف الغذائي، نظراً لاعتماد المنطقة في استيراد غذائها من الخارج. فعلى سبيل المثال، ضمت قائمة الأمم المتحدة لـ “بؤر الجوع الساخنة” المهددة بانعدام الأمن الغذائي في عام 2022 خمس دول عربية، وهي سوريا والسودان واليمن والصومال ولبنان[17].
2- إنهاك المجتمعات: بدا التغيير السياسي في المنطقة بعد الثورات كاشفاً للأزمات المختزنة داخل مجتمعات المنطقة، إذ منح الفرصة لبروز ظواهر، كالانقسام والاستقطاب والكراهية والتعصب بفعل تصاعد هويات أوّلية إيديولوجية وقبلية ومناطقية وطائفية في مواجهة الهوية الوطنية للدولة بسبب المظالم التاريخية والاجتماعية، كما برز في ليبيا وسوريا واليمن، ما أنهك رأس المال الاجتماعي الذي كان من المفترض أن يولد علاقات وتعاوناً مجتمعياً يساعد على تجاوز الانتقال السياسي. وأخذت مصادر إنهاك المجتمعات أوجه عديدة، فالمناخ الاستقطابي العام خلف بدوره مزاجات حاضنة لبروز جماعات إرهابية أكثر وحشية، كما نموذج إرهاب “داعش” الذي سيطر على أراضي في سوريا والعراق في العام 2014 حتى تمت هزيمته بدعم من تحالف عربي-دولي. بل إن الاستقطاب المجتمعي انتقل إلى الفضاء السيبراني ليصبح الإنهاك الرقمي شائعاً في المنطقة، لا سيما أن كل فاعل سياسي متنازع مع غيره بات يعمد إلى وصم الآخر والتحريض على العنف ضده على وسائل التواصل الاجتماعي. فوق كل ذلك، هددت معضلة اللجوء والنزوح الديمغرافيا السكانية في مناطق الصراعات، خاصة أن المنطقة العربية تحوز وتصدر في آن واحد نصف لاجئي العالم[18]. وأضافت الأوضاع الاقتصادية المتردية مصادر أخرى للإنهاك المجتمعي، مع ارتفاع معدلات الفقر والتضخم وتردي المعيشة في المنطقة، خاصة في دول الصراعات، ناهيك عن ارتفاع البطالة بشكل عام في المنطقة من 10.9% إلى 12.6% بين عامي 2019 و2021 على خلفية أزمة كورونا[19].
3-إنهاك العلاقات البينية: تعرضت المنطقة إلى استنزاف حاد خلال العقد الأخير بفعل اختراقها من قوى إقليمية غير عربية، لا سيما في ظل الانقسام العربي حول التعامل مع تداعيات التغيير بعد الثورات، فيما بدت المؤسسات الجماعية العربية غير قادرة على بناء توافقات، فضلاً عن بروز اتجاه يمنح الأولوية لأمن وسلامة كل دولة عربية سواء على حساب الأخرى أو حتى على حساب المنطقة ككل. من هنا، نشأت محاور استقطاب إقليمي، كالصراع بين الرباعي العربي (مصر، السعودية الإمارات، البحرين) خاصة بعد ثورة 2013 (التي أسقطت حكم جماعة الإخوان)، والمحور القطري –التركي الذي دعم الإسلاميين في المنطقة ما أدى بدوره إلى أزمة مقاطعة الدوحة في 2017. وأسهم هذا الاستقطاب الإقليمي في مد أمد مصادر الإنهاك خاصة في دول الصراعات والأزمات، لكن هذا الاتجاه هدأ نسبياً إثر المصالحة في قمة العلا في الرياض في يناير 2021.
على الجانب الآخر، تعرضت المنطقة إلى انكشاف حاد أمام قوى خارجية امتلكت فوائض قوة وعملت على استغلال حالة الإنهاك العربي، فتدخل حلف “الناتو” في ليبيا 2011 لإسقاط نظام القذافي، ودعمت روسيا نظام الأسد في سوريا منذ عام 2015، كما تدخلت أيضاً في جنوب وشرق ليبيا عبر شركة “فاجنر” الخاصة، إبان الحرب الأهلية في 2019. وبينما توغلت إيران في لبنان، والعراق، اليمن، سوريا، نشرت تركيا قواتها في شمالي سوريا والعراق وغرب ليبيا وأقامت قواعد عسكرية في قطر والصومال. في خضم ذلك، حاولت إثيوبيا فرض إرادتها على مصر والسودان في أزمة سد النهضة، إذ استمرت في ملء السد دون الالتزام باتفاق المبادئ الذي وقعت عليه الدول الثلاث في عام 2015.
ما بعد الإنهاك.. حدود “التحمل” العربي
عندما يتلاقى إنهاك الدولة والمجتمع والعلاقات البينية العربية، فإن تداعياته تصبح أكثر تهديداً لمستقبل المنطقة، خاصة أن تحمل الضغوطات المتتالية له حد يسميه علماء العلوم الطبيعية “حد التحمل”، فمن بعد هذا الحد تتغير خواص المواد الداخلية، وتقل قدرتها على المرونة. بالمنطق ذاته، فإن الإنهاك العربي بفعل الأزمات قد يؤدي مع طول أمده إلى فقدان القدرة على التحمل، وبالتالي تصبح القابلية للهشاشة أكبر، وهو مسار دخلته بالفعل دول الصراعات كسوريا وليبيا واليمن، إذ اهتزت شرعية الدولة ورضخت لتدخلات القوى الخارجية التي باتت تهيمن على مسارات التسوية سواء عبر وكلاء داخليين أو مفاوضات مباشرة. المعضلة هنا، أن العامل الخارجي قد يظل مصدراً ممتداً للإنهاك العربي حتى بفرض توقف الصراعات وتسويتها، فعلى سبيل المثال، فإن المقابل الذي قد يدفعه نظام الأسد في سوريا جراء مساعدة روسيا وإيران وحزب الله على بقائه قد يشكل عاملاً للتوترات المستقبلية خاصة مع التغلغل الروسي والإيراني في بنية المجتمع والدولة في هذا البلد.
من جهة أخرى، مهد الإنهاك العربي لانزواء المشروعات الجماعية العربية وصعود نظيرتها الشرق أوسطية إثر المكاسب التي تحققت لقوى إقليمية بفعل الإنهاك العربي. فإسرائيل تحولت إلى الرابح الأكبر في توازنات القوى في العقد الأخير، فلم تستنفد طاقاتها في أزمات منهكة مقارنة بالدول المحيطة بها، بل على العكس وظفت حالة الإنهاك تلك لتوسيع التطبيع مع دول جديدة (الإمارات والبحرين والمغرب والسودان) دون مقابل ملموس يتعلق بالحقوق الفلسطينية والعربية. أضف إلى ذلك، محاولتها بناء تحالف إقليمي مضاد لمواجهة القوة الإيرانية المتوغلة في الإقليم.
من جهة ثالثة، فمع تكرار الاستحقاقات الانتخابية في المنطقة العربية دون أن تعكس عوائد ملموسة في تحسين حياة المجتمعات، تظهر حالة الإنهاك السياسي الذي يتحول بمرور الوقت إلى حالة عزوف سياسي. يتجلى ذلك مثلاً في تدني معدلات المشاركة السياسية في الأعوام الأخيرة (29.9% في الانتخابات البرلمانية الأردنية في 2020، 23.7% في استفتاء الدستور في الجزائر 2020، 27.5% في استفتاء تونس حول دستور 2022). بل إن أكثر من نصف سكان المنطقة عبروا عن فقدانهم الثقة في تحسين أوضاعهم الاقتصادية في ظل نظام ديمقراطي، بل وحبذوا حكم الرجل القوي، وفقاً لاستطلاع نشرت شبكة البارومتر العربي نتائجه في يونيو 2022[20].
من جهة رابعة، فعندما يحل الإنهاك خاصة بالأفراد والمجتمعات دون القدرة على تحمله، فإنهم يسعون إلى مغادرة السياق المفرز لهذا الإنهاك، ما يعني تحويل المنطقة العربية إلى مصدر طارد للبشر، لذلك أصبحت فكرة الهجرة أملاً لسكان المنطقة للخلاص من الضغوطات المتتالية. هنا، يشير استطلاع لشبكة البارومتر العربي أجرى ما بين أواخر عام 2021 وربيع 2022 أن خُمس سكان المنطقة يفكرون في الهجرة. وتتضاعف خطورة ذلك لكونه يتركز أكثر في الحاصلين على شهادة جامعية فيما فوق وفي شريحة الشباب (18-38)[21]، بما يعزز استنزاف العقول خاصة من شريحة الشباب التي تعد أحد مصادر قوة الاقتصادات العربية.
في الوقت ذاته، قد تؤدي حالة الإنهاك العام بفعل الأزمات دون معالجات حقيقية إلى تراجع الحالة النفسية للعرب وانتشار اليأس والإحباط. فيقول 30% من سكان المنطقة إنهم شعروا باكتئاب جراء ضغوطات الحياة اليومية، في استطلاع لشبكة البارومتر العربي في 2019[22]، وهي نسبة قد ازدادت على الأرجح في الأعوام الثلاث التالية بفعل تداعيات كورونا وحرب أوكرانيا. ويكمن الخطر في أن انتشار الإحباط قد يقود للغضب، بما يجعل دول المنطقة قابلة لدورة اضطرابات جديدة، في ظل أن العوامل الهيكلية المؤججة لثورات عام 2011 من فقر وبطالة وتفاوت لا تزال قائمة، بل زادت وطأتها بفعل الإنهاك المستمر. ومع ذلك، فإن دورة الاضطرابات المحتملة قد ترتبط بخصوصية كل سياق ودولة عربية على حدا، من حيث الموازنة بين عوائد معادلة الاستقرار والتغيير، فكلما تراجع الأول زاد الثاني.
وفي الأخير، وبينما تعج الدراسات الطبية والنفسية حول مكافحة الإنهاك بنصائح من قبيل الراحة والبعد عن وسائل التواصل وغيرها، فإن التعافي من الإنهاك الهيكلي للدول والمجتمعات والعلاقات البينية في المنطقة العربية يتطلب اعترافاً ومصارحة بعمق المشكلات، وتصالحاً مع الذات والآخر، والأهم إرادة سياسية تعيد الاعتبار للعدل والمساواة وإفساح الحريات في المجال العام للخروج من مسار الإنهاك ومخاطره.
[4] عبد الرحمن أكيدر، تاريخ التعب: من العصور الوسطى إلى حاضرنا، مجلة الدوحة، 24 فبراير 2021
shorturl.at/fmV12
[5] أنظر في ذلك: ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة.. ولادة السجن، ترجمة د. علي مقلد، تقديم، مطاع الصفدي ( بيروت، مركز الإنماء العربي، 1990)
[13] أنظر التقرير الدولي لمنظمة أطباء بلا حدود، أدنى من البشر، كيف تلحق سياسات أوروبا الأذى باللاجئين والمهاجرين وطالبي اللجوء؟، 2019
shorturl.at/mnp06
[15] يكشف مؤشر مدركات الفساد لعام 2021 عن عقد من ركود مستويات الفساد وسط انتهاكات لحقوق الإنسان وتردٍّ ديمقراطي، 25 يناير 2022
https://www.transparency.org/ar/press/2021-corruption-perceptions-index-press-release
[18] نصف لاجئي العالم داخل المنطقة العربية ومنها، موقع اندبندنت عربية، مارس 2022
shorturl.at/gqU18
#Fatigued #Region #كيف #يمكن #فهم #الحالة #العربية #من #منظور #الإنهاك
تابعوا Tunisactus على Google News