رحيل المفكر التونسي هشام جعيط… الحقيقة التاريخية ضد الحقيقة المطلقة
منذ 10 ساعات
محمد عبد الرحيم
حجم الخط
القاهرة ـ «القدس العربي»: «أنا أعتبر أن الرسول محمد توجه تاريخياً الى العرب قبل كل حساب، والإسلام أصبح فيما بعد ديناً عالمياً وليس عربياً. لا يمكن القول إن محمداً نبي العرب، بل هو نبي عالمي، والإسلام أصبح ديناً عالمياً. صحيح سنظل نعتبر أن محمداً رمز للعرب، لكن القول إنه نبي قومي عربي أمر غير جائز بالنسبة لي». (من حوار لهشام جعيط بجريدة الأهرام المصرية)«ليست هناك حداثة غربية وحداثة إسلامية وأخرى صينية وأخرى هندية أو أفريقية، فهي واحدة في جميع أبعادها. أن يجري الكلام على الخصوصيات لدحض قيم الحداثة، فهذا نفاق كبير وتضليل عظيم». (أزمة الثقافة الإسلامية)صوت عربي آخر يرحل، تاركاً جدلاً لن ينتهي قريباً، من خلال عدة مؤلفات حاولت الكشف عن حقائق تاريخية لطالما اصطدمت وأصحاب الحقائق الإيمانية المطلقة. حاول هشام جعيط (6 ديسمبر 1935 ــ 1 يونيو 2021) وغيره الكثير من أصحاب الفكر النقدي العربي، كمحمد أركون، نصر حامد أبو زيد، عبد المجيد الشرفي، ومحمد شحرور ــ رغم اختلاف المناهج البحثية ــ إلى زحزحة المطلق الخرافي، وصولاً إلى صورة عقلية ومنطقية للتراث العربي والإسلامي، والمدونات التي حاول أصحابها الحفاظ عليها ومحاربة كل مَن تسول له نفسه مجرد الاقتراب من ثوابت ظنوها أنها الممثل الوحيد والشرعي للدين الإسلامي. إلا أن حالة جعيط بدورها حالة (مُربكة) فمحاولة التجديد ووضع الحقائق في نصابها من خلال المنهج التاريخي الذي اعتمده، وبالتالي نسبية الحقيقة، والتنصل من تهمة التأثر بالاستشراق، بل ومجادلة المستشرقين ونقد فكرهم المتعالي من قِبل جعيط، إلا أنه في أغلب ما قدّم من دراسات وأبحاث نجده ينحو إلى مقولاتهم، وفي الوقت نفسه يمجد إرثاً ثقافياً، تارة يجله وتارة يريد الانقطاع عنه تماماً حتى يعبر العرب أزمتهم!
المنهج التاريخي
نظراً لطبيعة الدراسة والتحصيل العلمي لهشام جعيط، فإن المنهج التاريخي كان سبيله في البحث والكشف عن الكثير من المتناقضات التي يزخر بها التراث العربي والإسلامي، هذا المنهج الذي جعله يتوسل بعدة علوم أخرى لم تكن معهودة للباحثين القدامى، كالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأديان والفلسفة، حتى يتسنى له تقديم قراءة أكثر موضوعية وبعيدة عن التحليل الإيماني الذي يرى فيه أنه محاولة لاغتيال الحقيقة التاريخية. وهو ما جعله يبحث أمور عدة تشغل الفكر العربي وواقع المجتمعات العربية، التي أصبحت ترى نفسها بعيدة عن الحضارة، وعالة على العالم، ومنها .. نقد الشخصية العربية والثقافة الإسلامية والأزمات التي عاشها المسلمون، كذلك علاقة الإسلام بأوربا، والدراسة المتعمقة للسيرة النبوية وشخصية نبي الإسلام. ويلخص جعيط منهجه قائلاً .. «إنه استقراء الماضي متسلحاً بمعرفة دقيقة بالمصادر والمراجع وبالتعاطف اللازم مع موضوعه وبرحابة صدر وثقابة الفكر».
الإسلام والقراءة الإيمانية
يعتقد جعيط بداية مختلفاً مع معاصرية العرب، بأن الإسلام هو العنصر الأساس الذي يشكل الشخصية العربية والإسلامية، إلا أن الذي يجب تغييره هو الفهم الخاطئ للإسلام وللتاريخ الإسلامي، الذي يحاول الكثير من المفكرين الإسلاميين قراءته قراءة إيمانية تغيّب الحقيقة لتنتج لنا ثقافة إسلامية مأزومة خالية من كل علمية وموضوعية. واعتبر جعيط ــ مثالاً ــ أن المصادر التاريخية مثل سيرة ابن إسحاق أو ابن هشام أو غيرهما لا تعطي إجابات علمية دقيقة، نظراً لتأخر تدوين هذه السير ولغلبة النزعة الوعظية عليها. أما الكتابات الحديثة فقد اعتبر أن أغلبها لا يرقى حتى إلى ما كتبه القدامى من حيث القيمة العلمية، باستثناء كتاب «حياة محمد» لمحمد حسين هيكل، الذي اعتبره آخر الكتابات المحترمة.
إشكالات مأزومة
ومن ناحية أخرى نجد أن منهج جعيط واستنتاجاته لم يحل المشكلات أو يأتي برد قاطع، بل هناك العديد من القضايا القديمة، والتي أُعيد تأويلها من خلال مؤلفاته .. بأن هناك الكثير من التأثيرات المسيحية على القرآن، والتي لا يمكن إنكارها، فيقول: «كمؤرخين يجب أن نقر بتأثير المسيحية السورية على القرآن وعلى قسط وافر من الأفكار والتعبيرات، وأن القرآن كنص من القرن السابع الميلادي ووثيقة من هذه الفترة قد أخذ من موروثها ببراعة فائقة». كما أن نبي الإسلام ولد في حدود عام 580، وليس عام 571، وبالتالي فإن ربط المسلمين ولادة (محمد) بعام الفيل هو ربط غيبي يحمل بعداً رمزياً دينياً. وعليه سيكون نزول الوحي على (محمد) وهو في حوالي الثلاثين من عمره. وبالضرورة ستؤول الأزمة هنا من مشكلة تاريخية إلى أزمة مع النص نفسه (القرآن)!فكتاب مثل «في السيرة النبوية» رغم ما أثاره من جدل، إلا أن البعض لم ير فيه أي جديد، وأنه لم يخرج عن السياق النظري والمنهجي لما جاء في بحوث المستشرق الألماني تويودور نولدكه.وفي ما يلي بعض من آراء هشام جعيط، أوردها في مؤلفاته أو في أحد حواراته الصحافية في عدة قضايا شائكة ..
الحداثة والهوية
كان الماضى عندنا مسكوناً بالهوية الإسلامية أساساً، وفى الواقع المعيش طرأت مسألة الحداثة ووقع نوع من التضاد بينها وبين الفكرة الإسلامية التى عادت لتغلب الفكرة العربية. ثمة طموح إلى حداثة منسوخة من أوروبا، وجرى طرح مشكلة الحداثة من الوجهة الواقعية باعتبار أن المجتمع مدني قبل كل حساب، وأن الحداثة يقوم بناؤها على التكنولوجيا والاقتصاد الحديث والمؤسسة الصناعية وانضباط المواطن نحو دولة القانون، لكن كل هذا تم طرحه من زاوية المثقفين بصفة متقطعة فى أغلب الوقت باعتبار الحداثة مضادة للدين وتعنى الخروج منه، والشيء نفسه بالنسبة للإسلاميين، هم إسلامهم شكلى يخص الملابس، ووضع المرأة وأمور عتيقة مظهرية جداً، وليس عندهم شيء يسمى التفكير العميق والإصلاح الديني كما حدث مع جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده ورشيد رضا.
حوار الحضاراتلا أؤمن بهذه المقولة «حوار الحضارات» بل هي شعار يرفع في كثير من البلاد العربية وحتى الإسلامية لسبب من الأسباب، وكل بلد له أسبابه ايضا، ومثلا في إيران رفع هذا الشعار وهو سياسي من أجل تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة في إطار صراع داخلي. وفي ما يخص البلدان العربية الأخرى فحوار الحضارات والتسامح أيضا هو نوع من مصادمة تفسير التيارات الإسلامية، فالمحاور هو الغرب ليس إلا، نحن لا نحاور الصين حضاريا، لا نحاور البوذية، لا نحاور اليابان، ولا نحاور أفريقيا، ولا الحضارات الأخرى الموجودة بل فقط محاورة الحضارة الغربية الآن بما يعنيه ذلك من تكنولوجيا وعلاقات سياسية وإعانات مالية عبر البنوك الكبرى … هناك قيم أساسية من وجهة أخلاقية ومن وجهة حضارية تكون ما نسميه بالحداثة. الحداثة هي أولا منظومة قيم فيها الجيد وكلها جيدة إنما الممارسة مسألة أخرى لأن البشر بشر. هذه القيم غير منبثة في العالم العربي وحتى الإسلام غير منبث بحيث كيف يمكن ان نتكلم عن حوار الحضارات. ومن جهة ثانية لكي يكون حوار للحضارات يجب أيضا أن تنفتح الحضارات الكونية على عوالم أخرى وهي لا تهتم بالعطاء العربي أو قلما يحدث ذلك وهي لا تهتم وبالتالي كيف يمكن لنا أن نجعلها تهتم بما يقع ويحصل في بلدان من العالم العربي؟
فقدان الأمل
وفي الأخير يقول هشام جعيط في كتابه (أزمة الثقافة الإسلامية) .. إن الأمة الإسلامية ما هي إلا «صحراء ثقافية في كل المجالات، في التراث كما في استيعاب الثقافة الغربية، في الكتاب كما في الرسم أو الموسيقى أو المسرح، في المعرفة كما في الأدب. وبما أن جهاز الدولة قتل المجتمع المدني، وأن هذا المجتمع أعطى رقبته للذبح والتذّ بموته، فلا أرى الآن خروجاً من المأزق».
بيبلوغرافياولد محمد هشام جعيط في 6 ديسمبر 1935 في العاصمة التونسية، وحصل على الدكتوراة في التاريخ الإسلامي من جامعة السوربون بباريس عام 1981. عضو الأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون، كما تولى رئاسة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة) بين عامي 2012، 2015.المؤلفات والصادرة عن دار الطليعة في بيروت ..«الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» 1984، «الكوفة: نشاة المدينة العربية الإسلامية» 1986، «الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر» 1992، «أزمة الثقافة الإسلامية» 2000، «تأسيس الغرب الإسلامي» 2004، «أوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة» 2007، «في السيرة النبوية: الوحي والقرآن والنبوة» 1999، «في السيرة النبوية: تاريخية الدعوة المحمدية» 2006، «في السيرة النبوية: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام» 2014.حصل جعيط على العديد من الجوائز المحلية والدولية، منها .. الجائزة الوطنية للعلوم الإنسانية، تونس 1989. جائزة سلطان بن علي العويس للدراسات الإنسانية، الإمارات العربية 2007. الميدالية الذهبية للدراسات الاجتماعية، تونس 2015. درع الكومار الذهبي للكتابة الإبداعية، تونس 2016. جائزة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان 2016. ووسام الجمهورية التونسية.
تابعوا Tunisactus على Google News