مصر التي في خاطري – آية الأتاسي
نشر فى :
الثلاثاء 9 يناير 2024 – 7:50 م
| آخر تحديث :
الثلاثاء 9 يناير 2024 – 7:50 م
تمضى سنة 2023 محملة بالمآسى والأحزان، وإن كان لى أن أتذكر حدثا سعيدا على المستوى الشخصى، فهو بلا شك زيارتى الأخيرة إلى مصر. مصر التى فى خاطرى أعادتنى صبية، فالمدينة التى لا تشيخ، تصيب بالعدوى، وهى مصر التى وصفها الشاعر أحمد فؤاد نجم: الزمن شاب وأنت شابة.. هو رايح وأنت جاية. أو لعله لطف المصريين السكر زيادة، فالأسطورة تقول إن بانى مصر فى الأصل كان حلوانى.وهل لحلاوة اللهجة المصرية من مثيل، وهى تدغدغ أذنك بنعومة وخفة، كخفة دم أولادها وحفاوتهم.لم تكن عبارة عادية، تلك التى قالها لى الرجل المسن: لو سمحت ما تقوليش لاجئين سوريين، دول أهلنا، اشتغلوا هنا وعمروا، زينا تمام ويمكن أحسن. عبارة لا ينفع بعدها أى كلام، لذلك سكت عن الكلام المباح وأمامى أبواب القلب تفتح على مصراعيها، والمحبة تأتينى من دون مجاملة أو ادعاء، فالمجاملات تنفع ربما للخواجات، ونحن من أهل البيت، أو هكذا يهيأ لنا من ألفة المكان، التى تبدد أى إحساس بالغربة. وكيف لمصر أن تكون غريبة، وقد تربينا على سينماها وموسيقاها، ودغدغت آباءنا يوما أحلامها بالقومية العربية. «من دمشق هنا القاهرة»، قالها يوما المذيع السورى عندما قصفت محطة «صوت العرب» فى سنة 1956، اليوم أشعر أن الآية قد قلبت، ومن القاهرة يصدح صوت أثير قائلا: من القاهرة هنا دمشق. وها أنا أمشى فى شوارع القاهرة التى لا تقهر، لا أتبع قدمى بل أقتفى أثر القلب، أغمض عينى، وأتخيل نفسى أسير بين سطور السكرية وقصر الشوق، أو أعبر بين القصرين لنجيب محفوظ. ثم أفتح عينى على اتساعهما، فأرى عبر نظارة وردية الكون أشبه بمسلسل ليالى الحلمية. أما تلك الوجوه السمراء التى تحيينى بود، فتجعلنى بلا وعى أردد أبيات الأبنودى: يا أم العيون الدفيانين، لو تعرفى من فين سمار النيل؟ومن على شرفة الفندق المطلة على النيل، أدندن للعندليب الأسمر أسمر يا أسمرانى، ويهيأ لى أنها كتبت للنيل الأسمرانى، وهل لون النجم الأجمل أحمد زكى، سوى من طمى النيل ومائه.ويأتينى عبر الراديو صوت محمد منير، عذبا كمياه النهر الخالد، والصوت يعلو بالغناء، ما دامت الأغانى لسه ممكنة. وأشعر بالحياة تدب فى شرايينى كلها، وأنا جارة للنيل.وأستعيد البيت الشعرى لأمل دنقل: تعبر القطرة فى النيل فمن حولها الرقص وأعياد الخصوبة. ولكن السؤال يعاودنى من جديد: لماذا أعادتنى مصر صبية؟ هل نظرت فى مرآة النيل فأطربنى غزلا مباحا، كدت أنساه مع السنين التى عبرت مسرعة بين الحاجبين. هل شربت مع مياهه إكسير الشباب؟ أم هو ببساطة إحساس السعادة، الذى جعلنى أكثر شبابا وخفة، وجعلنى أدور حول نفسى كالمتصوف يدور حول كلمة الله، درت ودرت… وفجأة توقف الزمن على صبية فى العشرين يطربها صوت الست وهى تغنى: جددت حبك ليه؟، وتنتشى لصوت عبدالوهاب يغنى، يا مسافر وحدك وسايبنى. وهل الحب سوى بليغ حمدى يبدع لوردته لحنا يقول: قد العيون السود بحبك، وانت عارف أد إيه كثيرة وجميلة، العيون السود فى بلدنا، يا حبيبى.• • •وحدة ما يغلبها غلاب. أدور وأدور، وأعود طفلة فى الخامسة من عمرها تترك عالم الصغار مبكرا، عندما تكتشف سندريلا أجمل ما فى عالم الكبار، تغنى للواد الثقيل يلى عاجبها، وعمره ما حيغلبها. أليست سندريلا الشاشة سعاد حسنى، التجسيد الأجمل للوحدة يلى ما يغلبها غلاب، وحدة بين أب سورى وأم مصرية، العيون السود متكحلة سحر وشقاوة، والضحكة الحلوة توعد بحاجات حلوة.وها أنا أقف حرفيا فوق الأهرام، وقدامى بساتين الشام. وفى يدى كوكتيل يسقى الروح والذكريات، فى مزيج من المنجا مصرية والمشمش الشامى.ولطالما كانت مصر ملاذا للروح السورية، منذ لجأ إليها أبو خليل القبانى بحثا عن خشبة مسرح وحرية، ومنذ جاءها المطرب فريد الأطرش وسلمها القلب ومفتاحه. حبينا، حبينا، حبيناكى حبينا.. لو ما حبينا عيونك، لا تعذبنا ولا جينا.يأخذنى اللحن بعيدا، فأدور وأدور وأترك الموسيقى تحفر خصرى، وإيقاعات الروح تعزف على مقاس الصبا والجمال. وأستعير عود سهير زكى الميال فى عزفها المنفرد، ألم يقل عنها عبدالوهاب لأم كلثوم، عندما شاهدها لأول مرة ترقص على أغنية أنت عمرى. «يا ست الكل، أنت تغنين بحنجرتك وهى تغنى بجسدها»؟أدور وأدور، والدنيا رقصة وتنورة بألوان الفرح تحلق بى إلى التجلى، بينما القدمان ثابتتان على الأرض والروح تلامس السماء. وأقول لنفسى الراقصات الأجنبيات، رغم قدهن الممشوق لكنهن يبدين كالدخيلات على الرقص البلدى، قد يستطعن تعلم أبجديات الرقص الشرقى وتقنياته، لكن كيف يمكن تعلم خفة الدم المصرية، وإحساس يشبه إحساس سهير زكى عندما تضبط إيقاعات الكمنجة بوسطها.قال لى سائق التاكسى المصرى: عندما سألته عن رأيه بالراقصات الأجنبيات: أنا عاوز أشوف فن جميل، وليس جسدا جميلا وحسب. لقد ولى زمن الفن الجميل، الذى يرتقى فيه جسد الراقصة بالإحساس الصادق والفن الأصيل، وتتوارى أمامه الغرائز والشهوات.أدور وأدور والدنيا غنوة، حتى النيل يغنى ويهدر فى رأسى، ليس نهرا بل بحرا بلون الأرض وعرق الناس، وقد استعاد فى مصر عذوبة مياهه، ألم يكتب عنه الشاعر أمل دنقل: سقى النيل.. ظمأ البحر إذا ما مد كوبه.مصر يا أم طرحة وجلابية. وملاية تلف وتدور، وترسم منحنيات الأنوثة التى تبدأ ولا تنتهى. كل البدايات جميلة، وكل شىء يبدأ فى مصر، هناك تولد الثورات، الأحلام، الانكسارات، والخيبات…تعبر بى سيارة الأجرة ميدان التحرير، وعيونى تبحث عن بقايا ثورة، والرياح الربيعية قد عصفت بأرواحنا ولم تهدأ.• • •مصر يا لذيذة ومزاجية. تارة أنت حنونة كأم الدنيا، وتارة مغرية كجسد هند رستم، وتارة أخرى شهية كطبق أم على، وتارة لاسعة كطبق من الكشرى الحار. ورغم أن المصريين يحبون المطعم الشامى، وهذا يفسر ربما انتشار المطاعم السورية كالفطر فى كل مكان، لكن الملوخية المصرية تتفوق على الشامية، ربما بسبب الشهقة التى ترافق طهيها، أو لعلها التعويذة التى يبارك بها الطهاة الملوخية الملكية: ملحك سكرك، وكل من ذاقك يشكرك.وأنا أيضا شكرت وتناولت الكثير من الملوخية، كما ملأت حقيبة السفر بالكثير من أوراقها، من دون أن أسأل عن أصلها وفصلها، فرعونية أو فاطمية، المهم أن طعمها يبقى على اللسان، مادامت تطهى بكثير من توابل الحب والعشرة.ما هى إلا ساعات قليلة وأغادر القاهرة، وفى داخلى شوق إلى المزيد، القاهرة كمان وكمان أقولها لنفسى متذكرة فيلم «اسكندرية كمان وكمان» ليوسف شاهين. ولا بد من وجبة مصرية خالصة قبل الفراق، فأطلب طبقا من الفول المدمس، وشاى بالنعناع يظبط الرأس على المزاج المصرى، وأنتظر قبل أن أدفع الحساب، أن يقول لى النادل: نورتينا يا ست الكل، عاوزة حاجة ثانية؟ أشكره، وأبتسم على جرعة لطف إضافية، أجمعها كزوادة طريق للسنوات القادمة القاحلة.نظرة أخيرة على النيل الذى يعبر شرايينى معاكسا اتجاه الدم، وفى الخلفية موسيقى «بلاش تبوسنى فى عينى»، أو هكذا يخيل لى.• • •وداعك كان تسليما على. أتمم إجراءات المغادرة، وأنا مدركة تماما إن مصر لا تغادرك، وإن غادرتها. فى مقهى المطار، أضع السماعات فى أذنى، فيأتينى صوت الست: بعيد عنك حياتى عذاب، لعلها الأغنية التى تليق بوداع البهية.لا شىء يقطع على مناجاتى الداخلية، سوى صوت النادلة الشابة تسألنى بالإنجليزية عن طلباتى، فأرد عليها بمصرية مكسرة، تبتسم وتسألنى: هو الجميل من فين؟ من سورية؟، أقولها بثقة لا أمتلكها إلا فى أرض الكنانة. ولعلى أدرك مسبقا ما سيعقبها من عبارة ترحيب لطيفة: أجدع الناس.هى ربما كليشيه تقال للجميع، لكننى أحس برقتها فى كل مرة، وخصوصا عندما تصاحبها عبارة حميمية، من قبيل: قلوبنا مع الشعب السورى، الله يفرجها عليكم. وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث، حديث من القلب للقلب، وبلا مقدمات كثيرة. قالت لى النادلة الشابة: أنا أيضا اسمى آية، هى إذن قرينتى المصرية. وهى دقائق قليلة متبقية على مغادرة الطائرة، لكن آية المصرية تكتب لى رقمها على ورقة. أمانة، لو احتجت أى حاجة، اتصلى بى. أشكرها وأخبرها أننى سأغادر للأسف بعد دقائق. «عندما تعودين»، تجيبنى ببساطة الماء.ودعتها وأنا على يقين من حدسها، فمن يشرب من ماء النيل، لابد أن يعود. إلى اللقاء المقبل إذن يا ست الكون، وقد كان وداعك لى، تسليما حارا على.
#مصر #التي #في #خاطري #آية #الأتاسي
تابعوا Tunisactus على Google News