ملف خاص.. النخبة المغاربية (الجزء السابع): تونس القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين
الجيل الأول: النصف الأخير من القرن التاسع عشر
بعد الحلقات الخمسة الأولى، قادني خط السير، الذي تبلور عبر تلك الحلقات ولاسيما الحلقة الخامسة، إلى تونس كأول محطة مغاربية واضحة المعالم من حيث تشكل نخبتها القومية المؤسسة للدولة الحديثة.
في الجزأين السابقين، الخامس والسادس (الأسبوع المغاربي، العدد 1001 و100)، ووفق فلاديمير، في كتابه حول النخبة المغاربية وفي ضوء المعطيات والسياقات التاريخية، نجد خير الدين التونسي هو الأب المؤسس للنخبة التونسية الحديثة، نظريا من خلال كتابه “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”، وميدانيا من خلال منصبه السياسي وتأسيسه للمدرسة الصادقية التي امتازت، وفق فلاديمير، بمحاولة الجمع بين روح التراث والحداثة الغربية ومثلت نموذج الأنتليجنسيا الاندماجية أحسن تمثيل، فلم يكن غرض هذه النخبة، بسبب رقيّها الاجتماعي، نقد المستعمر أو مقاومته بقدر ما كان غرضها الأساس إيجاد مناطق تلاق بين الثقافتين: الأهلية والاستعمارية. وتكمن قيمة هذه النخبة في خلق توترات سوسيو-ثقافية وضعت العلاقة بين الأهالي و”المعمرين” في حالة اختبار للاندماجية باء بالفشل.
وكما سنرى في هذا الجزء (الأسبوع المغاربي، العدد 103) أنّ الجيل الأول من النخبة التونسية، تميز بالتواصل بين فاعليه وأن المدد المعرفي، رغم كل المصاعب، كان ينساب بسلاسة بين شبكة من المثقفين إما عبر التتلمذ أو عبر العلاقات المهنية والعلمية، كما أن العلاقة بين الجيل الثاني والجيل المؤسس اتسمت بالتواصل والتفاعل والامتداد، فضلا عن تلاقح الأفكار المغاربية في السيرورة الإصلاحية وتفاعلها مع محيطها المشرقي.
وفضلا عن خير الدين هناك أسماء أخرى شكلت النواة المؤسسة للجيل الأول من النخبة التونسية من ضمنهم:
أحمد بن أبي الضياف
أحمد بن أبي الضياف (1803/1874)، سياسي ومؤرخ وإصلاحي تونسي. تفيد المعطيات التاريخية أنه ينحدر من قبيلة ناصرت حسين بن علي باي تونس الأول (1705/1735) الذي يمكن وصفه بالمؤسس القومي للمملكة التونسية التي خرجت من صلبها الحركة الإصلاحية. استقر والده بتونس العاصمة صغيرا، ودرس بجامع الزيتونة، ثم اتخذه المملوك عثمان قايد قفصة كاتبا له وانتقل منه للعمل بصفة رئيس للكتبة لدى الوزير يوسف صاحب الطابع. أما أحمد بن أبي الضياف فهو الابن البكر والولد الوحيد للحاج بالضياف. حرص والده على أن يتلقى ابنه تكوينا يؤهله ليحتل وظيفة في دولة البايات. فحفظ القرآن في كتّاب سيدي بن عروس، ودرس بجامع صاحب الطابع وبالمدرسة التابعة له وبجامع الزيتونة وبمدارس أخرى على أهم مشائخ عصره من أمثال المفتي المالكي إسماعيل التميمي وإبراهيم الرياحي والمفتي الحنفي محمد بيرم الثالث ومحمد بن الخوجة وأحمد الأبي والشيخ محمد بن ملوكة.
لا شك أن أهم ما كتبه ابن أبي الضياف هو كتابه الضخم في التاريخ والمعنون بإتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، والذي خصصه لتاريخ تونس إلى عصره. وبالإضافة إلى ذلك فقد حرر ابن أبي الضياف أيضا المراسلات الرسمية لمختلف البايات الذين خدمهم، وكتب بعض القصائد التي جمعها محمد السنوسي في كتابه مجمع الدواوين التونسية. كما أجاب ابن أبي الضياف عن 21 سؤالا توجه بها إليه عام 1856 القنصل الفرنسي ليون روش وضمنها تحت عنوان الأجوبة الأروباوية، وأصدرها المنصف الشنوفي في حوليات الجامعة التونسية تحت عنوان رسالة أحمد بن أبي الضياف في المرأة وذلك عام 1968، وهي تتناول وضعية المرأة المسلمة، وقد دافع في أجوبته عن وضعية المرأة في الإسلام، من زاوية تتسم في عمومها بالمحافظة.
عيّنه محمد باي في لجنة تحرير “عهد الأمان” الذي يمنح سكان البلاد حقوقا تكون قاعدة لدستور. فكان الوحيد ذا التكوين الفقهي في هذه اللجنة بعد أن استقال منها كلّ المفتين والقضاة. واختير أيضا رئيسا للمجلس الوقتي الذي هو عبارة عن لجنة أحدثت للفصل في القضايا بين التونسيّين والأجانب.
إلاّ أنّ ثورة علي بن غذاهم سنة 1864 وتعطل مؤسسات الدولة ومنها المجلس الأكبر جعلت أحمد بن أبي الضياف في قائمة الوزراء الذين طلب القنصل الفرنسي دي بوفال إقصاءهم ورضخ الباي للطلب. ولكنّه عاد مجدّدا إلى النشاط السياسي مع خير الدين التونسي الذي رشّحه لعضويّة اللجنة المكلّفة بمراجعة حسابات أحمد زروق في يوليو 1869. وتمّ تعيينه مستشارا أيضا للقسم الثالث من الوزارة الكبرى إلاّ أنّه استقال في يناير 1872 لأسباب صحّيّة ولزم بيته ليتفرّغ للكتابة.
من خلال كتاباته يظهر تعلق ابن أبي الضياف بالأفكار الإصلاحية وخاصة ما يتعلق منها بنظام الحكم حيث نقد حكم الإطلاق المنافي للشرع وللعقل، وأن الإطلاق لا يقود إلا إلى الظلم. داعيا إلى تقييده بالشرع ونوه في نفس الإطار بالتنظيمات مبينا جدواها ومحاولا الإقناع بالحجج المختلفة والعديدة بضرورة تطبيق الإصلاحات لوضع حد للشهوة الملوكية المطلقة وبالتالي لفساد الحكم وظلم البايات وعسف العمال. وقد حرص ابن أبي الضياف على تقديم الدليل القاطع على أن الأبرياء يذهبون ضحايا للملك المطلق وأن الظلم مرتعه وخيم ويجر إلى نقص العمران واختلال شؤون الدولة وفساد الأحوال الاجتماعية وتدهور الاقتصاد بينما العدل يؤدي إلى ازدهار العمران ويمهد طرق الثروة الاقتصادية والأمن الاجتماعي.
محمود قابادو
محمود قابادو (1815/1871) هو المصلح الحداثي الشّيخ محمود بن محمّد بن محمّد بن عمر قابادو الذي كان غالبا ما يمضي كتاباته باسم محمود الشريف. ويبدو أنه كثيرا ما كان يستعمل صفة “الشريف”، وهي صفة كان يستعملها المهاجرون القادمون من الأندلس أو من المغرب. ويبدو من دراسة أجيال “الأشراف” أنّ أغلبهم ينتمون إلى منطقة”الساقية الحمراء”. أمّا عائلة قابادو فأصلها من الأندلس. ولعلّها هاجرت إلى تونس سنة 1609 في عهد عثمان داي. واستقرّت في أوّل الأمر بصفاقس حيث ولد أبوا محمود قابادو وتزوّجا. ثمّ تحوّلا إلى تونس العاصمة حيث ولد محمود سنة 1815.
تربّى حينئذ في مدينة تونس وحفظ القرآن في الكتّاب، وشغف بمطالعة الكتب الصوفيّة وفي طليعتهم ابن عربي. وكان عصاميّا، لأنّه رفض مزاولة دروس نظامية أو الامتثال للانضباط المدرسي. وكان يتسكّع في مدينة تونس، وهو أشعث الشعر، رثّ الثياب، حافي القدمين.
كان للشيخ محمود قابادو تلاميذ مشهورون في مدرسة باردو وجامع الزيتونة، واصل ربط علاقات حميمة ومتينة بهم بعد أن أتمّوا دراساتهم وأصبحوا يحتلّون مناصب سامية في الادارة التونسية، في مختلف الميادين. ولئن لم يكن خير الدين من تلاميذه، فقد تعرّف إليه في مدرسة باردو وربطته به علاقات وديّة للغاية. ذلك أنّ الرجلين كانا من مؤيّدي الأفكار التحديثيّة الاصلاحية التي دافع عنها خير الدين في كتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك. وكان قابادو متحمّسا لدعوته الاصلاحيّة المستلهمة من التراث السياسي الغربي الحديث. أمّا الجنرال حسين فقد تتلمذ لقابادو في مدرسة باردو، وهو الذي حرّضه على نقل بعض الكتب الفرنسيّة إلى اللغة العربيّة. وقد كان حسين مثل خير الدين يعرف جيّدا الأقطار الأوروبيّة التي تحوّل إليها للقيام ببعض المهامّ الرسميّة. ولذلك كان يستطيع إحاطة الباي علما بالحالة التي كانت عليها تلك الأقطار وبما بلغته من تطوّر. وقد عيّن في سنة 1858 رئيسا لبلديّة مدينة تونس، ثم أصبح في سنة 1874 وزيرا “للمعارف والنافعة” (التعليم والأشغال العامة)، لمّا أصبح خير الدين وزيرا أكبر. ولمّا تولّى مسؤوليّة إدارة جريدة “الرائد” عند ظهورها سنة 1860، عهد برئاسة تحريرها إلى شيخه قابادو.
سالم بوحاجب
سالم بوحاجب (1824/1924)، كان قاضيًا وإمامًا ومصلحًا تونسيًا. لقد كان الشيخ سالم بوحاجب من رواد الإصلاح ومن أئمة الاجتهاد البارزين لا في تونس فحسب بل في العالم الإسلامي، كما شهد بذلك أعلام عصره وفي طليعتهم الشيخ “محمد عبده”. وبحكم علمه ودرجة اجتهاده وعلو شأنه، فإن الشيخ سالم بوحاجب يكون قد تعرض للغبن والتهميش، ولعلّ جهات معينة قد عملت على التقليل من دوره والنيل من شأنه خوفا من جرأته ومن شجاعته التي كثيرا ما كانت تزعج السلطات والجهات المرتبطة بها. وهذا ليس غريبا، فالشيخ سالم كان جريئا في شروحه وفي اتصالاته، وكان كذلك على المنبر في خطبته الجمعيّة حيث كان طليعة المجددين وكان الناس يتدافعون للصلاة في مسجده للاستماع إلى محاضراته وخطبه، لقد كان الشيخ سالم بوحاجب أول من جدد مضامين الخطبة المنبرية، ولم يسبقه أحد لذلك فكان أول من طور نص الخطبة ليعالج المشاكل الاجتماعية وقضايا الشعب وتحليل الظواهر المختلفة، وتوجيه الناس ونقد المعاملات وإصلاح أحوال الناس وعلاقاتهم ببعضهم وتمتين الروابط وكان لا يتردد في الإشارة إلى أهم الأوضاع السياسية تصريحا وتلميحا. ويمكن القول أن خطب اليوم إنما وضع إطارها العام ونموذجها في طرح قضايا الناس وتحليل مشاغلهم الشيخ والإمام المجتهد سالم بوحاجب. وتذكر عديد المصادر أن الشيخ كان من أبرز المحررين لكتاب “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” للوزير خير الدين التونسي الذي كان الشيخ بوحاجب من أبرز المساندين والمساعدين له مع الشيخ محمد السنوسي والشيخ محمد بيرم الخامس والجنرال حسين وغيرهم.
محمد بيرم الخامس
محمد بيرم الخامس (1840 1889)، عالم دين ورحالة ومؤرخ وكاتب وصحفي وإصلاحي تونسي. ووفق المعطيات المتداولة، هو أحد الفاعلين في الحركة الإصلاحية ومن معاصري خير الدين التونسي وأحمد بن أبي الضياف ومختار شويخة ومحمد السنوسي وسالم بوحاجب الذي دافع عن فكرة الحداثة.
محمد بيرم الخامس من أصول تركية، من وسط أرستقراطي اشتهر بالفقهاء. عائلة بيرم تمثل إحدى أهم العائلات الحنفية في تونس. والدته هي ابنة محمود خوجة، وزير البحر الأسبق تحت حكم أحمد باي الأول. والده اهتم أكثر بالفلاحة من الثقافة العلمية والدينية.
واصل دراساته في جامع الزيتونة أين تعلم القرآن والتفسير والحديث، وكان أستاذه سالم بوحاجب. والده أراد تسجيله في مدرسة باردو الحربية، حيث تخرج منها كبار القادة السياسيين والموظفين، ولكن عمه محمد بيرم الرابع وجهه لتعلم اللغة والبلاغة. انتقل بعدها للتاريخ واستطاع تعميق معرفته عبر مجموعة الكتب الكبيرة التي تركها عمه والذي خلفه كمدرس في جامعة الزيتونة عند نهاية دراساته.
في 1875، وبسبب آرائه الإصلاحية والتقدمية، أعطاه خير الدين التونسي قيادة المطبعة الرسمية للبلاد التونسية التي تصدر الرائد التونسي (حاليا الرائد الرسمي للجمهورية التونسية) والتي أسسها خير الدين باشا ومحمود قابادو ومختار شويخة، وخلف بذلك الجنرال حسين. من جهة أخرى، عهد إليه بتنظيم المكتبة العبدلية. في 1876، سافر إلى فرنسا وإيطاليا للعلاج، وعند عودته سنة 1877 تم تعيينه على رأس المستشفى الصادقي، وبعد استقالة خير الدين، تمسك به كل من الوزيرين الأكبرين محمد خزندار ومصطفى بن إسماعيل. في 1879، عين عضوا في المجلس الدستوري رفقة العربي زروق.
عند انتصاب الحماية الفرنسية في تونس في 1881، غادر تونس للاستقرار في إسطنبول. في 1884، سافر إلى مصر أين أسس صحيفة «الإعلام» (أو «الإعلام بحوادث الأيام ومقتضى المقام بعلوم الإسلام ونصائح الأنام»). في 1888، تولى منصب القضاء في محكمة مصر الابتدائية الأهلية. توفي في ديسمبر 1889 في مدينة حلوان، ودفن في القاهرة.
تميز بفكر منفتح وحديث، وحمل هم النهضة وانتقد حالة الجمود التي تعيشها الأمة، وكان مولعا بتحقيق الإصلاح السياسي. دعا إلى اعتناق مبادئ الإصلاح والتمسّك بالأصالة والانفتاح على الآخر في ذات الوقت، وطالب بالحكم القائم على الشورى والعدل.
إلى جانب كتابه “صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار”، نشر محمد بيرم الخامس العديد من المذكرات التي يسرد فيها انطباعاته واقتراحاته للسياسة في الدول العربية والإسلامية، بما في ذلك تونس. من بين مذكراته، يوجد مقال نشره في مايو 1888 في صحيفة مصرية وعنوانه المقتطف، حيث أكد على وجه الخصوص على أهمية اعتماد نظام الديمقراطية الدستورية الأوروبية في البلدان العربية الإسلامية، مع الأخذ بعين الاعتبار واقع هذه البلدان، دون تطبيق هذه الأنظمة حرفيا ومحاولة تطويعها مع الواقع. وأضاف أيضا إنه «من أجل الديمقراطية، ينبغي المضي قدما في انتخابات أعضاء المجالس المحلية والإقليمية».
محمد السنوسي
محمد السنوسي هو محمد بن عثمان السنوسي (1851/1900). هو الفقيه والأديب محمد بن عثمان بن محمّد المهدي السنوسي، من وسط ذاع صيته في مجال العلم والقضاء. وقد أخذ السنوسي العلم عن كبار مشايخ جامع الزيتونة ممّن كان لهم دور في ظهور الحركة الاصلاحية التّحديثية وتطوّرها بتونس في القرن التاسع عشر من مثل الشيخ سالم بوحاجب ومحمود قابادو والمفتي الحنفي أحمد بن الخوجة والمفتي المالكي صالح بن فرحات، زيادة على الشيخ عبد القادر البارودي الذي أخذ عنه السنوسي الطريقة القادريّة. له مؤلفات متنوعة في الأدب والقانون والتاريخ والدين. وهو والد الصحفي والمصلح زين العابدين السنوسي.
المدرسة الخلدونية
بعد عشرين عاما من المدرسة الصادقية (1875)، وبعد 15 عاما على الحماية (1881)، نشأت المدرسة الخلدونية (1896) في تونس العاصمة. أنشأها مثقفون صادقيون وزيتونيون بقيادة بشير صفر. وكان الهدف من تأسيسها إعطاء ثقافة علمية في وسط المجتمع الثقافي العلمي وخصوصا خريجي جامع الزيتونة ذلك لأن تعليمهم ديني فقط. كان يدرس فيها علوم الجغرافيا والرياضيات والحقوق بالإضافة إلى اللغة الفرنسية والعربية. واعتمدت في تمويلها على هبات وتبرعات أعضاء حركة الشباب التونسي. وفي 20 سبتمبر 1903م، زار المدرسة المجدد والمفكر محمد عبده وأعطى محاضرة فيها.
حركة الشباب التونسي (1907/1912)
وعبر هذه المدرسة، عرفت النخبة التونسية نفسا جديدا، وعرفت تونس حراكا إعلاميا، ثقافيا، علميا، وسياسيا. ومن رحم هذا الحراك نشأت حركة الشباب التونسي، الحركة القومية التونسية التي أسسها نفس مؤسسي المدرسة الخلدونية: في مقدمتهم علي باش حامبة وبشير صفر وعبد الجليل الزاوش وخير الله بن مصطفى إلى جانب زيتونيين مثل الشيخ عبد العزيز الثعالبي. جاءت حركة الشباب التونسي في سياق حركة الإصلاح التي نشأت مع نخبة الجيل الأول. وكانت تريد أن تكون صوت «سكان تونس الأصليين» في وجه المستعمر.
وانتهت هذه الحركة بسبب الأحكام العرفية عام 1912 إثر مقاطعة ترام تونس التي ولّدت وضعا احتجاجيا دفع السلطات الفرنسية إلى قمعه بنفي عدد من أعضاء الحركة، فتوقفت المنابر الإعلامية وكل مظاهر النشاط طيلة أعوام الأحكام العرفية. كانت مقاطعة ترام تونس عاملاً أساسياً في تطور الحركة القومية التونسية من ناحيتين، حيث أعطت تجربة العمل الجماعي التونسيين وعيًا سياسيًا أكبر وساعدت على تعزيز الاستعداد للعمل من أجل أهداف اجتماعية وسياسية أكبر. كما أن المنفيين حين عادوا إلى تونس بعد الحرب العالمية الأولى أعطوا نقلة نوعية في النضال والتنظيم السياسي الذي تكلل بنشأة الحزب الحر الدستوري (1920)، الذي قاد الحركة التي ضمنت استقلال تونس (1956).
يعتبر الحزب الحر الدستوري التونسي تطورا لحركة الشباب التونسي التي نشطت وتعرضت إلى القمع قبيل الحرب العالمية الأولى. وبعد تلك الحرب ساهمت جملة من العوامل الداخلية والخارجية في ظهوره من بينها على مستوى عالمي الإعلان عن مبادئ الرئيس الأمريكي ولسن الداعية إلى تحرير الشعوب وحقها في تحرير مصيرها بالإضافة إلى تنامي حركات التحرّر في العالم.
كما سمحت فترة ما بعد الحرب، للوقوميين التونسيين بالتحرك والتقدم بعدد من المطالب القومية. وقد التفتت المجموعة حول كتاب تونس الشهيدة الذي صدر آنذاك بباريس بإمضاء الشيخ عبد العزيز الثعالبي. والمؤسسون هم بالإضافة إلى الشيخ الثعالبي : صالح فرحات ومحيي الدين القليبي وأحمد توفيق المدني وأحمد الصافي وأحمد السقا وعلي كاهية وحمودة المنستيري والحبيب زويتن.
النخبة التونسية في جيلها الثاني
إذا سلمنا أن الجيل الأول من النخبة التونسية التي أسست لتونس الحديثة مثّلها خير الدين التونسي و أحمد بن أبي الضياف ومن عاصرهما في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، فإن الجيل الثاني لمعت في سمائه عدة نجوم بداية القرن العشرين، لعل أبرز أسماء هذا الجيل:
– علي باش حانبة، مارس الصحافة والمحاماة ويعد من أحد الشخصيات المؤسسة للحركة القومية التونسية ومن مؤسسي حركة الشباب التونسي. بدأ نشاطه الاجتماعي والسياسي سنة 1906، عندما إنخرط في “جمعية قدماء المدرسة الصادقية” وأصبح من قيادييها رفقة البشير صفر. وهكذا راح يدعو إلى النهوض بالتونسيين لتعميم الحداثة وتوجيههم توجيها قومياً، وإتخذت دعوته أسلوباً عملياً منظماً من خلال المساهمة في بعث منابر جديدة للحوار و التبليغ منها و تنظيم عدة ندوات.
كان رئيس تحرير (التونسي)، أول جريدة تونسية تصدر باللسان الفرنسي. كان يطبع منها 2500 نسخة وكانت 250 نسخة منها توزع مجانا في عدة بلدان أوروبية وعربية كفرنسا وتركيا ومصر وأمريكا وألمانيا ..، آخر عدد منها صدر في 13 مارس 1912.
إثر حالة الطوارئ، نفي علي باش حامبة والشيخ عبد العزيز الثعالبي ومحمد نعمان إلي مارسيلية، ونفي حسن القلاتي إلى الجزائر، أما الصادق الزمرلي و الشادلي درغوث فقد أبعدا إلى تطاويين بالجنوب التونسي. بينما تعرض العديد إلى السجن والمحاكمة وسيق عدد منهم إلى الإعدام بعدما أعلنت السلطات الاستعمارية حالة الطوارئ التي رفعت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتحديدا سنة 1921 .
لم تعمر حركة الشبان التونسيين أكثر من خمس أو ستّ سنوات لكنها جمعت نخبة تونسية تحملت مسؤولية النطق باسم الأهالي والتعبير عن مطالبهم الإصلاحية فعبدت بكتاباتها وأنشطتها وتضحياتها الطريق لتأسيس أول حزب سياسي بعد الحرب أخذ منها مشعل التحرر الوطني وهو الحزب الحر الدستوري التونسي بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالي الذي شاركت في تأسيسه ثلة من التونسيين كان جلهم ينتمي إلى حركة الشباب التونسي.
– البشير صفر (1865/1917)، هو أحد قادة الحركة الإصلاحية التونسية حتى أنه لقب بـ”أبي النهضة التونسية” الثاني بعد خير الدين التونسي.
تأثر البشير صفر منذ شبابه بخير الدين كما تأثر بالشيخ سالم بوحاجب. وعندما قام الإصلاحيون التونسيون بإنشاء جريدة الحاضرة عام 1888 كان البشير صفر أحد محرريها، حيث اهتم بدراسة النظم السياسية والاجتماعية في أوروبا بهدف الحث على نبذ التواكل والتوفيق بين الأصالة ومستجدات العصر. كما ساهم البشير صفر عام 1896 في بعث الجمعية الخلدونية التي أسندت إليه رئاستها عام 1897. وقد ألقى على منبرها دروسا سلط فيها الأضواء على ما يتهدد العالم الإسلامي من أخطار وذاع صيته بفضل تلك الدروس بحيث أصبح متزعما للحركة الإصلاحية التونسية. وتقدم بعد ذلك بعدة مطالب لتخفيف الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يتخبط فيها التونسيون بما أثار سخط المعمرين الفرنسيين بتونس. وفي عام 1908 دعي للمشاركة في المؤتمر الاستعماري المنعقد بباريس فقدم خلاله بحثا حول مسألة الأوقاف الإسلامية أثار فيها تأثيرات الاستعمار الزراعي.
من مؤلفاته، محاضرته عن الجغرافيا عند العرب وقد ألقاها بتونس عام 1904 في مؤتمر الجمعية الجغرافية الفرنسية، ونشرت بالفرنسية في تلك السنة، ثم صدرت عام 1984 مع نصها المعرب عن دار الغرب الإسلامي في بيروت، وكتاب “مفتاح التاريخ” وقد أصدره ابنه مصطفى صفر عام 1928 ويضم دروس التاريخ التي ألقاها البشير صفر في الصادقية بين 1897 و1908، وكتاب “الجغرافيا” طبع عام 1898.
– عبد الجليل الزاوش (1873/1948 بتونس)، من وسط ثري، درس بمعهد سان شارل ثم الحقوق بباريس. عاد إلى تونس سنة 1900 وأسّس مكتبا للمحاسبة وانبرى يبيّن محاسن التعاضد للتجّار ويعمل على تأسيس الشركات خفيّة الاسم.
اهتمّ بالصحافة وكتب العديد من المقالات السياسيّة والاقتصاديّة، وكان عضوا في مجلس إدارة «الدبيش التونسيّة» (La dépêche tunisienne) وعضوا مستشارا في جريدة التونسي. تم تعيينه سنة 1910 عضوا بمجلس بلديّة تونس العاصمة وكانت له مواقف مشرّفة في إعانة المجاهدين بطرابلس وفي واقعة الجلاز سنة 1911. سميّ سنة 1917 عاملا بسوسة خلفا للبشير صفر، وتم عيينه سنة 1934 رئيسا لبلديّة تونس العاصمة، شيخا للمدينة. سمّي سنة 1935 وزيرا للقلم والاستشارة ثمّ وزيرا للعدليّة حيث بقي إلى سنة 1943.
– خير الله بن مصطفى (1867/1965 بتونس)، أحد عناصر الحركة الإصلاحية التونسية، وصحافي. هو ابن حسونة بن مصطفى موظف سام وأحد المقربين من خير الدين التونسي. درس خير الله بن مصطفى في المدرسة الصادقية، وكان من عناصر النخبة التونسية الإصلاحية والوطنية.
ساهم خير الله بن مصطفى في عدد من الجمعيات التي ظهرت بين أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث كان أحد العناصر المؤسسة للجمعية الخلدونية التي ظهرت عام 1896، ثم كان عام 1906 أحد مؤسسي وأول رئيس لجمعية قدماء الصادقية التي اعتبرت الأخت الصغرى «المتغربة» للجمعية الخلدونية. وقد ضمت وطنيين ومثقفين تونسيين من أمثال علي باش حانبة وعبد الجليل الزاوش وحسين بوحاجب والمحامي الجزائري الأصل حسن القلاتي.
– عبد العزيز الثعالبي (1874 /1944)، زعيم تونسي سياسي وديني. من القلائل الذين زاوجوا بين السياسي والديني، وبين المحلي والإقليمي والعالمي في عملهم؛ للتخلص من الاحتلال وظلمه والرفعة بالمجتمع والرقي به في الوقت ذاته. كان مناضلا بارزا ضد الاحتلال الفرنسي.
ولد عبد العزيز الثعالبي في مدينة تونس بالجمهورية التونسية. جده عبد الرحمن الثعالبي المجاهد الجزائري الذي هاجر إلى تونس رافضا العمل مع الفرنسيين الذين كانوا قد احتلوا الجزائر آنذاك. درس عبد العزيز في تونس. وبعد أن نال الشهادة الابتدائية التحق بجامع الزيتونة وتخرج حاملا شهادة التطويع وتابع بعد ذلك دراساته العليا في المدرسة الخلدونية انضم الثعالبي في مطلع شبابه إلى حزب تحرير تونس من الاحتلال الفرنسي وكتب في الصحف داعيا إلى الاستقلال والحرية. ثم أصدر صحف (المنتظر) و(المبشر) و(سبيل الرشاد). وقد عطلتها السلطات الفرنسية كلها لجرأة محررها ومقاومته للاستعمار. أنشأ الثعالبي الحزب الوطني الإسلامي الذي كان يدعو إلى تحرير العالم العربي كله وقيام الوحدة الشاملة.
وفق فلاديمير، وفي ضوء المعطيات المتوفرة، تعود قيمة الشباب إلى تعبيد الطريق أمام أنتليجانسيا صاعدة من جيل آخر امتازت بالقطيعة والثورية العاطفية: “إن الفتيان التونسيين والجزائريين والمغاربة هم رواد الأنتليجنسيا المعاصرة، وكانوا قليلي العدد ومليئين بالأوهام، لكن منهم ومعهم ولد في تونس والجزائر والمغرب نموذج حركة اجتماعية جديدة وغير معروفة من قبل، حركة من أجل إصلاح منظم وموجه للمجتمع في أبعاده الوطنية الشاملة وكانوا هم الأساس البشري والاجتماعي الجديد الذي دفع بحياته ونشاطه بالدرجة الأولى تلك المجموعات المتأخّرة في تطورها نحو التاريخ العالمي، مكسرًا الانغلاق ومتجاوزًا الإقليمية، وممزقًا التصورات البالية والعلاقات الاجتماعية الصلبة”.
لم يغادر الكاتب النموذج التونسي، على الرغم من بروز النموذجين الجزائري والمغربي، لكي يحلل الطريقة التي تشتغل بها الأنتليجنسيا الراديكالية الديموقراطية، ورأى بأن نموذج الدستور الجديد بقيادة أفكار بورقيبة شَكَّل سيمياء دالة على النخبة التي ساهمت في بلورة وعي بالكفاح استغلّت فيه كل الطرق لتصفية البلد من الاستعمار. إن الفرق بين النخبة التنويرية والنخبة الراديكالية المتحرّرة يكمن، حسب الكاتب، في البعد الاجتماعي، وبالضبط، في التمايز الطبقي بين النخبتين: “لقد كان الفتيان التونسيون يمثلون حركة الفئات العليا من المجتمع التونسي القديم التي لامست الثقافة الجديدة، أما الدستوريون الجدد، فهم أنصار للعناصر البرجوازية اللبيرالية واللبيرالية الشعبوية”.
#ملف #خاص #النخبة #المغاربية #الجزء #السابع #تونس #القرن #التاسع #عشر #وبداية #القرن #العشرين
تابعوا Tunisactus على Google News