حامد الآمدي.. آخر الخطاطين العظام (إضاءات عثمانية)
إسطنبول / إحسان الفقيه / الأناضول
-الخطاط حامد الآمدي أحد رموز فن الخط الذين نشأوا في كنف الدولة العثمانية، وترك العديد من آثاره الفنية على جدران الجوامع وأغلفة الكتب وكتابة القرآن بخط اليد.
-قام الرجل بكتابة طغراءات عديدة، أشهرها طغراء السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وطغراء الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية، وطغراء شاه إيران رضا بهلوي.
-تخرج من تحت يده، باقة من ألمع الخطاطين المعروفين في عدة بقاع من العالم، من تركيا والدول العربية واليابان.
في ديار بكر، كان يعيش خطاط عثماني يدعى آدم الآمدي، ولم يرث عنه ولده ذلك الفن الأصيل حيث كان يعمل قصّابا، لكن ذلك القصاب قد خرج من صلبه أحد جهابذة الخط الذين تركوا بصمة واضحة في هذا الفن.
إنه الخطاط الشهير موسى عزمي، والذي اشتهر باسم “الخطاط حامد الآمدي”، ذلك الرجل الذي وصفه الدكتور علي أرسلان الأستاذ بجامعة إسطنبول بقوله: “واحد من الفنانين العباقرة، وهم قلائل في التاريخ الفني الإسلامي”.
ولد حامد عام 1891م في ديار بكر، بدأ دراسته في أحد الكتاتيب الملاصقة للجامع الكبير بديار بكر، حيث تعلم القراءة والكتابة، وتعلم الخط على يد معلمه “مصطفى عاكف”.
بعد أن أنهى تعليمه في الكتّاب، التحق الصبي بالمدرسة الرشدية العسكرية في ديار بكر، وتعلم فيها خطيّ الرقعة والثلث، وخطوط اللغة اللاتينية، والخطوط الرومانية.
في تلك المدرسة تعلم على أيدي عدة أساتذة، منهم سعيد أفندي وكان من أحد أئمة المساجد وله أسلوب خاص به في تعليم الخطوط، حيث كان يأمر تلامذته بكتابة القرآن الكريم بالطباشير على السبورة، فتمكن موسى عزمي (حامد) من كتابة القرآن عدة مرات بالطباشير.
قام والده بمنعه من مزاولة هذا الفن لأنه رسب في عامه الأول بالمدرسة الرشدية بسبب اهتمامه الشديد بالخط، لكنه قد أذن له بعدما حصل الابن على مكافأة قدرها ليرة ذهبية، إذ أنه كان يساعد معلميه في كتابة لوحة خطية على قطعة قماش تحمل اسم السلطان، فبذل حامد محاولاته لكتابة طغراء السلطان (شارة أو علامة سلطانية).
وأثناء دراسته في المدرسة الرشدية، قام الآمدي بتقليد خريطة في أطلس مدرسي بدقة شديدة، الأمر الذي دفع معلمه في مادة الجغرافيا إلى وضع خريطته في متحف المدرسة.
بعد أن أنهى دراسته في المدرسة الرشدية، التحق بالمدرسة الإعدادية بديار بكر وهي تعادل المدارس الثانوية في التعليم العربي، وفي هذه المرحلة صُقلت موهبته الفنية في الخطوط باتباع مدرستين للخط التركي، مدرسة الخطاط حافظ عثمان (1642-1698)، والخطاط مصطفى راقم (1787-1825).
انتهى الآمدي من دراسته التي تؤهله للتعليم الجامعي، وتوجه إلى إسطنبول بغرض الإفادة من الخطاطين الذين يسكنون عاصمة الخلافة، وهناك التحق بمدرسة الحقوق لكنه تركها بعد سنة واحدة، ليلتحق بمدرسة الصنايع النفيسة، وهي التي عرفت بعد ذلك بأكاديمية الفنون في إسطنبول، ثم تغير اسمها عام 1982م في الذكرى المئوية لتأسيسها إلى “جامعة معمار سنان للفنون الجميلة”.
عام 1908م ترك الآمدي دراسته الجامعية لضيق اليد بعد وفاة والده، وعمل للتكسب، حتى أعلنت وزارة المعارف العثمانية حاجتها إلى مدرس للخط في المدارس، وتقدم للوظيفة.
ورغم أنه نجح في اختبار القبول بامتياز إلا أن لم يقبل نظرا لصغر سنه، حيث كان يبلغ من العمر 18 عاما، لكن إعجاب مدير مدرسة “كلشن معارف” بموهبة الآمدي، قد جعلته يستثني الشاب ويسمح له بالتدريس في المدرسة، وممن تتلمذ على يده في هذه المدرسة الخطاط التركي الشهير حليم أوزيازيجي.
بعد مضي عام على عمله في المدرسة، انتقل إلى العمل في مديرية مطبعة الرسومات، ثم عين في مطبعة المدرسة العسكرية، ثم عين خطاطا بمطبعة أركان الحرب العثمانية خلفا للخطاط محمد نظيف.
أثناء توليه هذا المنصب قامت الحرب العالمية الأولى، فسافر إلى برلين ضمن صفوف قوات الصاعقة، حيث حصل على دراسة متخصصة في دائرة الخرائط التابعة للهيئة العامة لأركان الحرب الألمانية.
ويذكر المؤرخ محمد حرب في كتابه “العثمانيون في التاريخ والحضارة”، سبب تسميته بحامد، فذكر أنه خلال عمله في مطبعة أركان الحرب العثمانية، استأجر حامد دكانا صغيرا للخط والزنكوغراف في حي جاغال أوغلو في إسطنبول، بغرض الاستفادة من الوقت بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية.
وكان القانون يمنع أي موظف حكومي مزاولة أي مهنة إضافية، ولذلك لجأ إلى التسمي باسم مستعار وهو “حامد” بدلا عن اسمه الحقيقي موسى عزمي، وهذا سر شهرته باسم “حامد”، وله في قضية الأسماء هذه مقولة طريفة: “لما عزمت على تعلم الخط كنت “عزمي”، ولما بلغت ما بلغت حمدت الله، وسميت نفسي “حامد”.
تمت محاكمته وفصله من وظيفته الحكومية بعد أن ذاع صيته واكتسب شهرة واسعة، وهذه الشهرة جعلته يتقدم بطلب إلى الجهات الرسمية لتغيير اسمه إلى حامد في الوثائق الرسمية، استأجر بعدها دكانا للخط في شارع الباب العالي في إسطنبول.
وأعظم الخطوط التي خطها الآمدي في الجوامع، هي تلك التي كتبها في جامع شيشلي بإسطنبول كما صرح قبيل وفاته في لقاء له مع مجلة كوبرو.
ومن الجوامع التي كتب خطوطها جامع “قوجة تبة” في أنقرة، وجامع “موضه” في إسطنبول حيث كتب فيه سورة الفتح، كما كتب سورة النبأ في جامع “قارتال” في إسطنبول أيضا.
ومن أعماله الفنية العظيمة، كتابة القرآن الكريم مرتين بخط يده، وهو تشريف قل من ناله، طبع في كل من تركيا وألمانيا، وقام بكتابة طغراءات عديدة، أشهرها طغراء السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وطغراء الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية، وطغراء شاه إيران رضا بهلوي.
كما كتب العديد من الطغراءات الأخرى والتي كانت قوة ملاحظته هي سبب تفوقه في كتابتها، فيقول هو بهذا الصدد: “تعلمت الطغراءات من الطغرائي إسماعيل حقي بنقش حركات يده في الكتابة في ذهني”.
وللخطاط الآمدي ما يصعب حصره من كتابة عناوين الكتب وشواهد القبور والأشعار، لكن أهم ما كان يعجبه شخصيا من أعماله لوحة خطوط سورة الفاتحة، والتي استغرق حامد في كتابتها ستة أشهر.
تخرج من تحت يد الخطاط الآمدي، باقة من ألمع الخطاطين المعروفين في عدة بقاع من العالم، فمن تركيا كان الخطاطون: حليم، حسن جلبي، خسرو طوباشي، أحمد فاتح.
ومن الدول العربية الخطاطون: هاشم البغدادي، يوسف ذون النون، علي الراوي، مروان الحربي، السيدة جنات الموصلية، ومن اليابان الخطاط ميناكو.
وبعد فترة طويلة من صراعه مع المرض، توفي الآمدي، وخرجت جنازته من جامع شيشلي الذي كان يفتخر بأنه صاحب الخطوط التي كتبت عليه، ودفن في 20 مايو 1982م.
وكان من المشيعين لجنازته تلميذه النجيب الخطاط حسن جلبي والخطاطة الشهيرة إنجي بش أوغلو، وتلميذه رجل الأعمال ضيا أيدين، والخطاط الصيدلي أوغور درمان، والمؤرخ إبراهيم القونوي، ومفتي إسطنبول صلاح الدين قايا، والمدير العام للمكتبة السليمانية في إسطنبول معمر أولكر.
في مقدمة كتابه “قواعد الخط العربي”، يقول هاشم البغدادي الذي كان من أبرز تلاميذ الخطاط الآمدي في سياق حديثه عن الخطاط مصطفى الراقم: “تعتبر خطوطه من أروع ما ورثناه من الكتابات العربية، وقد سار على نهج الراقم الخطاطون الذين جاءوا بعده، ويعتبر حامد الآمدي الخطاط المعاصر أحسن من خلفه في مجال خطه ومتانة قواعده وسيطرته على ضوابطه ورغبته في إحياء رسوم الخطاطين الأوائل”.
لقد كان الخطاط حامد الآمدي أحد عباقرة الخط وآخر الخطاطين العظام في القرن العشرين، وعده بعض المفكرين امتدادا لابن مقلة وياقوت المستعصمي وابن البواب، وهم العظماء الثلاثة الذين تركوا بصمتهم في تاريخ الكتابة.
ولم يكن الخطاط الآمدي سوى نتيجة طبيعة لاهتمام الدولة العثمانية بالخط، باعتباره فنًا رفيعا شاع في الحضارة الإسلامية التي كانت تلتزم بالشريعة في منع النحت وصناعة التماثيل، ومن ثم أبدع المسلمون في الممالك والدول الإسلامية في هذا الجانب، ومنها الدولة العثمانية.
وتعد تجربة الدولة العثمانية من أكثر التجارب تميزا في هذا الجانب ولها أثر بالغ في تجاوز حدود المكان الجغرافي إلى ريادة وقيادة الخط العربي على مستوى العالم، وأصبحت إسطنبول قبلة للخطاطين منذ أن صارت مركزا للخلافة.
الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.
#حامد #الآمدي #آخر #الخطاطين #العظام #إضاءات #عثمانية
تابعوا Tunisactus على Google News