الصوفى يمر بمراحل التخلِّى عن الذنوب فالتحلِّى بالفضائل ثم التجلِّى الأعظم د. محمد أبو الفضل بدران: «الخضــر» رمــز مقاومــة المحــتل وتحقيق العدل الاجتماعى والقضاء على الطبقية
الناس فى قريتى يخشون ردّ السائل فربما كان «الـخضـــر»
الكرامات حديث السَّمر المقدس فى صعيد مصر
الرحالة وجدوا فيه مؤنسا عبر البحار والصحارى ويعلمهم كيف يطيرون قبل اختراع الطائرات فاتخذوه صديقا لهم
جميع الشعوب تحكى الكرامات وتؤمن بها كل الأديان
خلال الحج أمعنت النظر فيمن يرتدون ملابس خضراء ربما كان الخضر بينهم
ظلمتُ الشعر معى عندما منحتُ الأكاديمى والإدارى جُلّ عمرى
«الخضر» ليس لنا فقط واكتشفت أنه متجاوز الأزمنة والأمكنة ..ولكل زمان خضره الذى يسخّره الله ليكون عونا للفقراء والمُستضعَفين
من أول وهلة تشعر بأنه من أقربائك، أو صديق من الطفولة!يتبادل التحيات بمودة صافية، وحياء بادٍ، فلا يتطوع بحديث إلا إذا سُئل، ولا تزيد إجاباته على الاستفسار. ولا ينظر فى عين محدثه. فإذا سكن محيطه آب إلى صمته، وضم كفيه بعفوية بين رُكبتيه كأى مهذب. ويغرق فى تأملاتٍ عميقة.إذا حضرت محاضرة له، أو ندوة، فاجلس براحة لتستمتع بمهاراته العلميةوإن صادفته فهيئ نفسك وأنصت عميقا إلى أفكار هادئة تعجّ بمعانٍ باهرة ولو طالعت مقالة له، أو بحثاً، فهو إضافة رؤية جديدة إلى رصيدك المعرفى وقد يفاجئك إذا قرأت له قصيدة فشعره حداثى لا يغلب عليه شغفه بالتراث، وتلمس فى ديوانيه «النوارس تحكى غربتها» و«ديوان بدران» تغريبة روحية ملفتة.حاز ليسانس الآداب من جامعة أسيوط (1981)، وعين مُعيدا، ونال الماجستير (1985) بتقدير ممتاز عن «دور الشعراء فى تطور النقد الأدبى»، وابتُعث إلى ألمانيا لحيازة الدكتوراه حول «قضايا النقد والبلاغة فى تراث أبى العلاء المعرى» (1990)، وعاد إلى آداب جنوب الوادى، وعمل أستاذا زائرا بآداب جامعة الألمانية، وبات رئيس قسم اللغة العربية، ثم وكيلا للكلية، ورُقى إلى أستاذ النقد الأدبى (2004)، وفى 2006 أصبح عميداً لآداب جنوب الوادى، ثم رئيسا للمجلس الأعلى للثقافة، وبعدها هيئة قصور الثقافة، لكن «شاويشية الثقافة» لم يسمحوا له بإكمال تجربته كما علمت من مصادر موثوقة، ورفض هو تلك المعارك المُضيّعة الجهد والعمر، وفضّل العودة إلى عمله، وبعد قليل أصبح نائبا لرئيس الجامعة، وببلوغ سنّ التقاعد الرسمى آثر التفرغ للتدريس والكتابة.وأهم ما استوقفنى من كتبه «الخضر فى التراث العالمى» و«أدبيات الكرامة الصوفية»، اللذان اجتمعت فيهما موهبته الإبداعية، بحسّه الشعرى، مع قدراته البحثية، ونقاء روحه الصوفية، ليقدم لنا واحدة من أصفى الرؤى لمنطقة التماس المربكة بين المعتقد والثقافة، بين النصوص الصريحة وتحليقات المخيّلة الشعبية، وبين الدين وإبداع الجماعات الشعبية حول العالم.أظهرت فى كتابك «الخِضر فى التراث العالمي» أنه حالة دينية متعددة الأوجه، يُعرف باسمه فى الإسلام. والبعض يرونه من الرسل المذكورين فى سورة «يس»، وآخرون يرونه إلياس، وفى المسيحية هو صاحب الحربة الشهيد «مار جرجس». وموجود فى الهند وإيران، ووجوده فى التراث الشعبى ربما يفسر احتفال المسلمين والمسيحيين بمولده فى أديرة تحمل اسمه بمصر، فهل هذا ما استلفتك وشجّعك على وضع كتابك «الخضر فى التراث العالمى»؟فى طفولتى كان الخضر حاضرا فى أحاديث قريتى العُوَيْضات مركز قِفط بمحافظة قنا، وكان أبى رحمه الله إذا ذُكِر الخضر اعتدل وقال بصوت عال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فأتلفتُّ حولى ولا أرى أحدا. سألته: على مَن تسلم؟ قال: الخضر. سألته ببراءة: أين هو؟ فردّ بيقين: «ما ذُكر الخضرُ فى مكان إلا كان ماراً به». ربما هذه الجملة هى التى لفتت مخيلتى إلى الخضر وفجّرَتْ أسئلتى حول صفاته وأوصافه وأسمائه وكينونته، ولم لا نعزمُه ضيفا فى بيتنا؟ مثَّلت الأجوبة مكنزاً من الحكايات والكرامات والسرد الممتع عن حاضر غير مرئيّ. ربما تراه مصادفة ولا تشعر به إلا بعد غيابه. وحين شبّبت امتلأ ذهنى بخوارقه، فهو يطير على بساط الريح الأخضر، ويأتى فى صورة شحاذ فقير أشعث يسألُك خبزا أو ماء أو مالا، فإذا لم تعطه فالفقر قادم لا محالة، وإذا منحتَه فسينهال عليك المال الوفير، وكما يقول الناس فى قريتنا هى «دعوة الخضر»، لذا يخشون ردّ السائل فربما كان «الخضر».ونسب أهل قريتى الفضل إليه فى تحوّل شارع السبعى بقفط إلى أهم مركز تجاري، لأن الخضر مرّ به مُتنكرا فى ثوب شحاذ وأكرموه فدعا لهم بسعة رزقهم فى التجارة، وبالمقابل فسروا فقر بعض الأغنياء فجأة لأنهم سخروا من الخضر ونهروه فدعا عليهم. لذا، ظلّ حاضرا بذهني، وكنت أحدق فى النيل لأراه فوق بساطه الأخضر، أو طائرا بثيابه الخُضر، وخلال الحج أمعنت النظر فيمن يرتدون ملابس خضراء ربما كان بينهم.اتسعت حكايات الخضر حتى بدا بعضها أساطير، وتداخل فيها الدينى بالأسطوري. فهناك من يرونه مُخضر النبات، وصاحب النماء، ومنقذ المظلومين من الجبارين، ومُطارد الطغاة وقُطّاع الطُرق، وسيد الأولياء. فجاء رصدك الشامل والعميق مقاربة نقدية مغايرة للتناولات التى اكتفت بالتفسيرات الدينية، وتعاطفاً حكيماً منك مع التخيّيلات الشعبية، فكيف نفصِّل رؤيتك الحاشدة تلك ونبسِّطها للقُرّاء؟أثناء إنجازى الدكتوراه بجامعة بون فى ألمانيا كنت أتصور «أن الخضر خضرنا». وذات ليلة فتحتُ الراديو لأسمع قصيدة للشاعر الألمانى «جوتِه»، وهو من المستشرقين الذين فُتنوا بالخضر وديوانه الشرقى الغربي، ففوجئت بقصيدة رائعة للشاعر «فريدريش ريكرت» (1788 – 1866) عنوانها «خضر» «Chider» وترجمتُها لاحقا إلى العربية. يقول فيها:الخضر الشابُ الخالدُ قال:مررتُ عبر إحدى المدنكان رجل يقطف الفاكهة فى الحديقةوسألتُ منذ متى توجد هذه المدينة؟قال وهو ما يزال يقطف الفاكهة:«هذه المدينة توجد فى هذا المكان منذ الأبدوستبقى إلى الأبد»وبعد خمسة قرون مررتُ بالطريق ذاتهافلم أجد أثراً لهذى المدينة.وكان هناك راع وحيدٌ ينفخُ فى المزماروكانت الأغنام ترعى العُشبَ والأوراقوسألتُه: منذ متى اختفت هذه المدينةقال وما يزال ينفخ فى مزماره:شيء ينمو بينما يجف شيء آخرهذا مرعاى الأزلي.وبعد خمسة قرون مررتُ بالطريق ذاتهافوجدتُ بحراً ترتطم فيه الأمواجوكان هناك صيادٌ يرمى الشبكة فى الماءوعندما ارتاح من الرمى والشدسألته: منذ متى يوجد هذا البحرقال وضحك على كلماتيمنذ أن ترتطم الأمواجويصطاد الناس فى هذا الخليجوبعد خمسة قرون مررت بالطريق نفسهاوجدت غابةً ذات أشجاروكان هناك رجل يقطن فى الغابةوكان يقطع الشجرةَ بالفأسوسألته منذ متى توجد هذه الغابةقال: هذه الغابة هى الملجأ الأبديومنذ الأزل وأنا أعيش فى هذا المكانوستنمو الأشجار هنا إلى ما لا نهايةوبعد خمسة قرون مررتُ بالطريق ذاتهافوجدتُ مدينةً ذات ضوضاءضج السوق بأصوات شعبية عاليةوسألتُ منذ متى بُنيت هذه المدينة؟أين الغابة والبحر والمزمارصرخوا ولم يسمعوا كلماتيهكذا كان الحال دائما فى هذا المكانوسيظل هكذا إلى الأبدوبعد خمسة قرون سأمرُّ بالطريق ذاتها!ونلمح فى القصيدة تشبع ريكرت ومعرفته بالثقافة والتراث الإسلامي، وركّز هنا على الخضر الخالد والرؤى الفلسفية لوجود متغير ذى حقيقة واحدة.ووجدتُ نصا للقزوينى (682هـ) عن «عجائب المخلوقات» ويبدو أن ريكرت اتكأ على ذلك النص فى قصيدته هذه. فتساءلت مَن هَرَّبَ خضرى للألمان؟ وأدركتُ أن الخضر ليس لنا فقط. وبدأت بحثى عنه لأكتشف أنه متجاوز الأزمنة والأمكنة، ولكل زمان خضره. واتسعت حكاياته فى بلدان الدنيا لأن الله يسخّره ليكون عونا للفقراء والمُستضعَفين؛ وصورة الخضر وكنيته «أبو العباس» اختلط فيها الدينى المقدَّس بالأسطورى الشعبي، وأدى هذا الخلط إلى ديمومة حضوره فى التراث الدينى والأدبى والفُلكلور الإنساني، وتخطى التراث العربى إلى آداب الشعوب الإسلامية؛ كما نرى فى التراث الإندونيسي؛ والفارسي؛ والتركي، ونلمح فى التراث الآسيوى Al-Khizr؛ فعند مسلمى الهند وغير المسلمين «صار مقدساً عند صيادى الهند، ومرشدا للبحارة، وما زال البحارة يذكرون اسمه إلى الآن حين يبحرون باتجاه الشرق الأوسط والهند الشمالي. وأضحى الخضر «راعى الملاحة» فيقال: «رجا كيدار حارس ضد أخطار الملاحة» فإذا هبّت عاصفة فى المحيط الهندى يصيح البحارة «خضر» فتهدأ العاصفة وتنجو السفينة؛ ويُسَمَّى فى سريلانكا Kilurأو Kalir أوHalir، وكيلُر وكالير وكالير مشتقّات من خضر العربيّ وأيضًا «Hayatun Nabi» أى «النبى الحي» وأضحى عندهم مثل الهواء. و«عندما يفكّر أحد فيه يكون هناك». وفى التراث الفارسى خضر أو خِيسير، وفى التراث اليهودى هو الـحَبر يهوشع أو يوشع أو إيليا؛ وفى المسيحية القديس جورج أو جورجيوس أو مارى جرجس؛ ولم ينحصر حضوره فى التراث، فتنتشر مزارات الخضر فى سوريا ولبنان وتركيا وغيرها، وفى تركيا يسمون سيارة الإسعاف الخضر، لقدرته على إغاثة الملهوف. واتفقت صفاته بين الجماعات من الجَمال إلى الطيران فى الهواء، وسرعة الوصول، وإقامة العدل، لذا نجده مع «أبو زيد الهلالي» فى السيرة كلما ظُلم أبوزيد. وفى حمص وجدت فندق الخضر، وزرت مسجد الخضر ببيروت ويفصله حائط عن كنيسة مار جرجس.وهو عند الصوفيين من يولّى الأولياء ويُلبسهم خِرقة الولاية والغوثية، ويرونه عابر الزمان والمكان «حيث تفتقده تجده»، وكل مشايخها بانتظار رؤيته ومجالسته والتعلم على يديه، فهو العبد الصالح الذى التقاه سيدنا موسى عليه السلام، فحين سئل عن أعلم أهل الأرض قال: أنا، فأوحى الله إليه أن عبدا من عبادنا أعلم منك، وسعى سيدنا موسى لمسافات طويلة بحثا عن ذلك الأعلم حتى لقيه، وطلب أن يعلمه كما جاء بسورة الكهف، وتعجب موسى لأفعال الخضر فافترقا بعدما علّمه أن علم الحقيقة لا يتعارض مع علم الشريعة.كل هذا شجعنى على وضع كتابى «الخضر فى التراث العالمي»، فتعقبتُه كقصّاصِ أثر، والتزمت بالمنهج العلمى فى تقصى أثره حول العالم، حتى أننى بتّ أراه فى منامى وأحادثه. وسعدت بأثر كتابى فى أعمال روائية، ودراسات نقدية اعتمدت عليه.ما الفارق بنظرك بين التلقى والتسليم بالموروث فى مسألة الخضر، ورصد حضوره فى الثقافات العالمية المختلفة بشكل علمى؟هناك فارق كبير بين الإيمان بالخضر والمنهج العلمي، لأن الخضر لدى قطاع كبير من الناس مجرد عابر الأزمنة، ويموت فى آخر الزمان، وهذا ليس بُغيتي، فقد غلّبتُ المنهج العلمى فى كتابي.وما مكونات الخضر الدرامية التى جعلته يتجلى فى الشعر، وكتابات الرحّالة، والقصة القصيرة، والرواية كما رصدت بكتابك؟ هل تستوجب هذا الانتشار الواقعى والإبداعى؟كيف تجاوز البلدان وظل بصفاته التى وزعها فى جسوم كثيرة، وكيف تجاوز اللغات والبيئات، وكيف يحتفل الأتراك سنويا بعيد الخضر أو «خزر إلياس»كما نرى فى مدينة ترابزون التركية، وشعبيته هناك ليست قصرا على الفلاحين، بل فى الدوائر الرسمية العثمانية. وقد رأيته فى إندونيسيا والبلدان الإفريقية، وعندما زرتُ مسجد القيروان بتونس قال لى أحدهم صَلّ بجوار هذا العمود لأن الخضر يصلى هنا كل خميس. والفتيات السوريات الراغبات بالزواج يزرن مقامه فيتقاطر الخاطبون على بيوتهن. هذه الظواهر الفلكلورية والحكايات المتناقلة أوجدت هذا الإبداع الذى جمعتُه وحاولتُ فهمه وتحليله نقديا، بجانب ما أسمعه فى المنادر والبيت والجامع. ألا يثبت هذا إبداع الشعوب. فالخضر تيمة طيّعة، وتوظيفُه فنيّاً وإبداعيا سهل ويؤتى ثماره لدى الملتقي؛ فالخلود أمنية كل البشر، وتحقيق الحاجات مقصد الحياري، لذا يُوظف رمزا لمقاومة المحتل والظلم، وتحقيق العدل الاجتماعى والقضاء على الطبقية وأمنيات العوانس فى الزواج والعواقر فى الإنجاب. ووظفه الأدباء فى القفز بالمتلقى نحو المُتخيل البطل الأسطورى المتفرد والموهوب، ولامس ذلك الجانب الروحى العرفانى لدى الناس، فتسرّب إلى مشاربهم وغدا أيقونتهم الساحرة. ولقد وجد الرحالة فيه مؤنسا عبر البحار والصحارى ويعلمهم كيف يطيرون قبل اختراع الطائرات فاتخذوه صديقا لهم.وافتتحت كتابك «أدبيات الكرامة الصوفية» بمقولة للشيخ «محمد الطيب الحساني» والد فضيلة الإمام شيخ الأزهر الشريف الدكتور «أحمد الطيب»، ذكر فيها: أن «لحظاتنا كلها كرامات، وليست هناك كرامة أفضل من كرامة العلم». فكيف نفهم تلك الصلة الخفية بين الكرامات، تلك الغيبيات فوق الحسِّيّة (الباراسيكولوجي)، والعلم؟دعنى أخبرك بسر، عندما بدأت رسالة الدكتوراه عن أبى العلاء المعرى والمستشرقين، كان الأمر مقبولا، فالغرب يموج بعقلانيته وكذلك أبو العلاء المعرى الذى كان يصرخ:أيها الغِرّ إن خُصصتَ بعقلٍ فاتّبعْهُ، فكل عقلٍ نبىّ وبمنطلق علمى ومنهج دقيق تناولتُ أدبيات الكرامة الصوفية، ودرستها شكلا ومضمونا دون وقوعى بفخ التصديق أو التكذيب. الأمر كان مدهشا، لأن الكرامات حديث السَّمر المقدس فى صعيد مصر، الشيخ أحمد (شرق النيل) فى «فاو»، يناول الشيخ سليم (غرب النيل) فى «هُوْ» كُرة من الجمر ليستدفَئ بها. والمسافة بين «هو» و«فاو» من 15 إلى 20 كم. والشيخان وفق السائد عنهما «كانا يقيدان الدُّوم فى الشتاء لحد ما يبقى جمر». وتوضح هذه الكرامة الشفهية مدى تأثير الحكاية بوجدان المتلقى وتشحذ طاقة الإبداع لديه.وكذا، «أبو القمصان» بالأقصر يفرش قميصه فوق ماء النيل بالقرية عابرا من غرب الأقصر لشرق النيل ليزور سيدى «أبو الحجاج»، يعبر النيل جالسا فوق قميصه أو يصلى ركعتين عليه دون أن يبتل هو أو قميصه. وفى العراق حكى اليافعى عن بعض المشايخ، قال: «مررتُ يوماً على شاطئ الفرات فعرضَت لنفسى شهوة السمك الطري، فإذا الماء يقذف سمكة نحوي، وإذا رجل يعدو ويقول: أشويها لك؟، وشواها، فأكلتها. وهذه حكايات تراثية يرويها بعض المعاصرين للناس فى مجالسهم، وقد يكذبهم أحد الجالسين، لكن حجتهم: «من لم ير النور لا يستطيع أن يثبت عدم وجوده». وينشد منشدهم:قُل لذى المُعرِض عنّا / إنّ إعراضك منّالو أردناك لأضحي/ كل ما فيك «يُردْنا»فالكرامات «خرقُ للعادة، يجريه الله على يد ولى»، فهى خاصة بالأولياء، مقابل معجزات الأنبياء. وهذه الزاوية شغلتنى فى كتابي، وخلصت إلى أنها جنس أدبى مستقل قد تكون أساسا للقصة القصيرة. وكنت أتنقّل بين عقلانية المعري، وروحانية الكرامات أثناء تمشيتى على نهر الراين بألمانيا.
الرحيمى يحاور دكتور بدرانوقلت فى إهداء الكتاب: «إلى أبى الذى شاهدت كراماته، وعلّمنى أشعار ابن الفارض، و…» ووالدك كان شيخ طريقة، وأنت تنتمى لذات الطريقة الصوفية، وذهبت لتأصيل الكرامات فى مختلف تجلياتها، واستلهمتها من مكانزها التراثية؟وحصلت على الدكتوراه من جامعة ألمانية، وعملت أستاذا بعدة جامعات ألمانية؟ فهل كتبك هذه محاولة للمصالحة بين العلم والغوامض فوق الحسيّة؟ أو بين الدينى والعلمى؟ فهل استطعت التوفيق دون مخالفة للعلم، أو المساس بالمعتقد؟معك حق. نعم، هى مصالحة أن أُدرِّس الكرامات لطلابى فى جامعات بون بألمانيا على أنها من الأدب العجائبي، لماذا نقبله من ماركيز ولا نقبله إذا جاء به أحد مجاذيب الحسين رضى الله عنه، أو مجذوب للسيدة زينب رضوان الله عليها. كان تجاوب طلابى رائعا، كلَّ يحاول تفسيره وفق قناعاته، اكتشفتُ أن جميع الشعوب تحكى الكرامات وتؤمن بها جميع الأديان وغيرها. وجدت عجائب عن بوذا. والأبطال الشعبيون والسير الذاتية أوردتْ من الكرامات عددا لأنها ترادف المصادفة التى لا تُفسر منطقيا أيضا لكنها مقبولة فى البناء السردى والمسرحى والشعرى فلماذا لا نقبل الكرامات، بل إننى أدعو لإيجاد «علم الكرامات المقارن»، لقد جمع «ريتشارد جراملش» العجائب التى تكوّن مادة أدبية نقدية رائعة، وهو ما فعله اليافعى والنبهانى قبله بقرون.وخصصت فصلا لـ «نظرية الاستبدال فى الكرامات» قلت فيه:«..أعتقد أن الكرامات تقوم على محاكاة المعجزات. ومن هنا فالمحاكاة هى البنية الأساسية فى إبداع الكرامة. وفق نظرية الاستبدال. بمعنى إذا ضلّ إنسان فى الصحراء مثلا، يأتيه المدد ويدله على الطريق؟ فكيف يمكن استيعاب فكرة الاستبدال على نحو أوضح؟».فكرة الاستبدال فى الكرامات تقوم على الإبداع الجمعى عبر الأجيال، فالوظائف فى الكرامات واحدة، والنهايات التى تأتى بعد العجز تفاجئ المتلقي، كما أن الشخصية المحورية «الولي» يستطيع المتلقى المبدع استبداله بأى ولى فى أى مكان بالعالم. فالشخصيات يمكن استبدالها، وكذلك الوظائف الأدائية تستبدل عندهم، فالله المعطى وهو الغاية الأسمى والجزاء الأوفي، لذا نجد مرحلة العروج التى عبر عنها كبار المنظومة، عروج الروح لأن مستويات الصوفى الحق تمر بمراحل «التخلِّى ثم التحلِّى فالتجلِّي». التخلى عن الذنوب والمعاصي. والتحلِّى بالفضائل والأخلاق، ليصل إلى مرحلة التجلِّى الأعظم من الله تعالى فيراه.وصرتُ موسى زماني/ مُذْ صار بعضى كُلِّيصارتْ جبالى دكًّا/ مِن هيبة المتجلِّينعم. ففى جزء رؤية الله تعالى قلت: «وأظن أن رؤية الله، وهى الغاية المنشودة عند المتصوفين، جعلت النص الكراماتى مملوءا بالمغايرة، قياسا بالنصوص الأخري». فإذا كان النبى قد عُرج به إلى السماء، فلماذا لا يُعرج بالأولياء إلى رؤية الله، ومحادثته؟ كيف يمكنك تفصيل هذه التحليقة ببساطة أكثر؟حياة الأقطاب والأولياء تمر بمراحل السياحة والخُلوة، وهى مراحل شاقة عبَّروا عنها فى نصوص أدبية خالدة، حبذا لو حُقق منها ما لم يُحقق لأنها من أفضل نصوص السياحات الروحية والمعارج العرفانية.فهل ثمَّة ارتباط للكرامات بأزمنة القهر الاجتماعي، والهوان الاقتصادى، وهل انتشارها لوذٍّ من الناس بالأولياء ليرفعوا شكواهم إلى الله تعالى ليكشف عنهم الغمّة؟ أم أنك تعتقد بوجودها فعلا وتتجلى لهم فى الأزمات أكثر؟ارتباط الكرامات بالفقر والقهر الاجتماعى لا سند له فى الواقع، فالكرامات وُجدَت بجميع الأزمنة فى رغد العيش والفقر المدقع، ولم ترتبط ببيئة معينة أو جيل معين أو فئة معينة، تجاوزت الكل لأنها تعبر عن توق الإنسان لتحقيق أمنياته. وما يكتبه الناس للإمام الشافعي، أو لغيره من أولياء الله، وتمتمة الشفاه، وأنين القلوب حول المقامات والأضرحة أنين مكتوم لقلوب محترقة بالحب، وهمس الشاكين وبوح العشاق، لأنهم يؤمنون بقربهم من الله تعالي. وهذا التنفيس الإبداعى نراه فى الموالد حيث يتحول «المولد» إلى كرنفال شعبى يعيدك إلى عصور البطولة، ولذا يبدع الناس كراماتهم الأدبية فى نصوص سردية يتخللها الشعر أحيانا كى يرفع من جماليات النص النثرى.وفى تعريف الكرامة قال «دى بى ماك دونالد» فى موسوعة المعارف الإسلامية الألمانية (EI) بأنها: «منح باهرة، وأدلّة على رحمة الله التى يحيط بها أولياءه ويحميهم ويعينهم». وقال «جوته»: «إن الكرامة فى الأديان كالطفل المحبوب»، فأية أبعاد ثقافية إنسانية أضفياها هذان الكبيران على مفهوم الكرامة؟تعريف جوته للكرامات بـ«أنها فى الأديان كالطفل المحبوب» يعكس تفهمه الجيد للكرامة. وهو كان محباً للثقافات والحضارات، وشغوفا باللغات، وحين زرتُ بيتيه فى فرانكفورت وفايمرْ قرأتُ ما كتبه بخط يده باللغة العربية على ديوانه الشرقى الغربى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» (4)». ودخل الشرق من باب الشعر، خاصة الشعر الصوفى الذى وجد نفسه فيه، ما يؤكد حاجة البشر الآن إلى روح التصوف وإلى المعانى العرفانية التى تؤكد التسامح وإعلاء المحبة بين البشر.لديك عنوان متعدد الأفرع، عن الكرامة فى الأدب، فإلى ماذا يؤدى بنظرك، وعلى ماذا يدل وجود الكرامات فى الإبداع؟ هل هو كامن فى اللاوعى مثلا عند نجيب محفوظ، وعبد الحكيم قاسم، ويظهر بشكل لا إرادى، أم أن استخدامه كان بوعى كامل؟ وما دلالة رفض «يحيى الطاهر عبد الله» كل ذلك؟توظيف الكرامة عند نجيب محفوظ وجمال الغيطانى والطيب صالح وعبدالحكيم قاسم عن حب، بينما كان يحيى الطاهر عبدالله رافضا كل المعتقدات الجنوبية، رافضا واقعه لذا كان يكتب عن الصعيد بكره شديد لما رآه خطأ، بعكس بهاء طاهر، فكان يكتب عن الصعيد بحب شديد.ولك أربعة دواوين شعرية، كأنها لم تحقق انتشارا لائقا، فهل يرجع هذا لانشغالك عن التواصل مع الصحف والمجلات والمنتديات، ولماذا أشعر بأن الناقد بداخلك يعيق الشاعر عن الانطلاق؟ أم أن نظرتى تخالف الحقيقة؟لقد ظلمتُ الشعر معى عندما منحتُ الأكاديمى والإدارى جُلّ عمري، وجعلت الشعر هامشا أبوح به لنفسى، والشعر لا يقبل التعدد، لكنى أعكف الآن على إصدار ديوان شعرى جديد، ربما أجد من الوقت ما أعوّض الشعر الذى أرى نفسى فيه. وأتفق معك فالناقد الكامن فى الأعماق يُقيّد الشاعر. وربما فى السنوات المقبلة نستطيع حلّ هذه المعضلة، إن كان فى العمر بقية.كيف أمكنك التوفيق بين الأستاذية العلمية والمتصوف بداخلك؟ وهل يمكن لمتصوف أن يتولى مسئوليات إدارية متعددة ومربكة مثل عميد كلية أو نائب رئيس جامعة دون تورط فى انفعالات وقرارات تتعارض مع لطف الصوفية وسماحتها؟أغرقُ فى الضحك حين يقال لى إنى متصوف، وأن المتصوف لا يشغل نفسه بالدنيا والإدارة، وأنا لست متصوفا وليتنى أكونه، ومن يقرأ فى التصوف عن أرباب الحرفة يجد أنهم قادة مصلحون وإداريون ناجحون، واسمع من أئمة التصوف ولا تسمع عنهم. وهل كنت إداريا ناجحا؟ أتركه هذا للتاريخ، ولمن عملوا معى ولا أزكى نفسى.
رابط دائم:
#الصوفى #يمر #بمراحل #التخلى #عن #الذنوب #فالتحلى #بالفضائل #ثم #التجلى #الأعظمد #محمد #أبو #الفضل #بدران #الخضــر #رمــز #مقاومــة #المحــتل #وتحقيق #العدل #الاجتماعى #والقضاء #على #الطبقية
تابعوا Tunisactus على Google News